ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها الإثنين 23 نوفمبر 2015, 9:03 am | |
| نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها
مقدمة تعرضت بيروت للخراب والدمار عشرات المرات في حقب متمادية وكان ذلك يحدث بفعل نوازل طبيعيّة تارة، وتارة أخرى بالهجمات الحربيّة التي كانت تشنها عليها الجيوش من كل حدب ومن كل صوب طمعاً بها أو انتقاما منها.
بيروت برهنت في صراعها مع النوازل الطبيعيّة وكذلك في مواجهتها للوقائع الحربيّة أنها أقوى من النكبات التي كانت تنزل بها واستطاعت أن تضمد جراحها وأن تنهض من تحت أنقاضها وتستأنف مسيرتها العُمرانيّة وانطلاقتها الحضارية من جديد بهمة أبنائها الذين لم يعرف اليأس الطريق إلى نفوسهم الأبيّة، كذلك هو شأنهم في الماضي كما هو شأنهم في الحاضر.
وهكذا ذهبت الكوارث والنكبات وبقيت بيروت مستمرة أبداً على طريق الحضارة.
أقدم حصار عرفته بيروت
ليس بين أيدينا مرجع تاريخي يخولنا الجزم بتعيين أقدم حصار عانته بيروت في الأزمنة السحيقة، إلا أن بعض المعلومات التي تناقلها المؤرخون حول الأحداث الحربيّة التي كانت بلادنا مسرحاً لها تشير إلى أن ملك بابل الكلداني نبوخذ نصّر لما حارب المصريين وأجلاهم عن البلاد السوريّة، إصطدم بمقاومة شديدة من أهل مدينة صور، ولما تمكّن من التغلب عليهم سنة 586 قبل الميلاد، اندفع بجيشه المنتصر شمالاً وصّب جام غضبه على المدن الساحليّة وجعلها قاعاً صفصفاً، ولم يتركها إلا وهي فريسة للدمار والخراب، وبالرغم من أنّ إسم مدينة بيروت بالذات لم يرد صراحة خلال تلك الأحداث إلا أن الكلام الذي تناول تلك الفترة يوحي بأن هذه المدينة أصابها آنذاك ما أصاب سائر المدن الساحليّة من التدمير والتخريب على يد الجيش الكلداني بقيادة ملك بابل نبوخذ نصّر.
وعلى هذا يكون نبوخذ نصّر الكلداني البابلي أول حاكم أجنبي أناخ بكل حصاره على مدينة بيروت ثم إجتاحها بجيوشه وأنزل بها الدمار والخراب.
|
عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأربعاء 09 ديسمبر 2015, 9:42 am عدل 1 مرات |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها الإثنين 23 نوفمبر 2015, 9:05 am | |
| نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها
الفصل الأول تريفون يحاصر بيروت في بداية العقد الرابع للقرن الثاني قبل الميلاد، كانت بيروت كغيرها من شقيقاتها الفينيقيّة تحت الاحتلال السلوقي «البيزنطي»، وفي سنة 143 قبل الميلاد إضطرب حبل الأمن في المملكة السلوقيّة عندما حاول ريودوتس الانقلاب على سيده أنطيوخوس السادس الصغير والانفراد دونه بالسلطة تحت لقب تريفون، وبالرغم من أن هذه المحاولة نجحت في بادئ الأمر، إلا أن مؤيدي العائلة الحاكمة وحدوا صفوفهم وتمكنوا من قتل تريفون بعد ثلاث سنين من حكمه وأطلقوا عليه لقب المختلس باعتباره مغتصباً لكرس الحكم الشرعي.وفي أيام تريفون المختلس هذا أُحرقت بيروت بأمر منه، وزيادة في النكاية فإنه أطلق جماعته يعملون في نقض بنيان المدينة من أساسه فأمست خراباً يخيم على أطلالها البوم، وينعق في أنقاضها غراب البين.وقد بقيت بيروت على خرابها آنذاك إلى حين زوال العهد السلوقي وقدوم الرومان إلى هذه البلاد، أي قرابة مائة سنة بالتمام والكمال، وفي خلال هذه السنوات العجاف خلت بيروت من سكانها الذين اضطروا لهجرانها والنزوح إلى الجهة الجنوبيّة منها حيث سكنوا بمحاذاة البحر في نفس المكان الذي يخترقه اليوم أوتوستراد خلدة، وذلك بالقرب من البناء الذي كان أبناء الجيل الماضي يسمونه خان خلدة الجديد، وقد أطلق البيروتيون المهجّرون آنذاك على المنطقة التي عمروها وسكنوها إسم (اللاذقيّة الجديدة) أو(لاذقية كنعان)، وردت كلمة لاذقية بالمراجع القديمة بلفظ (لأوذيسة) ومعناها مدينة، وقد قامت المديرية العامة للآثار قبل عشرات السنوات بحفريات تنقيبيّة في المكان المذكور، فظهرت أطلال هذه المدينة التي إستحدثها البيروتيون المهجرون وبجوارها المقبرة التي كانوا يدفنون فيها موتاهم.الزلازل والحرائق ترهق بيروت ما كادت بيروت تسترد أنفاسها بعد الذي أصابها من ويلات المتصارعين على النفوذ من الأجانب على أرضها في السنوات السابقة للميلاد حتى وجدت نفسها في السنوات اللاحقة للميلاد تترنح تحت ضربات الزلازل التي نشبت في أديمها وجعلت عالي أرضها سافلاً وسافلها عالياً، وحولت عمرانها خراباً، ولم توفر المؤسسات الحكوميّة ولا معاهدها العلميّة التي دفعت بدورها ضريبة هذه الزلازل من منشآتها التي كانت تضّم بين جنباتها أروع ما أبدعته أيدي الفنانين الرومان، كما كانت، في نفس الوقت، موئلاً للعلماء من الوطنيين والأجانب الذين كانوا مقصداً لطلاب المعارف الفلسفيّة والدراسات الفقهيّة والقانونيّة والأدبيّة.كان ذلك ما بين القرنين الرابع والقرن السادس بعد الميلاد، ففي سنة 349م مادت الأرض تحت أقدام البيروتيين الذين انقلبت مدينتهم رأساً على عقب، وجعلتهم بين دفين تحت التراب، هائم على وجهه يلتمس النجاة من هول المصاب، واعتقد بعض الناس أن الأرض زلزلت بهم عقوبة لهم على عبادة الأصنام وعدم الاستجابة للديانة النصرانيّة التي كانت تدعوهم للتخلي عن تلك الأصنام والدخول في سلك الإيمان بالله خالق الأكوان والأقوام، فأسرعوا إلى التخلي عن الوثنيّة واعتنقوا النصرانيّة، ولكن هذا التحول العقائدي لم يدم طويلاً، إذ أنه عندما استعادت الأرض البيروتيّة هدوءها واطمأنت القلوب الهالعة بعد إضطرابها، إنخلع المتنصرون من دينهم الجديد وانقلبوا إلى الوثنيّة السابقة بعد أن شابوها ببعض الرواسب النصرانيّة بحيث أصبحوا يدينون بمذهب جديد هو خليط مُلفّق بين النصرانيّة والوثنيّة.وفي السنوات 494 و 502 و 529 و 543 و 551م تعاقبت الهزات الأرضيّة على طول ساحل فينيقية، الساحل اللبناني اليوم، وكانت الهزات الأربع الأولى قليلة التأثير في بيروت بخلاف صيدا وصور اللتين مَدَّ عليهما الزلزال رواقه المدمر فإنهما خربتا تماماً وسُوّي ما فيهما من البنيان بالأرض ولم يبق فيهما عمار ألبتة.بيد أن الهزة الخامسة التي وقعت سنة 551م، كانت أوفر من سابقاتها تأثيراً وأشمل خراباً في بيروت بالذات، ونقل المؤرخون أن هذه الهزة دكت أبنية بيروت الشامخة وأصبحت هذه الأبنية قاعاً صفصفاً، وهلك تحت أنقاضها جمّ غفير من الأهلين الوطنيين والأجانب الساكنين فيها، وقيل إن عدد هؤلاء الهالكين قُدِّر يومئذ بنحو ثلاثين ألف نسمة ويزيد، وكانت الخسارة الكبرى خراب المدرسة الفقهيّة التي أنشأها الرومان في هذه المدينة إذ أن هذه المدرسة لم يكن حظها أسعد من حظ باقي الأبنية، فقد تهدمت وانفرط عقد الذين كانوا فيها من العلماء والمتعلمين، وأصبح هؤلاء وأولئك صرعى لا حراك بهم تحت أنقاض تلك المؤسسة العلميّة التي طالما ضجّت أروقتها بالمناظرات والمحاضرات.صحوة ما قبل النهاية بعد أن هدأت ثائرة زلزال 551م، دبّت الحياة من جديد في أنحاء بيروت عندما انصرفت همّة حكامها الرومان إلى مسح غبار الخراب والدمار عن بقايا معالمها ومؤسساتها، ونشطوا في إصلاح أبنيتها وترميم معاهدها العلميّة ومعابدها الدينيّة، وفي أثناء ذلك أعادوا إليها مدرسة الحقوق التي كانوا قد نقلوها موقتاً إلى صيدا بسبب الزلزال المذكور، وخيّل للناس أن مياه العمران عادت إلى مجاريها في مدينتهم المنكوبة نتيجة إصابتها بدوار الهزات الأرضيّة، وبالرغم من أن هذا الدوار الزلزالي أصابها في سنة 554م بعارض منه، إلا أنه هذه المرة لم يكن عنيفاً ولا شديد الوطأة عليها مما أتاح لهذه المدينة مواصلة مسيرتها العُمرانيّة، وبقيت مدرستها الحقوقيّة مشرعة الأبواب لقاصديها من العلماء والمتعلمين.بيد أن شراع حظ البيروتيين وجّه سير مدينتهم بما لم تشته سفن آمالهم وشلّت أيديهم عما كانوا قد أخذوا أنفسهم به من العمل من أجل إكمال بناء مدينتهم.في سنة 560م عصف حريق هائل أخذ شواظه اللاهب بتلابيب بيروت من كل حدب ومن كل جانب وإمتدت ألسنة النيران إلى كل ما فيها من الأبنية الخاصة والعامة، ولم تترك ما دخلت إليه إلا وهو كهشيم المحتضر، وقد إختلط رماده بأنقاضه، ولما انتهى هذا الحريق انتهت معه أيضاً مدينة بيروت السعيدة، كما لقبها أوغسطس قيصر عندما قدمها هدية لابنته جوليا بمناسبة زواجها من القائد مرقس فسبيانوس أغريبا، الذي عيّنه الإمبراطور الروماني في نفس الوقت حاكماً على مستعمرته الممتازة بيروت.رثاء بيروت في قصائد الرحالينإن كبوة بيروت تحت ضربات الزلازل ونيران الحرائق جعلت الشعراء والرحالين والمؤرخين، في ذلك الوقت، يعبرون عن أسفهم على هذه المدينة شعراً ونثراً، وقد وصل إلينا من هذا الشعر والنثر مقتطفات ننقلها إلى أبناء زمننا لعلهم يربطون ما بين ذكريات الماضي ووقائع الحاضر، بما يعطيهم فكرة عن المآسي المتواترة على مدينتهم بيروت وقدرتها في الإستعلاء على هذه المآسي والإستمرار في تفاؤلهم بمستقبل هذه المدينة المتدرعة بجلباب الصب والإيمان بالله عزّ وجل والثقة بالنفس.رثاها شاعر إغريقي من آسيا الصغرى (تركيا اليوم) معاصر للحوادث المذكور بقوله : (بيروت، أجمل المدن، الدرة في تاج فينيقية، فقدت لاءها ورونقها، بناياتها التي تُعّد آيات في فن العمارة تداعت وسقطت ولم يبق فيها جدار واقفاً، لم يثبت منها سوى الأساسات).ورثاها شاعر إغريقي آخر من إسبانيا بشعر تفجّع فيه عليها بقوله على لسانها: (... ها أنا ذا، المدينة التاعسة، كوم من الخرائب، أبنائي أموات، ياللحظ العاثر المشؤوم، إلاهة النار أحرقيني بعد أن هزت الزلزال أركاني، يا لتعاستي، بعد أن كنت مجسَّم الجمال، أصبحت رماداً، هل تبكون أيها العابرون الماشون فوق أطلالي؟ هل تسكبون عليَّ دمعة حزن؟ هل تأسَوْن لمجد بيروت التي لا وجود لها؟ أيها الملاح لا تمل بشراعك نحو شاطئ، لا تنزل شراع مركبك، فإن المرفأ الأمين أصبح أرضاً يابسة قفراء، أصبحت لحداً موحشاً، أمِل عني، سْرعني، إلى الموانئ الفرحة التي لا تعرف البكاء إلى موانيها سِرْ على صوت قرع المجاذف. هكذا شاء الإله بوسيدون، إله البحر والزلزال، وهكذا شاءت الإلهة السماء. وداعاً يا ملاحي البحار، وداعاً أيتها القوافل الآتية من وراء الجبال!).ورثاها الشاعر الإغريقي أغاثيوس بقصيدة طويلة جاء في بعضها ما تعريبه قوله : (... ذوت زهرة فينيقيا مدينة بيروت بمصاب الزلزال الرهيب، وزال عنها جمالها الرائع، ودُكت أبنيتها الشامخة، البديعة المنظر، المحكمة الهنداس، فتقوضت عن آخرها ولم يبق منها سوى الردم والخراب، وهلك تحت أنقاضها جمع غفير من الأهالي والأجانب والمستوطنين فيها، وأذاقت كأس المنية، نخبة من الشبان المتقاطرين إليها لدرس الحقوق في معاهدها الرومانيّة الذائعة الصيت، التي كانت لها فخراً ولمفرقها تاجاً، تباهى به أعظم المدن أخواتها!..).وتابع هذا الشاعر المتفجع نفثاته الحرَّى على بيروت، فنظم على لسانها رائعة شعريّة مؤثرة قال فيها :(... وأسفاه إني لمن أشأم المدن وأسوائها حالاً، رأيت جثث أبنائي متراكمة في شوارعي وساحاتي مرتين، في ظلال تسع سنوات رماني إله النار (فولكان) بسهامه المتقدة بعد أن صدمني إله البحر (نبتون) بتياره الجارف ! واأسفاه على بهائي الرائع،، كيف طمسه الدهر، وأحالني إلى رماد ! ... فيا عابري الطريق، ابكوا لسوء حظي، واندبوا بيروت المضمحلة ! ...).بقي أن نقول إن آثار الخراب التي خلفها الزلزال الأخير في بيروت بقيت مائلة للعيان حتى القرن السادس للميلاد، فقد مرَّ بها آنذاك سائح يُدعى أنطونين ويُعرف بلقب الشهيد وكتب عنها يقول: (... وصلنا إلى المدينة الفائقة الجمال، بيروت التي كانت فيها قبل هذه السنين المدرسة الحقوقيّة الذائعة الصيت .... وهي التي إستولى عليها الخراب).السائح البليزنسي الشهير صاحب كتاب (L’Anonyme de Plaisance) زار سوريا وكتب إنطباعاته عن هذه الزيارة بقوله: ( ... سرنا من انتارادوس (طرطوس) إلى طرابلس، وهي مدينة خربت بسبب الزلازل التي حصلت في عهد الإمبراطور يوستنيانوس، ومنها إنتقلنا إلى تيرسيريس (أنفا") فإلى بيبلوس (جبيل) وهما تقوضتا على سكانهما... ثم وصلنا إلى بيريت (بيروت) المدينة الفائقة الجمال التي إزدهرت مؤخراً فيها الدروس العلميّة، وهي أيضاً كان الزلزال قد خربها!).نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها
الفصل الثاني
بيروت أثناء الصراع بين العرب والروم
عندما أزاح العرب المسلمون الرومَ عن أرض الشام قبيل السنوات التي إنتصف بها القرن الهجري الأول، وارتفعت راية الإسلام فوق دمشق في أيلول سنة 635م على يد أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح وخالد إبن الوليد، إتجهت قوات إسلاميّة لإتمام بسط السلطة العربيّة على السواحل السوريّة تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان وأخيه معاوية، وقد استطاعت هذه القوات إتمام مهمتها العسكريّة دون أن تلقى مقاومة جديّة لا من الأهالي الوطنيين ولا من الروم الذين كانوا يحتلونها منذ دهر طويل.
وهكذا دخلت بيروت في حوزة العرب المسلمين من غير حرب ولا حصار بحيث لم تتحمل في عمرانها وسكانها ما يرهقها، أو يتسبب في إلحاق الأذى أو الضرر بقاطنيها، إلا أن الروم لم ييأسوا من استرجاع سلطانهم في هذه البلاد، ففي أواخر خلافة عمر بن الخطّاب وأوائل خلافة عثمان بن عفّان عادوا فوثبوا على السواحل السوريّة وغلبوا على بعضها، فتصدى لهم معاوية بن أبي سفيان، والي سوريا آنذاك، وأرغمهم على الانسحاب، ولما تمّ له ذلك بعد فترة من الحصار بادر إلى تحصين هذه المدن وشحنها بالحاميات العسكريّة للدفاع عنها ضد الاعتداءات المحتملة من قِبَل الروم.
بيروت في معاناة القرصنة
إن حركة التحرير التي إنطلق بها العرب تحت راية الإسلام عبر الجزيرة العربيّة وأدت إلى إجلاء الاحتلال الرومي عن بيروت لم تقنع الروم البيزنطيين باليأس من استعادة نفوذهم في هذه البلاد، فلقد واصل هؤلاء وثوبهم على السواحل السوريّة بين الحين والآخر في غارات قرصانيّة مستهدفين النزول في المدن الساحليّة بقصد النهب والسلب والتخريب وقتل من يصادفونه من سكانها المسلمين، كما لجأوا إلى تحريض غير المسلمين من هؤلاء السكان على الفتن وإثارة المتاعب بوجه السلطات العربيّة عن طريق مساعدتهم بالمال والعتاد، وكان المردة، أي الجراجمة، ينطوون على قابلية الاستجابة لهذا التحريض متأثرين بالقاسم الديني المشترك بينهم وبين الروم.
وعلى هذا، تكون بيروت قد تعرضت أيام المهدي العباسي في الربع الأخير من القرن التاسع الميلادي لغارة المردة التي انتهت بفشلهم وردّوا عن المدينة دون أن ينالوا منها بفضل تصدي الأمراء الأرسلانيين الذين كانوا آنذاك ولاة عليها من قِبَل الخليفة العباسي.
ولقد تكررت غارات القراصنة الروم على بيروت، وكان الغرض منها القيام بعمليات خطف المسلمين الذين ينفردون بهم على أطراف المدينة.
معركة بيروت على نهرها
واستمرت غدرات المردة يظاهرهم الروم ضد بيروت، فإن هؤلاء وأولئك كانوا يناوشون هذه المدينة بالقتال والعدوان كلما آنسوا في أنفسهم القدرة على بلوغ شواطئ هذه المدينة على متن مراكبهم التي أعدوها للقرصنة أو عن الطريق البريّة التي كان المردة يتسربون عبرها إلى مشارف البلد.
ويقول طنوس الشدياق : (إنه في سنة 875م 262هـ بنى الأمير النعمان داراً عظيمة في بيروت وحصَّن سور المدينة ... وفيها وقع بينه وبين المردة قتال عظيم على نهر بيروت دام أياماً حتى إنهزمت المردة، فقتل منهم بعضاً وأُسر بعضاً. وكتب إلى موسى بن بغا يخبره وأرسل إليه الرؤوس والأسرى إلى بغداد، وعرض إلى المتوكل (الخليفة العباسي) ذلك، فأكرم موسى رسله وسُرَّ بظفره، وكتب إلى المتوكل إليه كتاباً يمدح شجاعته ويحرضّه على القتال وأقرَّه على ولايته تقريراً له ولذريته وأرسل له سيفاً ومنطقة وشاشاً أسود ((كان من التقاليد المتبعة في أيام الخلفاء، لا سيما العباسيين والسلاطين المتفرّدين بالحكم في الولايات الإسلاميّة، إهداء كبار الولاة والقضاة وأمراء الجيش والوجهاء كسوة كاملة من الثياب عُرفت باسم "الخلعة"، وقد أنشأ العباسيون دوراً خاصة يخلع فيها على الوزراء يقال لها "باب الحجرة")) وكتب إليه أخوه الموفّق وغيره كتباً يمدحونه بها وأعاد رسله مكرَّمين، فتقلّد الأمير السيف وشدّ المنطقة ولف الشاش ودعا لأمير المؤمنين وزُيِّنت البلاد والمدن وهادته الشعراء بالتهاني، واشتدّ أمره وعظم شأنه).
معركة أخرى في بيروت
في أيام الأمير النعمان، عانت بيروت من غارة غادرة قامت بها سفن الروم من جهة البحر وقطعان المرتزقة المردة من جهة البر، وقد حدثنا طنوس الشدياق عن تفاصيل هذه الغارة بقوله :... سنة 915م قدمت سفن إفرنجيّة إلى رأس بيروت ونزل الملاحون إلى البرّ فسار إليها الأمير النعمان بشرذمة من رجاله، فأسر منهم ثمانية رجال وقتل ستة، ثم قدمت تلك السفن إلى الميناء ففاداهم على من أسروه من المسلمين، وكتب بذلك إلى الأمير تكين أمير دمشق ومعاملاتها، فاستدعاه إليه فذهب وحظي من بالإكرام، ويقول الأمير شكيب أرسلان إن الأمير النعمان دوّن في مذكراته أحداث هذه الواقعة، وكيف أن الأمير تكين استدعاه بسبب ذلك إلى دمشق وخلع عليه وكتب إلى الحضرة، أي العاصمة بغداد، فصدر التوقيع بالتشكر منه وأضيف له عمل، أي مدينة، صفد.
بيروت في معاناة جديدة
منذ أن أُخرج الروم من سوريا على يد القوات العربيّة خلال الفتوح الأولى في أواسط القرن السابع الميلادي، وهم يرنون بأبصارهم إلى استرجاع سيطرتهم على هذه البلاد، من أجل ذلك فإنهم والوا غاراتهم عليها بأنفسهم مباشرة بواسطة جيوشهم البريّة تارة ومراكبهم البحريّة تارة ثانية، وعندما كانوا يعجزون في هذه الوسيلة أو تلك، فإنهم كانوا يعمدون إلى تشجيع الحركات الداخليّة المناوئة للدولة العربيّة التي كان عملاؤهم المحليون يقومون بها بين الحين والآخر.
وفي غضون القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، إنتهزوا فرصة انهماك المسلمين في صراعاتهم الداخليّة الناتجة عن التناقضات العنصريّة والمذهبيّة في المجتمع الإسلامي آنذاك، وراحوا يواترون هجماتهم العدوانيّة على تخوم الدولة الإسلاميّة عبر الحدود العراقيّة والسوريّة، وبلغت هذه الهجمات ذروتها سنة 969م حين تمكّن إمبراطور القسطنطينيّة نقفور فكوسNicephorus Phocqs من الاستيلاء بعض الوقت على أنطاكية وحلب وألحقهما بإمبراطوريته.
وفي سنة 974م استؤنفت هذه الهجمات على يد إمبراطور بيزنطي آخر هو يوحنا زيميس Zimiceالمعروف عند العرب باسم الشمشقيق الذي قام بحملة عسكريّة على سوريا وتمكّن من احتلال حمص ومنها إنتقل إلى وادي البقاع ثم احتل بعض المناطق الفلسطينيّة وانتشرت جيوشه في الساحل السوري وضيّق خناق الحصار على مدينة بيروت، وعندما تمكن من دخولها أباحها لجنوده الذين عاثوا فيها وأثخنوها بالنهب والتخريب والتقتيل واسترقوا أهلها بالسبي وذلك معاقبة لها على ما أبدته من صمود وشجاعة في مقاومته دفاعاً عن الدين والعرض والوطن، ولم يترك الشمشقيق بيروت إلا بعد أن جعل بنيانها قاعاً صفصفاً وسكانها شذر مذر بين قتيل شهيد أو نازح شريد.
الإفرنج يتواثبون على بيروت
بعد حوالي مائة سنة من انكفاء رياح الاعتداءات البيزنطيّة عن بيروت، هبت عليها رياح هوجاء كان مصدرها هذه المرة الممالك الإفرنجيّة في أوروبا التي تنادت للزحف على الشرق الإسلامي تحت شعار استنقاذ قبر المسيح من أيدي المسلمين.
ففي أواخر القرن الحادي عشر الميلادي بعث الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومينينوس النداء تلو النداء إلى صاحب النصارى في الحاضرة الفاتيكانيّة لدرء الخطر الذي شكله السلاجقة على الأراضي البيزنطيّة والعاصمة القسطنطينيّة بالذات.
