كيف يفسر الأردنيون الهدر؟
ثمة الكثير من المال العام الذي يضيع هدراً بأشكال مختلفة. وكان وزير المالية السابق د. أمية طوقان، أكد في أحد أهم تصريحاته الصحفية أن حجم الهدر في الإنفاق العام يتراوح بين 15-20 %. وإلى اليوم، لم تعالج الحكومات ولو جانباً بسيطاً لهذا الهدر.
الحكومة لديها تفسيرها لهذه النسبة المرتفعة؛ وهو يرتبط بعدم بناء موازنة موجهة بالأهداف، بما يعني عدم توجيه الإنفاق بشكل سليم، الأمر الذي يؤدي، بالتالي، إلى ضياع هذه الأموال من دون تحقيق نفع عام، لاسيما بإحداث فرق في مستوى الخدمات العامة، من صحة وتعليم وبنية تحتية وسواها.
الأردنيون، ونتيجة فجوة الثقة بينهم وبين الحكومة، لديهم في المقابل تفسيراتهم الخاصة التي لم يتزحزحوا عنها ولو قليلا، مهما شرحت الحكومات وفسرت، خصوصاً أن الإنفاق لم يحسّن في مستواهم المعيشي، بل العكس؛ فكثير من الخدمات العامة آخذة في التراجع، وأخطرها التعليم؛ إذ تراجعت مكانة الأردن عربيا على هذا المؤشر، وتقدمت عليه دول أخرى كانت في ذيل المؤشر سابقاً.
التفسير الأخطر شعبياً يكمن في قناعة راسخة لدى الأردنيين عموماً -من دون أن يعني ذلك صحتها بالضرورة- بأن فساد المسؤولين وتلاعبهم بأموال الخزينة هو السبب الأهم لضياع المال العام.
وهذا الفساد يتوزع بين "مالي" معروف، لكنه لا يصل للحجم الذي يتخيله الناس؛ وفساد "إداري" يتسبب في ضياع الأموال، وأدى إلى خلق ظاهرة "الفساد الصغير" الذي ينهش مختلف المؤسسات، وتحديدا تلك التي لها علاقات مالية مباشرة مع الجمهور.
الشعور بالخذلان لدى دافعي الضرائب، نتيجة محدودية أثر الإنفاق العام، جذر لديهم القناعة بأن أموالهم تُسرق، مع رفض تام للمبرر الحقيقي، ولو جزئياً، وهو عدم توجيه الإنفاق بشكل صحيح. ويضاف إلى ذلك الشعور غياب معايير قياس أثر الإنجاز، كما محاسبة من يهدر المال، عدا عمن يسرقه.
التفسير الآخر لضياع الأموال مرتبط بقناعة صلبة لدى الأردنيين باستغلال المسؤولين لمواقعهم العامة لتحقيق منافع خاصة. وهذه، للأسف، ظاهرة لم تتراجع، بل تتزايد أكثر فأكثر، من دون أدنى حساب لردات فعل المجتمع على مثل هذه الممارسات المريضة.
القصص والأمثلة هنا عديدة، تبدأ بعقود وعطاءات وتنفيعات يتم معظمها بناء على مدى نفوذ المستفيد، أو مقابل صفقات لتمرير تشريعات. والخطير خصوصاً في هذا النوع من المسلكيات وتأثيرها على المال العام، هو أنها ما تزال ممارسات مقبولة لدى أغلبية نخبنا السياسية، بحيث تتم من دون شعور بخجل أو خوف، وفق قناعة سطحية لدى هؤلاء بأنهم ليسوا فاسدين طالما أنهم لم يسرقوا المال مباشرة، ولم يحصلوا على عمولات تودع في حساباتهم البنكية الخاصة.
كما أن الواسطة ما تزال تمارس بشكل مقبول حد العلانية. مع أن هذه الحقيقة هي أحد أسباب ضياع المال العام. فالعقود المالية خيالية القيمة، والتعيينات غير الموضوعية لعشرات الآلاف من الموظفين، والتي يتم تمريرها من تحت الطاولة، هي بداهة إضاعة للأموال وتهميش للكفاءات.
فتدوير أسماء المسؤولين وتهميش الشباب، أحد أسباب غياب الإيمان بما تفعله السلطتان التنفيذية والتشريعية. كما يعمق العجز عن خلق نخب جديدة فكرة عطب ماكينة إنتاج نخب وشخصيات قادرة على استعادة الثقة.
الهدر أخطر من الفساد. وأن تنفق حكومة أموالا طائلة من دون أن يدرك ويستشعر الناس منافعها، سيجعلهم بالتأكيد يؤمنون أكثر أن الفساد معشعش ولن يزول.
الأردن بلد صغير لا يخفى فيه شيء. وقصص المسؤولين واستغلالهم لمواقعهم والمكتسبات الكبيرة التي تحققت لبعضهم، ترسّخ كل معتقدات الناس بخصوص الفساد، سواء ما كان منها صحيحا أو من صنع خيال المجتمع