وقد وجدت هذه النداءات في النتيجة أُذناً صاغية لدى البابا أُوربان الثاني، الذي ألقى في اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1095م خطاباً حماسيّاً شديد اللهجة في مدينة كليرمون فرّان بجنوبي فرنسا، مستنفراً الشعوب الأوروبيّة لانتزاع قبر المسيح من أيدي المسلمين، وما أن حلّ ربيع سنة 1097م حتى كان نحو 150 ألف محارب من الإفرنج والنورمان يحتشدون في قلب القسطنطينيّة استعداداً للزحف على البلاد السوريّة.
واندفع هذا الإعصار الصليبي الأوروبي مجتاحاً المدن الساحليّة الواحدة تلو الأخرى حتى وصل إلى مشارف بيروت في 19 نيسان سنة 1099م وضرب حولها الحصار بغرض احتلالها واستخلاصها من يد المسلمين، بيد أن هذا الحصار لم يكن طويلاً إذ أن الصليبيين كانوا يفضلون الانتهاء من القدس قبل أي مدينة أخرى، فاكتفوا بالحصول على بعض الهدايا التي قدمها لهم البيروتيون فداءً عن مدينتهم، وهكذا فإن الصليبيين لم يتعرضوا بسوء لأهل بيروت.
تجدُّد الغارات على بيروت
وفي سنة 1100م كانت المنطقة المحيطة ببيروت مسرحاً لمعركة ضارية بين الجيوش الصليبيّة المتجهة إلى فلسطين وبين القوات الإسلاميّة التي كان لواؤها معقوداً لوالي بيروت من قِبَل العبيديين واسمه سعد الدولة الطواشي، وعندما تحدث ابن الأثير عن هذه المعركة في جملة الأحداث التي وقعت سنة 1100م نقل إلينا قصة طريفة وقعت للحاكم المذكور الذي مات على النحو الذي تنبأ له به المنجمون، قال ابن الأثير : ... كان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنقذ مملوكاً لأبيه لقبه (سعد الدولة) ويُعرف بالطواشي إلى الشام لحرب الفرنج فلقيهم بين الرملة ويافا، ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين، لعنه الله تعالى، وتصافُّوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملة صادقة فانهزم المسلمون، وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة : إنك تموت متردّياً، فكان يحذر من ركوب الخيل، حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط، فقلق خوفاً أن تنزلق به فرسه أو سيتعثر، فلم ينفعه الحذر عند القدر، فلما كانت الوقعة انهزم فتردَّى به فرسه، فسقط ميتاً !. .
الصليبيون عند نهر الكلب
في عام 1100م هلك غودفرويد الذي يسميه مؤرخو المسلمين (جوفراد) ملك القدس، فاجتمع أمراء الفرنج وانتخبوا أخاه بولدوين ليخلفه على تخت المُلك، فجاء بولدوين إلى فلسطين قادماً من مدينة الرُّها بسوريا ليتسلم منصبه الجديد متخذاً ساحل البلاد طريقاً له ومعه قوة مؤلفة من حوالي ألف مقاتل. ولما علم له الأمير عضد الدولة شمس المعالي أبو المحاسن، الذي تولى إمارة بيروت خلفاً لأبيه، إستنفر أمراء صيدا وصور وعكا وقاموا جميعاً بالتصدي لبولدوين في مكان عُرف باسم (دربند نهر الكلب) حيث نصبوا له كميناً ليصدوه عن قطع هذا المضيق، لكن القائد الصليبي ظفر بهم واضطر عضد الدولة للعودة برجاله إلى بيروت. ولما علم شمس الملوك دقاق ملك الشام بذلك كتب إلى الأمير المذكور بأن يتولى صيدا بالإضافة إلى بيروت وطلب إليه تحصين المدينتين لتقويا على الصمود بوجه المهاجمين.
أمراء صليبيون يقصدون بيروت
عندما إتجه بولدوين نحو مدينة الرملة بفلسطين لإحتلالها، قدم من أوروبا لزيارته من بقي على قيد الحياة من أمراء الحملات الصليبيّة في الأناضول سنة 1101م وفي مقدمتهم كونت أكيتانية، وستيفن كونت بوَا، وستيفن كونت بورغندية، والكندو سطابل كونراد، وبصحبتهم عدد من بارونات الأراضي المنخفضة (هولندا) وإيكارد أسقف أورا، والأسقف ماسيس، ومعظم هؤلاء قدموا إلى الشرق العربي بطريق البحر وكانت وجهتهم مدينة عكا.
وفي أوائل ربيع سنة 1102م بلغوا المناطق المجاورة لبيروت، إلا أنهم لم يدخلوا قلب المدينة نفسها، بل تابعوا سيرهم باتجاه القدس لحضور الإحتفال بعيد القيامة عند النصارى في الأماكن المقدسة، إلا أن حظهم كان عاثراً فلقد هَلك أكثرهم في معركة الرملة التي مُنِي فيها الصليبيون بالهزيمة على أيدي الجيوش الإسلاميّة التي قدمت من مصر لمحاربتهم.
|
عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأربعاء 09 ديسمبر 2015, 9:43 am عدل 1 مرات |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها الإثنين 23 نوفمبر 2015, 9:06 am | |
| [size=32]نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها
الفصل الثالث[/size] معركة بيروت وإرتداد الصليبيين عنهاما إن توسد بولدوين أريكة الملك على القدس حتى جمع جنوده وقادهم لإحتلال المدن الساحليّة التي لم تكن قد وقعت بعد في أيدي الصليبيين. وقد حقق أمنيته وأدخل هذه المدن في طاعته ورفع على أسوارها وأبوابها راية الصليب إلا أنه واجه في بيروت مقاومة حازمة إضطرته إلى صرف النظر عن دخول هذه المدينة وكان ذلك في عام 1102م.في صيف سنة 1109م 502هـ سار بولدوين على رأس قوة صليبيّة باتجاه طرابلس الشام وساندبرتران دو صانجيل في الإستيلاء على هذه المدينة، ومقابل ذلك فإن برتران ردّ الجميِل لبولدوين عندما قام هذا الأخير سنة 1110م 503هـ بمحاصرة بيروت لإحتلالها. وساهم في هذا الحصار أسطول صليبي قوامه أربعون سفينة بعضها لأهل بيزا وجنوا الإيطاليتين، وبعضها الآخر تابع لمملكة القدس اللاتينيّة، الأمر الذي جعل المدينة رهينة طوق محكم ضربه عليها الصليبيون من البر والبحر، ولما حاولت ثماني عشر,سفينة حربيّة قادمة من مصر فك الحصار البحري عن بيروت لم يحالفها التوفيق، وكان سقوط طرابلس بيد الصليبيين قد هيأ لبولدوين قاعدة عسكريّة إعتمد عليها في عملياته الحربيّة ضد بيروت وتشديد الحصار عليها.إستمر حصار بيروت حوالي إحد عشر أسبوعاً إبتداءً من شهر شباط إلى الثالث عشر من شهر أيار من سنة 1110م 503هـ ولما يئس المدافعون عن المدينة من وصول نجدة من مصر عن طريق البحر تنقذهم مما هم فيه أو تساعدهم على الإستمرار في تحمّل وطأة الحصار الخانق المضروب عليها من البر والبحر، تسلل حاكم المدينة ليلاً إلى خارجها ناجياً بنفسه في مركب باتجاه جزيرة قبرص حيث سلّم نفسه إلى حاكمها البيزنطي. وإن أصبحت هذه المدينة بغير حاكم يستمر في قيادة حاميتها وتنظيم الدفاع عنها، وضاق أهاليها بما آلوا إليه من نقص في أسباب الحياة اليوميّة والمواد الحربيّة والغذائيّة وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الإستسلام لبولدوين بعد أن حصلوا منه على وعد بالأمان. ولكن بولدوين عندما دخل المدينة وأصبحت له السيطرة الكاملة عليها خفر بذمة البيروتيين وأخلف بوعد الأمان الذي أعطاه لهم، فترك لرجال الأسطول الإيطالي أهل بيزا وجنوا المجال لأن يعيثوا خراباً في مباني المدينة، وتقتيلاً لسكانها المتسأمنين، وراح هؤلاء الغزاة يطلقون العنان لغرائزهم الحقد والتعصب التي كانت في نفوسهم ضد الإسلام والمسلمين وأردَوْا المدينة تحت وطأة مذبحة لم تَسْتَحْيَ فيها الشيوخ والنساء والأطفال. وفي اليوم الثاني للإحتلال أخرج الأسرى المسلمين الذين وقعوا تحت يده إلى خارج المدينة وضرب أعناقهم كافة.ولقد بلغ من هول الأعمال الوحشيّة التي ظهرت من الصليبيين عند إحتلال بيروت أن أهل صيدا لما عاينوا الزحف الصليبي على مدينتهم وضايقهم الغزاة من كل حدب وصوب، ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج وطلبوا من ملكهم الأمان... .مذبحة بيروت في أيام الصليبيينونذكر أن شره الصليبيين إلى القتل لم يتعفف عن إراقة دماء جيرانهم أمراء غرب بيروت البحتريين، غدراً، فقد نقل الأب هنري لامنس اليسوعي عن كتاب (تاريخ بيروت) لصالح بن يحيى قوله : (.... أن أمير باروت (هكذا كان الصليبيون يسمون بيروت) غوتييه كان يهمّ بتزويج أحد أبنائه، فدعا جميع الأمراء المجاورين، كآل لمبرياك (Lambriac) سادة جبيل وسادة ساييت (أي صيدا) وذوي إقطاعاتهم. ولم يكن من اللائق أن ينسى أمراء الغرب من الدروز. ولا يُخفى أن أعراس الصليبيين كانت غاية من الأبّهة والفخامة. وقد لبّى رجالات البلاد الدعوة. وفي جملتهم أمراء الغرب (أي غرب بيروت، قضاء عاليه) وكان لديهم السلاح الفاخر والخيول المطهمة، ولم يكونوا ليتراجعوا عن التفاخر بها أمام سادة بيروت وسكانها، فيتنافسون وأولئك الفرسان لابسي الخوذ الفولاذيّة وحاملي الريش ملوك الفرنج، فلما كان وقت العرس، نزل الأمراء إلى بيروت فأنزلهم صاحبها (غوتييه) في بستان بظاهر البلد، واعتذر لإيوائهم خارج البلد لكثرة ما إجتمع فيه من طوائف الفرنج لوليمة العرس، وزاد في إكرامهم. ولما دخل الليل، سألهم الحضور إلى مجلس خاص قد هُيّىء لهم ولملوك الفرنج، فدخل الأمراء البحتريون إلى القلعة، ومعهم نفر قليل، فكان آخر العهد بهم ...) . الزلازل مع الصليبيين تضرب بيروتالصليبيون لم يقوموا وحدهم في إرهاق بيروت بالنكبات، فلقد نكبتها كذلك الزلازل في أيامهم، قال الأب لامنس اليسوعي في كتابه (تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار) .(... قد جاء في خارطة لاتينيّة يرتقي عهدها إلى القرن الثاني عشر الميلادي رسم جزيرتين متوسطتين في الكِبَر، قريبتين من بيروت. وكذلك ورد في تواريخ الصليبيين أن الرهبان المعروفين باسم بريمنتريه (Prémontrés) كانوا يسكنون ديراً موقعه على مقربة من بيروت. وفي هذه الشواهد ما يدلّ على أن هذه الجزر غير الصخور الثلاثة أو الأربعة التي نراها اليوم عند رأس بيروت أو عند مصب نهرها. ولكن متى توارت هذه الجزر؟ ليس لنا في ذلك نصّ صريح، ومن المرجّح أنها إنخسفت في الزلزال الذي ذكره المقريزي في تاريخ المماليك سنة 600هـ 1261م حيث قال إن سبع جزر بين عكا وطرابلس غاصت في لجج البحر. وقوله هذا يطابق الآثار التاريخيّة التي لم تعد تذكر، فيما نعلم، الجزر المجاورة لبيروت بعد القرن الثالث عشر...).إذن كانت في بحر بيروت عدد من الجزر الصغيرة. ويمكن أن نسميها أيضاً صخوراً كبيرة، وقد غاصت هذه الجزر الصخريّة في قاع البحر بسبب الهزات الأرضيّة التي ضربت المدينة. ومن الآثار الباقية الدالة على هذه الهزات الأرضيّة صخرة الروشة التي تنتصب عالية في قلب الماء المالح. ويقول علماء طبقات الأرض (الجيولوجيّة) إن هذه الصخرة الضخمة كانت متصلة بالبر ثم إنفصلت عنه نتيجة لتلك الهزات.
صخرة الروشة
إغارة الأسطول الصليبي في سنة 1126م حاولت القوات العبيديّة البحريّة مباغتة الصليبيين الذين كانوا يحتلون العريش وغزا وعسقلان، ومهدت لذلك بالإغارة على الساحل اللبناني ووصلت فعلاً إلى بعض ضواحي بيروت حيث دارت بينها وبين الصليبيين معركة عنيفة، ولكن العبيديين لم يتمكنوا من اقتحام المدينة بالرغم من الخسائر الجسيمة التي مُني بها الطرفان المتحاربان وذلك بسبب كثافة الحامية الصليبيّة التي كانت آنذاك في بيروت.وفي سنة 1186م استنقذ السلطان المجاهد الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين بيروت في جملة ما استنقذه من السواحل اللبنانيّة، إلا أن شمس الحرية لم تبق مشرقة على هذه المدينة إلا حوالى العشر سنوات، ثم عاد إليها ظلام الاحتلال الأجنبي عندما دخلها الملك الصليبي آموري الفرنسي بمساعدة فريديريك الألماني.فقد حدث أنه عندما جُرح الملك العادل سيف الدين الأيوبي في معركة صيدا انتقل إلى بيروت ليتحصن فيها، إلا أن بعض النصارى الذين كانوا فيها عاينوا الأسطول الصليبي بمقابل ساحل المدينة، فوثبوا على الحرس وقتلوهم وفتحوا أبواب القلعة للفرنج القادمين من جهة البحر، وفي اليوم التالي جاء العسكر الفرنج برّاً من جهة صيدا، وتمكّن المهاجمون من اقتحام البلد ودخلوها في نهار الجمعة في العاشر من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة الموافق 25 تشرين الأول 1197م.كان حاكم بيروت من قبل الأيوبيين يومئذ الأمير أسامة بن منقذ، وقد انسحب منها بعد دخول الصليبيين إليها وانتقل إلى نواحي الجبل، ولذلك اشتهر باسم أٍسامة الجبلي، وهو غير أُسامة بن منقذ الكاتب الفارس، صاحب المؤلفات الذي عاش في أيام صلاح الدين الأيوبي وكان حاكماً على السَّلميّة بسوريا.ويبدو أن المسلمين لم يكونوا راضين عن انسحاب الأمير المذكور من بيروت واتهموه بأنه لم يصمد أمام المهاجمين وسلّمهم المدينة بدون الدفاع عنها كما يجب، وذلك فإنه لمّا حاصر الفرنج حصن تمنين، بجبل عامل، وسألوا صاحبه، حاكمه، في تسليم الحصن بالأمان، قال بعض من فيه لصاحبه، أي صاحب الحصن.لا يُلام الذي يروم السلامة | سلم الحصن، ما عليك ملامـة | سُنة سنها ببيروت أسامـه | فعطاء الحصون من غير حرب |
وبعد فتوح الفرنج لبيروت سلّم ملك القدس آموري بيروت إلى أسرة أيبلين من الأسر الفرنسيّة الإقطاعيّة، وأول من حكم بيروت من هذه الأسرة يدعى جان أيبلين الذي بقيت بيروت تحت أمرته 35 سنة متوالية.بيروت بعد أن حررها المماليكفي شهر تموز سنة 1291م استعادت قوات المماليك بقيادة سنجر الشجاعي مدينة بيروت من الصليبيين الذين تركوا المدينة بأمر من الملك الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاوون واختاروا الإقامة في جزيرة قبرص، ولحق بهم بعض الموارنة من أبناء البلاد، وما يزال أحفاد هؤلاء الأخيرين في قبرص حتى اليوم حيث يؤلفون جالية مستقلة وعليهم أسقف منهم مقره في بيروت.إن لبيروت ربَّاً يحميهاذكر صالح بن يحيى في تاريخه نقلاً عن النويري أنه (في العشر الآخر من شهر شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة للهجرة 1299م وصل إلى بيروت مراكب كثيرة وبطس (مراكب حربيّة) للفرنج فيها جماعة كثيرة من المقاتلة، يقال إن البُطُس كانت ثلاثين بطسة في كل بطسة منها نحو سبعمائة مقاتل، وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البّر وتحصل غارتهم على بلاد الساحل، فلما قربوا من البرّ، أرسل الله عليهم ريحاً مختلفة (مخالفة) فغرقت بعض هذه السفن وتكسّر بعضها، وحُكي عن الريّس (رئيس الميناء) بيروت أنه قال : (والله لي خمسون سنة ألازم هذا البحر، فما رأيت مثل هذه الريح التي جرت على هذه المراكب، وليست من الرياح المعروفة عندنا).غارات القراصنة الصليبيينوفي سنة 734هـ 1334م أغار القرصان الصليبييون على بيروت، وقد حدثنا صالح بن يحيى عن هذه الغارة في تاريخه بقوله : ( ... في عيد الأضحى سنة 734هـ 1334م حضرت شواني (سفن حربيّة) جنويّة إلى بيروت قاصدين أخذ قرقور (سفينة طويلة، معرب عن اليونانيّة) لطائفة الكاتيلان (Catalans) نصارى من إسبانيا، في ولاية عز الدين البيسري من قبل تنكز نائب الشام، وقصد المسلمون منع الجنويّة من أخذ القرقور ولم يقدر المسلمون منعهم من الجند والسلاح، وتجرّح بعض الأمراء بعرمون، ودخل الجنويّة الميناء وأخذوا الأعلام السلطانيّة من البرج، وقتل جماعة في البّر، وإنهزم المسلمون وقاتلوهم في الأزقة، وذكروا أن القتال إستمر بينهم يومان ...).وغارة أخرى للقرصان الصليبيينوقعت هذه الغارة عندما هجم القراصنة الجنويون على بر بيروت واستطاعوا التسرب إلى المناطق المجاورة للميناء واستتروا بحيطان الإستحكامات القائمة في تلك المناطق، وعليهم مقدّم من كبرائهم وبيده سنجق (علم) حاول نصبه على القلعة فتصدى لهم المسلمون فقهروهم ورموا السنجق. فلما رأى القرصان الجنويون وقوع السنجق وهنت عزائمهم، فاندفع إليهم أصحاب النخوات من المسلمين، فازدحم الفرنج على الصقائل التي إنقلبت بهم وإنكسروا شرّ كسرة.وصالح بن يحيى أشار إلى هذه الواقعة مرتين في كتابه، وفي المرة الثانية روى لنا الدور البطولي الذي قام به أبوه يحيى وذلك حيث يقول : (... إن الفرنج نزلوا من مراكبهم إلى البر، وطلع منهم شرذمة إلى جوانب القلعة القديمة لنصب المنجق في شرفة عالية إشارة إلى أن الفرنج ملكوا البرّ ولتقوية قلوب من نزل منهم إلى البرّ، ولنزول باقيهم من الشواني. فلما رأى الأمير يحيى (والد المؤلف) ذلك هجم بمن معه من أصحاب النخوات وأرما (رمي) بنفسه على الذين معهم السنجق فطعنوه برماحهم حتى برك به الفرس، ثم نهض قائماً واقتحم حتى وصل إلى حامل السنجق فرماه، ووقع السنجق، فلما نظرت الفرنج الذين نزلوا إلى البر إلى السنجق أنه قد وقع لم يسعهم غير الرجوع إلى مراكبهم. وركبت المسلمون أقفيتهم فازدحموا على الصقايل، فوقع منهم جماعة كثيرة في البحر، وكانوا مثقلين باللبوس فغرقوا ولم يقدروا على السباحة، فعند ذلك نسبوا كسرة الفرنج إلى الأمير يحيى وعُرفت به. وقد قال لي مبِّي، مقدّم جب جنين من البقاع فيما بعد ذلك : أنا وأبوك في الجنة لأني كنت إلى جانبه يوم وقعة الفرنج ببيروت، فلما أرما (رمى) الذي كان معه السنجق أنا الذي قطعت رأسه، وكان ملِّي يفتخر بذلك بين الناس).الفتنة الطائفيّة بين السُنة والشيعيةلم تسلم بيروت في عهد المماليك من الإضطرابات الداخليّة التي كانت تثور بين الحين والآخر لأسباب مختلفة. ولما كان المماليك شديدي التعصب لمذهب أهل السُنة والجماعة، فإن أبناء الفرق الشيعيّة إضطروا للأخذ بمبدأ التقيّة، وتظاهروا بأنهم من السُنة درءاً للمتاعب وجلباً للمصالح، على أن ذلك لم يمنع بعض هؤلاء من الإحتكاك بأهل السنُة والجماعة وإظهار الخصومة لهم، الأمر الذي كان يؤدي إلى الفتن الطائفيّة بين أبناء البلد الواحد، ويظهر أن الأمير يحيى والد صالح مؤلف كتاب (تاريخ بيروت) أتُّهِم بضلوعه في إحدى هذه الفتن أيام الأمير بيدمر الخوارزمي فطلبه هذا الأمير وأهانه. وقد حدثنا صالح بن يحيى عن هذه الواقعة ناسباً إلى خليل بن مبِّي، أحد أبناء صيدا إيفار صدر الأمير بيدمر على أبيه بما نسبه إليه من الضلوع بالفتن المذكورة. قال صالح : (... كان أبو بكر خليل بن ملِّي من صيدا، قد توصل عند بيدمر (أي عمل في خدمته) وكان شديد البغض للوالد، كثير الحسد له. وكان يذكره عند بيدمر بما يغضب بيدمر عليه، فلما عاد بيدمر إلى نيابة الشام جعل إبن ملِّي المذكور خزنة دار صغير وأضمر الحقد على الوالد. فمن ذلك لما تحركت الشيعة في بيروت، وأظهروا القيام (أي تحركوا ضد أهل السُنة والجماعة) ومعهم مرسوم سلطاني. وكانوا في الباطن قائمين بمذهب أهل الشيعة، فاغتنم بيدمر الفرصة، فجرى في بيروت بذلك حركة رديئة، فاستفرص (أي إغتنم) فيها على الوالد فطلبه وأهانه).بناء المسيطبة على جثث قتلى الصليبيينفي أيام الشيخ الخاصكي، الملقب بملك الأمراء سنة 1403م حضر الفرنج إلى بيروت، فلما رآهم أهل بيروت اشتغلوا بترحيل حريمهم وأولادهم وأمتعتهم، فأخليت المدينة من أهلها، ولم يكن بها حاكم ولا عساكر متجردين للحرب سوى أمراء الغرب ومعهم بعض جماعتهم، وكانوا قد ظنوا أن مع الفرنج خيولاً في المراكب، فخافوا من ذلك، فنزل الفرنج في محلة السنبطيّة، غربي البلد وتمكنوا من الانتشار في بيروت ونهبوا وأشعلوا النار في أسواقها وبيوتها، عندئذ تنادى المسلمون مع أهل النخوات فيهم، وصاروا يتكاثرون على الفرنج حتى حاصروهم في الأزقة وفتكوا بهم فيها، وقرابة العصر من نفس النهار حضر متولي البلد، يوسف التركماني الكسرواني وكان الفرنج قد رجعوا إلى مراكبهم وأجهز المسلمون على من بقي منهم في المدينة وآنذاك طلب شيخ الخاصكي، ملك الأمراء، من المتولي يوسف التركماني الكسرواني أن يقطع رؤوس القتلى الفرنج وأن يُعمّر على أبدانهم مسطبة على باب بيروت، محلة المصيطبة المعروفة اليوم، ويكتب عليها إسم ملك الأمراء. [size=32]نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها [/size]
الفصل الرابع
زلزال بيروت سنة 1173 هـ
جاء في كتاب (تاريخ الشام) للخوري مخائيل بريك الدمشقي (أنه في صباح يوم الثلاثاء في 19 تشرين الأول سنة 1759 مسيحيّة الموافق 9 ربيع الأول 1173هـ قبل الشمس بثلاث ساعات، صارت زلزلة عظيمة بمدينة دمشق مقدار نصف ربع ساعة، وفي الصباح هنّئت الناس بعضها بالسلامة... ثم تواردت الأخبار بأن الزلزلة كانت عظيمة ممتدة في جميع البلاد العربيّة البّر والساحل، من حدّ أنطاكية إلى عريش مصر، مدن وقرى،وراح عالم وبلاد لا تعدّ، والزلزال لم تزل تتكرر وفيما الناس منهم خايفين وغير خايفين، وأناس يقولون بخارات أرضيّة وناس يقولون غضب من الله، لأنه ما سمع من نحو ستماية سنة وأن صارت زلزلة في هذه البلاد.... وفي الليلة الثامنة وعشرين من الزلزلة الأولى، ليلة الخامس عشر من تشرين الثاني ليلة الإثنين إذ حدث بغتة بسرعة زلزلة عظيمة مرهبة مخيفة مقدار نصف ربع ساعة هدمت الحيطان، وهدّت الأركان... وياما حارات وبيوت راحوا واندثروا، وكان هذا غضب من الله على بلاد عربيّة جميعها وبلاد الشام .... من أنطاكية إلى القدس الشريف للعريش كنا نسمع كلام صدق عن الموت الذي وقع، شيء مهول، فإنه ضربت البلاد وفنيت العباد والألوف التي راحت تحت الردم، لا تعدّ ولا يعلم فيها إلا باريها، ولم تزل الزلازل متتابعة إلى مدة سنة، مرة زلزلة ثقيلة وأخرى خفيفة والقلوب رجفانة إلى أن دخل الفنا...).
الطاعون يجتاح بيروت
في سنة 1174هـ 1760م تفشى وباء الكوليرا في البلاد السوريّة، ساحلاً وداخلاً كان الناس في الجيل الماضي يسمون (الكوليرا) الوبا، أو الهواء الأصفر، أو الطاعون. كما كانوا يسمونه أيضاً (الفنا) لأنه كان يُفني أعداداً كبيرة من الناس الذين يصابون به لعدم وجود الأدوية المضادة له، وكانت الوسيلة الوحيدة لتحصين الناجين منه هي إبتعادهم عن المصابين به والإعتزال في البيوت.
وقد أشار الخوري مخائيل بريك الدمشقي إلى هذا الوباء القاتل الذي إجتاح البلاد في السنة المذكورة فقال : (في هذه السنة (1760م) دخل الفنا (الوبا) للشام، وكان قدومه من ناحية عكا، وإستقام في الشام ودايرتها (أي ما حولها) نحو ستة أشهر إلى آخر الصيف. وكان فنا عظيم كبير، وكان حدوده من أراضي غزة والرملة والقدس وبلاد حوران ودايرة الشام وساحل عكا وصيدا وبيروت وطرابلس إلى حدود أنطاكية وكل من تخبَّا وإنحجب بِضبْطٍ سَلِم. وبهذه السنة ظهر في الشام وتخبا النصارى بالبيوت والديورة بغير مانع، وتخبّى إسلام بالمخفي، لذا نظرنا وشاهدنا، وكل من لا يحتجب في أيام الفنا فهو مخالف ومخطي بحد ذاته، لأنها أيام غضب من الله تعالى لأن الله تعالى قال بلسان أشعيا النبي (أدخل يا شعبي إلى مخدعك إلى أن يجوز رجز الرب).
إنهيار كنيسة على من فيها
في سنة 1760م إنتهى بناء كنيسة للنصارى في بيروت تبرع بنفقاتها أحد وجهائهم المدعو (أبو عسكر) وبلغت كلفتها ما ينيف عن خمسين ألف قرش عثماني وفي نهار الأحد الثاني من الصوم عند النصارى، في شهر آذار، بينما كان الناس يحضرون القدَّاس إنهارت هذه الكنيسة على من فيها، ومات يومئذٍ تحت الردم مائة شخصن فكانت كارثة مروعة تأثر بها جميع البيروتيين المسلمين والنصارى وشملهم الحزن على مختلف مستوياتهم وطبقاتهم.
عودة الروس إلى بيروت
بعد الخصومة التي كانت بين الشهابيين وبين ظاهر العمر الزيداني، تصالح الطرفان لمواجهة أحمد باشا الجزار الذي حصَّن بيروت ورفض تسليمها للأمير يُوسُف الشهابي الذي كان قد عيّنه والياً من قبله. قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخه : (... فعند ذلك كتب الأمير يُوسُف وعنه الأمير منصور الشهابي كتاباً إلى ظاهر العمر بأن يحضّر إليهما السفن المسكوبيّة المقدم ذكرها لمعونتهما على إزاحة الجزار من مدينة بيروت، وكانت السفن في ذلك الحين موجودة في جزيرة قبرص، وقد إزدادت عن الأول، فأرسل ظاهر العمر كتاباً إلى أمير تلك السفن بأن يحضر إلى قبالة مدينة بيروت لمعاونة الأمير يُوسُف على إفتتاحها. وكان بين ظاهر والمسكوب عهود، وكانت ملكتهم، كاترين الثانية، أصدرت أمراً لسفنها التي في البحر الأبيض بأنها تسير إلى ما يطلبها إليه ظاهر العمر. فلما وصل كتابه إلى أمير السفن، أقلع بها من الجزيرة المذكورة، أي قبرص، وحضر إلى قبالة بيروت. ولما قابلها، راسل الأمير يُوسُف والأمير منصور وجعلا له ثلاثمائة ألف قرش صلة ونفقة على فتوح بيروت وإستخلاصها من الجزار وتسليمها لهما، وكان يقال لأمير تلك السفن (كنتو جونيّ) فشرع في حصار المدينة، وأرسى سفنه على شواطئها، وأقام الحصار عليها براً وبحراً، وطفق يطلق المدافع ليلاً ونهاراً بالتواصل من غير إنقطاع حتى خيّل للناس أن الساعة أقيمت والجبال دُكّت، ودام ذلك الحصار على بيروت أربعة أشهر، فتضايق الجزار ومن معه من شدّة الحصار، وفرغت من عنده الميرات (الأقوات والأغذية) والإقامات وصادفوا جوعاً شديداً حتى أكلوا لحوم الخيل والدوابّ، فعند ذلك أرسل الجزار كتاباً إلى ظاهر العمر يلتمس منه النجاة والسلامة له ولمن معه على أن يسلّم البلدة ويخرج منها بأصحابه وبمن يتبعه من أهلها، فأجاب ظاهر إلتماسه، وخاطب الأمير يُوسُف بذلك، فأجابه بالرضى فيما طلب، فحينئذٍ أرسل ظاهر رجلاً من خواصّه يقال له (يعقوب الصيقلي) فحضر إلى مدينة بيروت فدخلها، وأخرج الجزار وأصحابه ومن تابعه من أهلها بالسلام منها، وسار بهم إلى عكا، وسلّم المدينة إلى الأمير يُوسُف فاستولى عليها وأخذ أسلحة أهلها وجرّمهم جرماً غليظاً.
ولما إستولى الأمير يُوسُف على البلدة، طالبه كونتو جونيّ بالمال الموعود، فدفع له بعضاً وبقي بعض، فوضع كنتو جونيّ رجلاً من قِبَله يقال له إسطفان في القلعة ومعه رجال من المساكبة (أي الروس) على أن يقيم فيها إلى أن يدفع الأمير يُوسُف ما بقي عليه من الثلاثمائة ألف المذكورة. وأقلع راجعاً بسفنه إلى جزيرة قبرص).
إختلاف عسكر الجزار فيما بينهم
في صباح اليوم الثاني من شهر آذار سنة 1794م حدثت خصومة بين الدالاتيّة والمغاربة (عسكر الجزار) وإشتبك الشر بينهم وكانت الأرناؤوط من جانب الدالاتيّة فإنتصرت على المغاربة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى كادوا يفنونهم وتبددت العساكر ... وفي إقامة هذه المدة في حرج الصنوبر قطّعت أشجار التوت وخَرِبت البيوت وتعطلت أرزاق لا تقدّر.
فتنة طائفيّة
في سنة 1794م نزل أناس من بلدة زرعون، فقتلوا رجلاً من مسلمي بيروت لأن الأمير بشير الشهابي كان قد أوقف واحداً من الزراعنة إرتكب جريمة القتل وسلّمه إلى متسلم بيروت فشنقه. فأخذ الزراعنة ثأرهم من البيروتيين بعد ذهاب عسكر الجزار، مما أهاج المسلمين في بيروت فراحوا يخطفون كل من صادفوه من أبناء الجبل، وقتلوا منهم ما ينيف عن مائة نفر أكثرهم نصارى.
الطاعون مرة ثانية
في سنة 1794م تفشى وباء الطاعون (الكوليرا) في بيروت وإمتد إلى غالب لبنان وفلسطين ودام نحو ثمانية شهور، إلا أن ضرره كان محدوداً لإحتياط الناس منه.
وبعد أن تخلصت بيروت من سموم الهواء الأصفر، عمها وباء الجدري وإستشرى في نفس المدينة وإمتد إلى ضواحيها، وفقد به أناس كثيرون. وإستمر الناس يعانون من وباء الجدري حوالى السنة بكاملها.
غارة الأورام على بيروت
جاء في مجلة الكشّاف (البيروتيّة) الصادرة سنة 1346هـ 1927م تحت عنوان (منذ مائة عام) ما يلي :
(قيل إن أحد تجّار الشام كان يتشاءم من يوم الأربعاء، وكان أرسل إلى عميل له في بيروت صناديق فيها زبيب وقمر الدين ونقوع وذكر له في كتبه إليه : إني مرسل لك البضاعة وستصل إليك مساء الثلاثاء، فآمل منك أن لا تبيعها يوم الأربعاء، بل أجّل بيعها إلى يوم الخميس، لأن يوم الأربعاء يوم شؤم. واتفق أن الأورام دخلوا المدينة يوم الأربعاء، وكان معظم الناس قد أنهوا أعمالهم ورجعوا إلى منازلهم، فانتهز الأورام الفرصة ودخلوا المدينة وأخذوا في نهبها، وكان من نصيبهم بضاعة ذلك الدمشقي وقد ذكروا أن الأورام أخذوا من أهالي بيروت عدة أسرى من عائلات الحصّ ودسُّوم والتنِّير والعيتاني، وقيل أن عائلة الحصّ إفتدت أسيرها بمبلغ وافر).
إن هذه الغارة قام بها القراصنة الأوارم على شاطئ بيروت في جهة عين المريّسة التي كانت وما تزال مأهولة بالعائلات الإسلاميّة المذكورة في مجلة الكشّاف التي نقلنا هنا الخبر عنها.
وإستكمالاً للفائدة التاريخيّة، فإننا ننقل عن نص كتاب المتولي عبد الله باشا ، وفيما يلي هذا النص :
(إفتخار العلماء الكرام وزبدة الفضلاء الفخام قاضي ومفتي أفندي مدينة بيروت حالاً زبدة فضائله وعلومه وإفتخار الأماجد والأعيان متسلمنا في بيروت وأمين كمركها حالاً ولدنا الحاج سليمان أفندي زيد مجده.
غبّ التحيّة والتسليم بمرسوم الإعزاز والتكريم والسؤال عن خاطركم بكل خير، المَنْهي إليكم : أطلعنا على تحريركم المتضمن ورود أثني عشر مركب من الكفرة الأوارم الخاسرين بحول رب العالمين الواقع ـ بينكم وبينهم ـ وتحريركم بطلب زلام من طرف ولدنا المير بشير الشهابي وإلتماكسم الإمداد من طرفنا بالعساكر والمهمات والزخاير لأجل تقوية بأسكم وخذل هذه الفئة الضالة، جميع ذلك صار معلوم فنخبركم أن مدينة بيروت هي خالص مالكاتنا ولا تحتاج إلى إمداد من طرف أحد إلا من طرفنا وبحوله تعالى وقدرته وباهر جلال عظمته وبمدد روحانية سيّد المرسلين وأنفاس حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن نلحق العسكر بالعسكر وندعى المهمات والزخاير متصلة من باب محروسة عكاء إلى باب بيروت فكونوا شادّين عزمكم ومقوّين بأسكم ولا يدخل عندكم أدنى إفتكار من هذه المادة الجُوْرِية وبهذه الليلة موجهين لكم السروجي بمرسومنا هذا جواباً لتحريركم ومصباح بكرة بعونه تعالى نُسيّر لطرفكم العساكر المقتضية مع البارود والإمداد والزخاير والمدافع فيلزم منكم الإنتباه والتيقّظ ليلاً ونهاراً لحين وصول المهمّات مع عساكرنا المنصورة لطرفكم وأيّاكم من الغفلة بذلك لأن هذه الشرذمة الخاسرة الظاهرة في شدّة ضنك أحوالكم إلى الفرار وقريباً بحوله تعالى يحلّ بهم الإنتقام والدمار ونسأله تعالى نُصرة عساكر الإسلام على الأعداء الكفرة اللئَام وبمنِّه تعالى لا تلزم لكم زيادة تأكيد بكلّما أمرناكم به وإن شاء الله تعالى أنتم المنصورين المؤيَّدين والكفرة هم المخذولين المقهورين وهذا ما لزم إخباركم والسلام 2 آب 241هـ).
حصار إبراهيم باشا لبيروت
في سنة 1247هـ 1831م تقدمت العساكر المصرية بقيادة إبراهيم باشا وبتشجيع من الدولة الفرنسيّة وإحتلت البلاد السوريّة وفي جملتها لبنان. وبالرغم من الإصلاحات الإجتماعيّة والإداريّة التي حققها إبراهيم باشا قائد العساكر المصريّة في هذه البلاد، فإن السكان، لا سيما المسلمين، لم يتعاونوا مع المصريين وحافظوا على ولائهم للدولة العُثمانيّة بإعتبارها دولة الإسلام وعلى رأسها السلطان الذي يحمل لقب الخليفة أمير المؤمنين. وبعد حوالى عشر سنوات، أصبحت القيادة المصريّة في موقف حرج، فلم ترَ بُدًّا من إعلان حالة الحصار في جميع المدن الساحليّة ومنها بيروت بالذات، وذلك لمنع إتصال الأهالي بالدولة العُثمانيّة وحلفائها الإنكليز والنمساويين عن طريق أساطيلهم التي كانت ترابط بالقرب من الشاطئ البيروتي.
وقد أدت حالة الحصار التي فرضتها السلطات المصريّة على هذه البلاد إلى مضايقة السكان المحليين والأجانب. وفي التقرير الذي بعث به أنطونيو كاتافاكو (Antonio Catafago) قنصل النمسا في عكا وصيدا آنذاك إلى قنصل النمسا العام في الإسكندريّة، صورة عن هذا الحصار وتأثيره على بيروت.
بيروت تحت قنابل الإنكليز
إعتبرت بريطانيا وجود المصريين في سوريا خطراً على طريق إتصالها بالهند التي كانت تعتبرها (الدرة الثمينة) في تاج الإمبراطوريّة. لذلك بادرت إلى التحالف مع كل من بروسيّة والروسيا والنمسا لمساعدة الدولة العُثمانيّة على إخراج المصريين من هذه البلاد وإعادتها إلى السيادة العُثمانيّة. ولأجل تبرير الحرب ضد المصريين بغطاء مقبول لدى الرأي العام العالمي، ذكرت هذه الدول الخمس في بيانها الذي أصدرته في ذلك الحين وحفظ في وزارة الخارجيّة البريطانيّة أن الغاية من تدخلها (الحفاظ على سلامة السلطنة العُثمانيّة ولها ، أي الدول المذكورة، ملء الحق في الحفاظ على سلامتها، أي سلامة السلطنة العُثمانيّة، لأن سلامتها من مقتضيات توازن القوى في أوروبا وضرورية لحفظ السلام في العالم). وقد جردت الدول المذكورة أسطولاً لعملياتها الحربيّة مؤلفاً من 21 قطعة حربيّة بريطانيّة معقودة اللواء على السير روبرت ستوبفورد (Robert Stopford) و24 قطعة من سفن النقل التركيّة المرابطة في الميناء و6 مراكب حربيّة نماسويّة يخفق عليها العلمان العُثماني والنمساوي. وفي اليوم التالي لوصول الأسطول، بدأ يصب نيران مدافعه على بيروت، وظل يلقى قذائفه سبعة أيام متواصلة فتهدّم فيها كثير من الأبنية ونُهبت أكثر البيوت ومن جملتها بيت القنصل الأميركي جاسبر شاسود المشرف على الميناء.
وكان من نتائج هذا القصف الشديد أن غادر سليمان باشا الفرنساوي حكمدار العساكر المصريّة بيروت في التاسع من شهر تشرين الأول سنة 1840م بعد إقتناعه بإستحالة إستمرار صموده فيها تاركاً في المدينة فرقة من الجنود الذين اضطروا للإستسلام إلى القوات المهاجمة بتاريخ الحادي عشر من الشهر نفيه.
وبذلك عادت راية الهلال العُثمانيّة إلى سماء بيروت وبقيت فيها إلى أن طويت بصورة نهائيّة عند نهاية الحرب العالميّة الأولى سنة 1337هـ 1918م.
|
عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأربعاء 09 ديسمبر 2015, 9:44 am عدل 2 مرات |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها الإثنين 23 نوفمبر 2015, 9:07 am | |
| [size=32]نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها
الفصل الخامس
[/size] إحصاء عدد الضحاياونتيجة لغارة البوارج الإيطاليّة على المدينة والسفن الراسية في المرفأ وقعت الإصابات التالية، كما جاء في السجلات الرسميّة لولاية بيروت في ذلك لحين:47 شخصاً من أفراد القوات المسلحة البرية والبحريّة إستشهدوا وهم يؤدون واجبهم العسكري.25 من هؤلاء أُصيبوا بجراح تتفاوت بين الخطورة والبساطة.56 إستشهدوا أو قتلوا من المدنيين. أكثرهم من سكان وأهالي بيروت وبينهم بعض الأجانب الذين إجتاحهم الإضطراب الذي ساد المدينة أثناء ثورة الجمهور الساخط. ومثل هذا العدد من الجرحى المدنيين، والجدير بالذكر أن هذه الأرقام، أُخذت عن الإحصاءات الرسميّة التي قدمتها المراجع المختصة مأخوذة عن سجلات وقيوم المستشفيات والدوائر الصحيّة التي ساهمت في حينه بإستقبال الضحايا وقامت بواجبها الإنساني نحوهم.فاجعة بيروت سنة 1901 مهكذا وصفت الصحف حادثة انهيار بناية أيّاس في بيروت فجر يوم الخميس في 31 أيار سنة 1901م، وقد ذكرت الحادثة في حينها في جريدة ثمرات الفنون التي قالت : في غربي ساحة السمك عند منتهى باب إدريس بناية لبني أيّاس تتألف من ثلاثة طوابق ذات ست دوائر وسبعة مخازن، قيل إن إنشاءها كان منذ 11 سنة، وقد حدث اليوم انهيار البناء على حين غرة من سكانه الذين كانوا مستسلمين للرقاد وغير حاسبين لنكبات الدهر حساباً، وسمع لهذا الانهدام صوت كالرعد، ولم يمض بضع ثوانٍ حتى دُكَّت الطوابق الثلاثة فوق بعضها البعض.وقد كان لهذه الحادثة دوي كبير في أوساط الرأي العام البيروتي آنذاك وتردد صداها في داخل بيروت وخارجها لكثرة الضحايا الذين دفنوا أحياء وهم نيام تحت أنقاض البناء المتهدم.الطاعون يجتاح بيروتفي سنة 1320هـ في بداية القرن الميلادي العشرين حل الطاعون ضيفاً ثقيلاً في مدينة بيروت، كان شديد الوطأة، إذ أن المجتمع البيروتي في مطلع هذا القرن كان يعاني من مرضين، أحدهما ضرب الناس في صحتهم الجسديّة والآخر ضربهم في أوضاعهم الأمنيّة.السبت الأسود سنة 1903مفي يوم السبت ليلة الأحد من شهر أيلول سنة 1903م اضطربت بيروت، حين تبادل أهل البسطة مع أهل المزرعة اغتيال بعضهم بعضاً في الشوارع ومنعطفات الطرق وداخل الزواريب الملتويّة وارتفع عدد القتلى آنذاك من الطرفين حتى بلغ بضعة عشر شخصاً، الأمر الذي أثار الذعر في البلد وحمل أهل القلم على كتابة المقال تلو المقال في الدعوة إلى حقن الدماء وصيانة الأرواح والحفاظ على أمن البلد وصيانة المجتمع البيروتي من عبث العابثين براحته واستقراره، ولقد كان للشعر في هذه الدعوة نصيب إذ تبارى الشعراء في ذلك الحين في نظم القصائد التي عبّروا فيها عن تفجعهم على مصير البلد.حريق الكازخانةكانت الكازخانة، وهي مستودعات الكاز كما كان يسميها أبناء الجيل القديم، في محلة المدوّر، وحدث أن اشتعلت فيها النيران سنة 1904م، وقد رُوِّع البيروتيون عند حدوث الحريق واتخذوا من يوم حدوثه تاريخاً لوقائعهم وولاداتهم على عادة الناس قديماً في اعتماد تواريخهم على الأحداث البارزة التي تمر بحياتهم، فكان البيروتيون يؤرخون لمواليدهم بيوم حريق الكازخانة، أو بيوم ضرب الأسطول الطلياني لبيروت، أو بيوم الحريّة (المشروطيّة).حمَّى التيفوئيدفي سنة 1910م تفشى مرض التيفوئيد في بيروت وعمّ بلاؤه بين البيروتيين حتى كان الناس يموتون زرافات ووحداناً بهذا الداء الخبيث نتيجة الإهمال وعدم الوقاية وانعدام النظافة في البلد، وقد نظم الشاعر المهجري الساخر أسعد مخايل رستم بهذه المناسبة قصيدة أودعها انطباعاته عن حالة البيروتيين تحت وطأة هذا المرض الذي دخل إلى أكثر بيوتهم ولم يغادرها إلا بعد أن أخرج منها عشرات الضحايا من الكبار والصغار والنساء والأطفال، وفي ما يلي مختارات من قصيدة أسعد مخايل رستم الذي أرخ الوباء المذكور على طريقته في الانتقاد الساخر الذي وجهه بهذه المناسبة إلى حكّام ذلك الزمان، قال هذا الشاعر تحت عنوان (التيفوئيد وبيروت) :فكلا الحالتين التيفوئيــــــدُ | أصداعٌ أم انحلال شديـــد | طبيباً إنما عندك الدواء المفيــدُ | فنمْ، ولا تدع للعــــلاج | وقبل الشهر والنصف لا يجوز القعودُ | هو أن تكْدِش الفــــراش | مُحِلٌّ وسكون وإن تشاء محمـــودُ | فاضطجاع على الفـــراش | فنزول طوراً، وطوراً صعـــــودُ | غير أن الحمّى تروح وتأتي | فبالثلج يلزم التبريـــــــــدُ | وإذا زادت الحرارة في البطن | وأرزّاً فقد تموت البعيــــــــدُ | وإذا ما أكلت خبزاً ولحمــاً | ماء وحليب، عليهما لا مزيـــــدُ | والطعام المفيد شيئــــان | فوق بيروت ظله ممـــــــدودُ | والتيفوئيد حاكم مستبـــدٌّ | ينفعك يؤذي بأهلها المقـــــرودُ | فطاب فيها له المناخ فمــا | والأعضاء، وما لديهم نقــــــودُ | كيف يرجى من الرئيسيــن | لامكنس عندهم ولا مجــــــرودُ | ولتنظيف ذي الشــــوارع | بمصاري الرسوم ، ليس يجــــودُ | وفريق من الأهالي مصّـــر |
ضرب الطليان لبيروتفي صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط سنة 1912م، كانت بيروت فريسة عدوان بربري غاشم صب عليها وابلاً من القنابل المحرقة، أطلقتها السفن الحربيّة الإيطاليّة دون أن تراعي حرمة المدينة المفتوحة، متحدية كل قواعد الفروسيّة العسكريّة، ومبادئ الأخلاق الإنسانيّة ومفاهيم الحضارة والتمدّن، ففي الساعة الخامسة من صباح ذلك اليوم المشؤوم، كانت السفينتان الحربيتان الإيطاليتان غاريبالدي وفيروشيو تنتهكان حرمة المياه الإقليميّة لمدينة بيروت، عاصمة الولاية العُثمانيّة التي وُصفت بأنها درة تاج آل عثمان، وبعد أن اطمأنتا إلى موقعهما الإستراتيجي ألقتا بمراسيهما في البحر وإنطلق منهما ضابط إيطالي شرس وفي يده الإنذار الموجّه إلى الوالي العثماني حازم بك أفندي، طالبين تسلّم الطراد (عون الله) والنسّافة (أنقرة)، وكان موقعهما داخل المرفأ بين بقية السفن التجاريّة العاديّة.بعد مفاوضات ومباحثات بين الضباط العثمانيين والأميرال الإيطالي، بدأت الحمم تنطلق على بيروت وتحديداً في منطقة المرفأ بقصد إغراق البارجتين عون الله وأنقرة، أما شظايا القنابل فكانت تتبعثر هنا وهناك لتحصد أرواح السكان الأبرياء الذين تدافعوا خارج محلاتهم وبيوتهم هائمين على وجوههم بين هارب من الموت المحقق أو ثائر يطلب القتال دفاعاً عن الأهل والوطن، فقد هبّ الرجال متمنطقين بالبنادق التي طالتها أيديهم من الثكنات العسكريّة، واتجه الجميع نحو المرفأ ليبلغوا إحدى الحسنيين إما سحق العدو اللئيم أو الاستشهاد في سبيل الله والوطن والسلطان، ومن المؤسف أن عدداً كبيراً منهم تجمهر عند رصيف المرفأ حيث أطل عليهم المرحوم الشيخ أحمد عمر المحمصاني أحد علماء بيروت، من شرفة دائرة البسابورط وراح يخطب فيهم مثيراً حماستهم الدينيّة ومهيجاً نخوتهم الوطنيّة، مما أدى إلى وقوع المزيد من الإصابات والضحايا نظراً لقرب هذا الجمهور من هدف المدافع الجانية، وكان قد فرّ من بيروت بعض من العائلات الإسلاميّة التي قصدت إلى الأراضي الواقعة في دائرة متصرفيّة جبل لبنان، ووجدت في بيوت إخوانهم النصارى من الترحاب والعطف والإكرام ما جعلها تنسى آلامها وجراحاتها ومصائبها وتلهج بالثناء والشكر على هذه المعاملة التي أكدت روح الأخوّة الوطنيّة بين جميع المواطنين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، أما الذين لم يتمكنوا من الأهالي من مبارحة بيروت بسبب إصابتهم أو عجزهم أو فقرهم، فإنهم أُحيطوا برعاية الوالي حازم بك أفندي ورجال الإدارة والأمن، كما أن أهل النخوة والحميّة من فتوَّات البلد المعروفين بالقبضايات أمثال : خليل عبد العال، أحمد الشرقاوي، محمود الشرقاوي، أبو أحمد الجاك، والحاج حسين خريرو، وغيرهم من هذه الطبقة الشعبية المشهورة باندفاعها للنجدة والإغاثة وصدق الغيرة الدينيّة، فإن هؤلاء لم يقعدوا عن أداء دورهم الإنساني في تلك المناسبة الحرجة وساهموا في إبعاد النساء والأطفال عن مواطن الخطر ونقل الجرحى ودفن الضحايا غير عابئين بالقذائف المميتة التي واصل الطليان إطلاقها على المدينة على غير هدى ولا تمييز بين الأهداف العسكريّة ومنازل السكان.إنتشال مدافع السفن الغارقةوبعد أن هدأت العاصفة وبارحت البوارج الإيطالية المياه الإقليميّة إلى عرض البحر، تولى بحارة بيروت انتشال المدافع التي كانت على ظهر السفن الغارقة، فاستحقوا صدور الإرادة السلطانيّة بمنحهم الوسام المجيدي الرابع، وجميعهم من أهالي بيروت وذلك مكافأة على ما أبرزوه من الغيرة والحميّة في سبيل إخراج المدافع من البارجة (عون الله) التي غرقت في ميناء بيروت.وهؤلاء هم الأغوات والأفنديّة : أحمد الشرقاوي، الحاج خليل عبد العال، إبراهيم البلطجي، محمود الشرقاوي، خليل الشرقاوي، حسين خريرو، أبو أحمد الجاك، محيى الدين عز الدين، مصطفى الشرقاوي، الحاج رشيد رمضان، الحاج محمد رضا، عبد الفتاح الغطيس، سيِّد خضر.وقامت السلطات العُثمانيّة بتقديم مكافآت نقدية للذين حافظوا على أرواح السكان، وقام الوالي حازم بك بتسليم مبلغ خمس وعشرين ليرة ذهبيّة إلى كل من عبد الغني العشي من خفراء الريجي، وعبد الحليم رمضان من أفراد العسكريّة، وهو المبلغ المنعم به عليهما بسبب محافظتهما على القنصلين الروسي والإنكليزي.الآثار السيئة للعدوانلقد أحدث العدوان الإيطالي رد فعل عنيف في أوساط الأهالي الذين وقعوا تحت تأثير الإنفعالات الحماسيّة المتطرفة، فهاجموا مستودع الرديف في الثكنة العسكريّة (حيث كانت سراي الحكومة قديماً) وأخذوا منه بالقوة حوالي ألف وثمانمائة بندقية من طراز الموزر وتسعة وتسعين صندوقاً من الذخائر الحربيّة وإنتشروا في المدينة بشكل أثار الإضطراب والقلق.إلا أن الوالي حازم بك أدرك خطورة وجود السلاح بأيدي الشعب والمدنيين، ولا سيما بالنسبة للمواطنين من النصارى الموجودين في المدينة فعمل مع المرحوم الشيخ مصطفى نجا، مفتي البلد في ذلك الحين، على حصر هؤلاء المسلحين في مكان واحد. وإشترك الاثنان، الوالي والمفتي، في إقناعهم بالتخلي عما في أيديهم من الأسلحة وتسليمها إلى السلطات المختصة لتتولى هي القيام بواجباتها في معالجة الأزمة الطارئة. ولقد كان لهذه المساعي الحميدة أبلغ الأثر في تسكين الهياج وإشاعة الطمأنينة وخصوصاً في أحياء النصارى وأوساط الجاليات الأجنبيّة الذين كادوا يتحملون وزر العدوان الإيطالي الذي كان بنظر أبناء بيروت عدواناً نصرانيّاً لصدوره عن دولة نصرانيّة على الدولة العُثمانيّة، دولة الخلافة الإسلاميّة.على أنه لم تخلُ المدينة خلال فترة الإضطراب من بعض الحوادث الفرديّة التي كاد يذهب فيها بعض (لابسي البرانيط) من الأجانب بذنب غيرهم. إلا أن الوالي تدارك هذه الحوادث من أن تتسع وتتفاقم وتتطور بإعلان الأحكام العرفيّة في حدود مدينة بيروت فقط، وحظر على الأهالي الخروج من بيوتهم في أوقات معيّنة، كما حظر عليهم حيازة الأسلحة ونقلها تحت طائلة العقوبات الشديدة !.ولم تكتف السلطات العُثمانيّة بالتدابير الإحترازيّة لمواجهة أعمال العنف، بل إنها قامت بتقديم مكافآت نقديّة للذين حافظوا على أرواح الناس من عدوان المحتجين.وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وأصبحت البلاد السوريّة بكامل حدودها الطبيعيّة في قبضة جيوش الحلفاء واحتلتها وتقاسمتها فيما بينها، وأعلنت فرنسا بلسان المندوب السامي الجنرال غورو قيام الكيان اللبناني، أجمعت أصوات أهالي لبنان منددة بجمال باشا واعماله التي وصفوها بالطغيان والإجرام، ولما علمت الصحافة اللبنانيّة بأن حكومة أفغانستان كلّفته بتنظيم جيشها الذي يقاتل الإنكليز، وأنه قصد فرنسا لتأمين السلاح لهذا لجيش، وأن فرنسا أحسنت استقباله وأجابته إلى طلبه، فإن هذه الصحافة عتبت على الفرنسيين، فما كان من هؤلاء إلا أن سمحوا للّبنانيين بتأليف محكمة لمحاكمة هذا القائد وجعلوا على رأس هذه المحكمة القاضي سعيد زين الدين، والد السيدة نظيرة زين الدين زوجة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، وبالفعل فإن القاضي المذكور أخذ الموضوع على أنه جِدٌّ وأصدر حكمه الغيابي بإعدام جمال باشا، ولكن هذه الحكم التمثيلي لم يستطع أحد من اللبنانيين تنفيذه بالفعل، بل تولى هذه الأمر بالنيابة عنهم، أحد الفدائيين الأرمن. وفي كابول عاصمة أفغانستان دعا أميرها جمال باشا إليه وعيّنه مستشاراً للجيش الأفغاني،وفيما كان في مدينة تفليس عاصمة كرجستان بروسيا لاحقته دوائر الاستخبارات الإنكليزيّة وكلّفت الفدائي الأرمني أسطفان زاغيكيان باغتياله، مستغلة نقمة الأرمن عليه للتخلص منه بيد أحد أبناء هذه الطائفة التي لاقت الويلات أيام الحكم العثماني، فأطلق هذا الفدائي عليه الرصاص وأرداه قتيلاً. [size=32]نكبات بيروت في ماضيها وحاضرها[/size]
الفصل السادس والأخير
بيروت تبكي أبناءها الذين شنقتهم الدولة العُثمانيّة
خلال الحرب العالمية الأولى 1914م-1918م عاش البيروتيون مرحلة صعبة ودقيقة عندما أدانت السلطات القضائيّة زمرة من الشخصيات الذين تعاونوا مع الحلفاء للتخلص من السيادة العُثمانيّة على البلاد العربيّة على أمل أن تساعدهم إنكلترا على توحيدها تحت راية الشريف حسين بن علي الذي أعلن الثورة على الدولة العُثمانيّة في ذلك الحين.
قام حوالى مائة شخص من وجهاء بيروت والنافذين فيها من أهل الحل والعقد في البلاد وكان فيهم المسلمون والنصارى، اجتمعوا وأسسوا ما سُمّي يومئذ بالجمعيّة الإصلاحيّة، ثم انتخبوا من بينهم 25 عضواً برئاسة الشيخ أحمد عباس الأزهري، صاحب الكلية العُثمانيّة ببيروت التي أصبحت الكلية الإسلاميّة ثم كلية الشيخ عباس فيما بعد، وكان الانتخاب سرياً وعدد الناخبين 61 شخصاً كان منهم: أحمد مختار بيهم، أيوب ثابت، سليم علي سلام، كامل الصلح، جان تويني، بترو طراد، جان نقّاش، رزق الله أرقش، سليم البواب، حسن الناطور، جميل الحسامي، جرجي رزق، ألبير بسول، حبيب فرعون، عبد الحميد الغندور، ألبير يوسف سرسق، عبد الباسط فتح الله، فؤاد حنتس، جبران بسترس، ويوسف الهاني، وإتخذوا لهم نادياً بباب إدريس في بيروت.
وكانت أهداف هذه الجمعية ذات وجهين، سري وعلني، أما العلني الذي يطالب به جميع الأعضاء من النصارى والمسلمين هو منح المناطق العربيّة في المملكة العُثمانيّة حكماً ذاتياً، وانتقال جميع المصالح الإقليميّة في ولاية بيروت إلى أيدي هيئات تمثّل الأهالي، والاعتراف باللغة العربيّة كلغة رسميّة واستعمالها في البرلمان العثماني على قدم المساواة مع اللغة التركيّة وعدم تجنيد العرب للخدمة وقت السلم خارج بلادهم.
كانت هذه المطالب محل أخذ وعطاء بين الجمعية الإصلاحيّة وبين السلطات العُثمانيّة المسؤولة، غير أن هذه السلطات طاش سهم صواب عندما علمت بأن الأعضاء النصارى في هذه الجمعيّة كانوا يشكلون في داخلها جمعيّة أخرى خاصة بهم دون أن يكون لزملائهم المسلمين علم بها من قريب أو بعيد، كان صلة الوصل بين هذه الجمعية النصرانيّة الصرف وباقي الجمعيات العربيّة الأخرى نخلة بك التويني، ترجمان القنصليّة الفرنسيّة الفخري في بيروت.
ولما فتشت السلطات العُثمانيّة مركز القنصليّة الفرنسيّة في بيروت بإرشاد فيليب زلزل عثرت في باطن جدار إحدى الغرف على عريضة بالمطالب السريّة التي تتلخص بإلحاق مدينة بيروت بالجبل ووضع لبنان تحت الحماية الفرنسيّة وهي موجهة إلى مسيو كوجيه، قنصل فرنسا في بيروت، وقد وقّع هذه العريضة كل من : ميشال تويني، بترو طراد، أيوب ثابت، رزق الله أرقش، خليل زينيّة، ويوسف الهاني، وقبيل اكتشاف هذه العريضة بوقت قصير تمكن جميع هؤلاء الموقعين على العريضة من مغادرة لبنان ما عدا يوسف الهاني، الذي إعتقل في داره ببيروت في نهاية حفلة ساهرة كان يقيمها هو وزوجته حنينة دوماني بحضور جمال باشا نفسه، أثناء هذه الحفلة حضر أحد الضباط إلى بيت الهاني وأسرّ في أُذن جمال باشا أن الأوراق التي اكتشفت في القنصليّة الفرنسيّة يوجد إسم يوسف الهاني من الموقعين عليها، وعند نهاية الحفلة إعتقل صاحب المنزل باعتباره متآمراً على الباب العالي، شكّل جمال باشا في كل من عاليه بجبل لبنان ودمشق محكمة عسكرية أُطلق عليها يومئذ الديوان العُرفي، وعُين له الميرالاي تحسين باشا رئيساً وإلى جانبه هيئة تحقيق مؤلفة من ضابط يدعى صلاح الدين أفندي، وعدد من القضاة على رأسهم القاضي شكري بك،وتولى محيى الدين علم الدين، البيروتي، في هذا الديوان وظيفة كاتب ضبط.
ولكي يقطع جمال باشا دابر المحاولات المبذولة لتخليص الهاني، فإنه أمر بتقديم موعد تنفيذ الحكم به عن سائر المحكومين، وقد أُعدم الهاني بالفعل فجر يوم 5 نيسان سنة 1916م، بينما أُعدم الآخرون في 6 أيار من تلك السنة، وتبعاً للمحاكمات التي أجراها الديوان العُرفي، فإنه تمّ تنفيذ أحكام الإعدام بالمحكومين على مرحلتين بشكل إفرادي في تواريخ مختلفة، ففي 15 آب سنة 1915م قبل شروق شمس ذاك اليوم الكئيب شهدت ساحة البرج في بيروت إحدى عشرة جثة أسلمت أرواحها إلى بارئها صبراً تحت أعواد إحدى عشرة مشنقة بإشراف القومندان البيروتي أبو عفيف المصري، وفيما يلي أسماء أفراد هذه القافلة الأولى :
عبد الكريم الخليل، من الشياح قرب بيروت | محمد المحمصاني، من بيروت | محمود المحمصاني، من بيروت | عبد القادر الخرسا، أصله من دمشق ومقيم في بيروت | نور الدين القاضي، من بيروت | سليم أحمد عبد الهادي، من قرية عرّابة قرب جنين بفلسطين | محمود نجا العجم، من بيروت | الشيخ محمد مسلّم عابدين، مأمور أوقاف اللاذقيّة من دمشق | نايف تللو، من دمشق | صالح حيدر، من أهالي بعلبك | علي الأرمنازي، من حماه |
وفي السادس من شهر أيار سنة 1916م تمّ إعدام القافلة الثانية من المحكومين في ساحة المرجة بمدينة دمشق :
شفيق بك مؤيد العظم، من دمشق | الشيخ عبد الحميد الزهراوي، من حمص | الأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق | شكري بك العسلي، من دمشق | عبد الوهاب الإنكليزي، من دمشق | رفيق رزق سلّوم، من حمص | رشدي الشمعة، من دمشق |
وفي نفس التاريخ أي يوم السادس من شهر أيار سنة 1916م أُعدم في بيروت في ساحة البرج المحكومون التالية أسماؤهم :
باترو باولي، من التابعية اليونانيّة، مقيم في بيروت | جرجي الحداد، من جبل لبنان | سعيد فاضل عقل، من الدامور بلبنان | عمر حمد، من بيروت | عبد الغني العريسي، من بيروت | الشيخ أحمد طبارة، إمام جامع النوفرة في بيروت | محمد الشنطي اليافي، من يافا بفلسطين | توفيق البساط، من صيدا | سيف الدين الخطيب، من دمشق | علي بن عمر النشاشيبي، من القدس | محمود جلال البخاري، من دمشق | سليم الجزائري، من دمشق | أمين لطفي الحافظ، من دمشق |
وإلى جانب القوافل التي أُعدمت بشكل جماعي، هناك أفراد آخرون حكم عليهم الديوان العُرفي بتهم مماثلة وتمّ إعدامهم في مدن مختلف، وفي تواريخ متفرقة وهم :
الخوري يوسف الحايك، من سن الفيل قرب بيروت، أُعدم في دمشق يوم 22 آذار سنة 1915م | نخلة باشا المطران، من أهالي بعلبك إغتاله حارسه الشركسي أحمد بك الرزّي قرب أُورفه بالأناضول في 17 تشرين الأول سنة 1915م وأُلقيت جثته في بركة ماء قرب المكان الذي اغتيل فيه | الشقيقان فيليب وفريد الخازن من جونية بلبنان أُعدما ببيروت يوم الثاني من أيار سنة 1916م | عبد الله الظاهر، من عكّار، أُعدم ببيروت يوم الأول من آذار سنة 1916م
| يوسف الهاني، من بيروت، أُعدم ببيروت في نيسان سنة 1916م | محمد الملحم، شيخ عشيرة الحسنة، أُعدم بدمشق في أوائل سنة 1917م | فجر المحمود، من عشيرة الموالي، أُعدم بدمشق أوائل سنة 1917م | شاهر بن رحيل العلي، من عشيرة التركي، أُعدم بدمشق على أثر إعلان الثورة العربيّة | الشيخ أحمد عارف، مفتي غزة، وولده، من مدينة غزة أُعدما في القدس الشريف سنة 1917م | الشقيقان أنطوان وتوفيق زريق، من طرابلس، أُعدما بدمشق سنة 1916م | يوسف سعيد بيضون، من بيروت، أُعدم بعاليه بلبنان يوم العاشر من شهر آذار سنة 1916م | راهب فرنسي، كان عند مطران الروم الكاثوليك بطرابلس، أُعدم بدمشق |
دور محمد الشنطي اليافي
لعب هذا الرجل دوراً خبيثاً في نقل نشاط أعضاء الجمعيّة اللامركزيّة في القاهرة إلى المسؤولين في إسطمبول، ذلك بأنه كان أحد أعضاء هذه الجمعيّة فسولت له نفسه الإثراء على حساب زملائه اللامركزيين فتقرب من حقي بك العظم حتى إطمأن إليه ووثق به وعهد إليه بوثائق الجمعيّة السريّة ليسلمها إلى أصحابها من المنتسبين إليها في البلاد العربيّة.
ولكن الشنطي، بدلاً من أن يسلم هذه الوثائق إلى أصحابها العرب، عرج على إسطمبول وقابل وزير الداخليّة طلعت باشا وأطلعه على ما يحمل من أسماء ودَوْر كل منها في بلده. فما كان من طلعت باشا إلا أن أرسله مع ما يحمل من أوراق خطيرة إلى قائد الجيش الهمايوني الرابع أحمد جمال باشا وهذا تلقّاه بإهتمام وسّهل له الإقامة بأحسن فنادق دمشق على حساب الدولة.
بيد أن جمال باشا ما لبث أن قلب للشنطي ظهر المجنّ بعد أن علم بثرائه الفاحش عن طريق إمتهان التجسس على أبناء قومه. وأمر بسوقه إلى ديوان عاليه حيث حُكم عليه بالإعدام مع بقية المتهمين في ساحة البرج ببيروت وذلك يوم السادس من شهر أيار سنة 1916م ودُفن مع الذين تسبب في نكبتهم في حفرة واحدة بتربة الدروز في هذه المدينة.
دور القنصليّة الفرنسيّة
بين الرواة إختلاف في كيفيّة وصول أوراق هذه القنصليّة إلى السلطات العٌثمانيّة.
هناك من يقول إن رجال الحكومة في بيروت ذهبوا إلى دار القنصل الأميركي وطلبوا منه أن يسمح لهم بتفتيش دار القنصليّة الفرنسيّة وكذلك الإنكليزيّة لأنهما كانتا تحت إشرافه بعد سفر القنصلين الفرنسي والإنكليزي في بداية الحرب، فرفض قنصل أميركا هذا الطلب لأن القنصليتين المذكورتين كانتا قد ختمتا بالشمع الأحمر.
فقال الموظفون العثمانيون، إنهم لا يريدون دخول الغرف المختومة، بل هم يكتفون بتفتيش ما لم يُختم، فاستمهلهم القنصل الأميركي ريثما يراجع السفير في الآستانة، وقد راجعه فعلاً فأجاز السفير طلب التفتيش. وفي أثناء التفتيش عُثر في دار القنصليّة الفرنسيّة على الوثائق الخطيرة فأخذوها بينما لم يعثروا على أي شيء في دار القنصل الأميركي لأنه لم يترك شيئاً بعكس القنصل الفرنسي.
وهناك رواية أخرى تقول إن الموظفين العُثمانيين في بيروت، دخلوا دار القنصليّة الفرنسيّة وفضوا الأختام من على أبواب غرفها، فأبلغ القنصل الأميركي الذي إحتج سفير دولته بإسطمبول ورفع الأمر للحكومة الأميركيّة بواشنطن التي إحتجت هي بدورها في شهر تموز سنة 1915م إحتجاجاً رسميّاً على خرق القواعد الدوليّة.
دور فيليب زلزل
هذا الشخص من وجهاء النصارى في بكفيا بلبنان وقد إحتضنه القنصل الفرنسي في بيروت وجعله كبير تراجمة القنصليّة.
وعندما أُعلنت حالة الحرب بين الدولة العُثمانيّة وفرنسا نُفي فيليب المذكور مع من نفي من موظفي القنصليّة المحليين إلى مدينة دمشق لإبعاده عن منطقة الساحل.
ولما رأى أن ما كان وعد به مسيو بيكو، القنصل الفرنسي، من العودة إلى سوريا بعد أسبوعين لم ينفذ خشي أن تنقله السلطات العُثمانيّة إلى الأناضول أُسوة بغيره من أمثاله، فالتجأ إلى قنصل ألمانيا بدمشق عارضاً عليه التوسط لدى أحمد باشا بإعلان ندمه على خدمة فرنسا ورغبته في التكفير عن سوابقه لصالح الأجانب وذلك بمأثرة يفيد منها رجال السياسة العُثمانيّة ولا يستطيع غيره أن يقوم بها.
فاستحضره أحمد جمال باشا وسأله عن هذه المأثرة مع وعد له بإعادته إلى بلدة بكفيا والعفو عنه، إن كان صادقاً فيما يقول.
فقال زلزل : إنه وحده يعرف مخبأ الأوراق السياسيّة التي إحتفظ بها القنصل في جدار من جدران إحدى غرف القنصليّة، ودلّ على هذا المخبأ بالفعل، فإذا هو مستودع أُعد في الجدار بصورة خفيّة، وطلي بابه بشكل يحول دون معرفته وإكتشاف ما وراءه.
وقد تحقق لدى الكشف من قبل السلطات العسكريّة ما أخبر به زلزل... فظهرت الوثائق التي تدين الكثيرين ومنها مضبطة موقعة من الوجهاء: ميشال التويني، يُوسُف الهاني، بترو طراد، أيوب تابت، رزق الله أرقش، خليل زينية.
وجاء في آخر هذه المضبطة :
(... فأقصى ما يبتغيه مسيحيوا سوريا هو أن تحتل فرنسا القطر السوري. ولهذه الأسباب يعرض الموقعون أسماءهم من أعضاء اللجنة التنفيذيّة بالنيابة عن مسيحيي بيروت بحسب مراتبهم الإقتراحات التالية، التي يعتقدون أنها الوحيدة الكفيلة بإصلاح الحالة السياسيّة الحاضرة بسوريا :
1. إحتلال فرنسا لسوريا.
2. إستقلال ولاية بيروت إستقلالاً تاماً تحت وصاية فرنسا وحمايتها.
3. إدماج ولاية بيروت بلبنان الذين يكون تحت سيادة فرنسا الفعليّة.
وكان إكتشاف هذه الوثيقة الخطيرة بمثابة رأس الخيط الذي سحبت به السلطات العُثمانيّة كافة المتصلين بالمراجع الفرنسيّة، فاعتقلت من كان تحت طائلتها، وحولته إلى ديوان عاليه لينتهي إلى الإعدام في ساحة البرج.
وأما الذين كانوا بعيدين عن متناول هذه السلطات فإنهم اكتفوا بتحمل العقوبات الغيابيّة حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها عادوا إلى بلدهم ليتبوأوا في ظل الإنتداب الفرنسي أعلى المراكز الحكوميّة وأسماها جزاء ما قدمت أيديهم من خدمات سالفة للحلفاء وأغراضهم السياسيّة والعسكريّة.
والجدير بالذكر أن الوحيد الذي وقع بفخ الإعتقال وحكم بديوان عاليه كان الوجيه يُوسُف الهاني الذي ورد إسمه بين الموقعين على مضبطة القنصليّة الفرنسيّة، بينما كان بقية رفاقه الآخرين قد أفلتوا من قبضة أحمد جمال باشا في الوقت المناسب قبل أن يفشي فيليب زلزل سره الدفين ... القاتل !
قُبض على يُوسُف الهاني بعد إنتهاء حفل كان يقيمه بداره ليلة دخول القنصليّة الفرنسيّة وإكتشاف الوثائق الخطيرة، وكان أحمد جمال باشا يحضر هذا الحفل فأبلغ بالأمر، وبعد إنتهاء الحفل إعتقل.
|
|
|