التاريخ
كان ظهور الارتباط السياسي بالنسبة للآشوريين، قد وضح في الخضوع لسيطرة أسرة أور الثالثة، والتي ما إن بدأ سلطانها بالزوال، حتى تطلع الملك "بوزور آشور الأول" لإعلان الاستقلال والعمل على تأسيس الحكم الآشوري خلال العام 2000 ق.م، ليبدأ التحرك نحو مناطق الحوض الجنوبي من وادي الرافدين. والواقع أن الآموريين بدؤوا في إعلان ولائهم للآشوريين من أجل التمكن من الاستقرار من منطقة مركز الحكم الآشوري، وبالتالي التمكن من النفاذ إلى قمة هرم السلطة والسيطرة على مؤسسة الحكم، وكان لهذه الحركة أثرها في توسع النفوذ الآشوري إلى سواحل البحر المتوسط في سوريا، إلا أن ظهور الملك حمورابي كان قد أوقف مرحلة التوسع الآشوري، بعد أن أخضعها تحت نفوذه.
بعد سقوط الدولة البابلية الأولى على يد الحيثيين، تمكن الآشوريين من استثمار الفرصة، لإعلان استقلالهم على يد الملك "شمش آدار الثاني" في العام 1380 ق.م، الذي تميز عهده بالعمل الجاد والدؤوب على إعادة بناء وتوسيع الدولة الآشورية، إلا أن خلفاؤه لم يكونوا بمستوى طموحاته، هذا بالإضافة إلى حالة الخطر والتهديد الذي ظهر على يد الميتانيين من القبائل الحورية والممالك السورية خلال منتصف الألف الثاني ق.م، حيث قيض لهم السيطرة على الدولة الآشورية حوالي مائة عام.
ساهمت العلاقات الدولية المحتدمة بين القوى الناهضة، في تغيير ملامح الصورة السياسية العامة، إذ لم تستقر الأوضاع، بقدر ماكانت الطموحات هي الدافع الرئيس في صدام القوى، وتوجيه التحالفات، فالميتانيون كانوا قد دخلوا في صراع سياسي وعسكري ضد الحيثيين، هذا بالإضافة إلى الانقسام الذي ظهر داخل البيت الميتاني الحاكم، ليتبلور الاتجاه لدى ملك آشور المدعو "آشور أوبلط الأول" في إعلان تحالفه مع أحد أطراف النزاع الداخلي.
إن النتائج التي تمكن أن يحصل عليها الملك الآشوري، لاسيما في التخلص من النفوذ الميتاني والتمكن من اقتسام بلادهم، أن جعله يتوجه نحو توطيد أواصر علاقاته السياسية، مع القوى السياسية الفاعلة، حيث أقدم على الزواج من ابنة الملك الكاشي الذي كان يفرض نفوذه على بابل . وقد حظيت مملكة آشور بملوك خلفوا "آشور أوبلط" وكانوا على مستوى المسؤولية وانتهجوا ذات الأسلوب الذي سار عليه، ليثمر عن ذلك خلال القرن التاسع ق.م، بلوغ مستوى الإمبراطورية الآشورية بكل قوتها ونفوذها السياسي. من الملوك الآشوريين البارزين "شلمنصر الأول" الذي دام حكمه 1266 - 1243 ق.م، وتطلع إلى توجيه العديد من الحملات العسكرية وعمل على استبدال العاصمة "آشور" بمدينة "نمرود". أما العمل الأبرز فكان على يد الملك "توكلتي ننورتا" 1243 - 1221 ق.م، الذي تمكن من السيطرة على بلاد بابل، وتوسيع سلطانه في الجهات الشرقية والغربية. لكن بعد وفاة هذا الملك دخلت آشور في مرحلة الضعف السياسي، نتيجة لوصول ملوك ضعاف الشخصية، غير قادرين على إدارة مقاليد الحكم، واستمرت هذه الفترة حوالي مائة عام، حتى بلوغ الملك "تجلات بلاسر الأول" 1116 - 1090 ق.م إلى سدة الحكم، لتكون هذه الفترة مليئة بالإنجازات العسكرية الكبيرة، حيث تمكن من تحقيق الانتصارات المتوالية في الأصقاع البعيدة، في البحر الأسود وسواحل آسيا الصغرى والمدن الفينيقية على الساحل السوري، هذا بالإضافة إلى استعادة السيطرة على مملكة بابل ، وإعادة نقله العاصمة إلى المدينة القديمة "آشور" والعمل على إعادة بنائها من جديد، وذلك بعد أن توفرت الأموال اللازمة التي كانت تأتي إلى العاصمة من مختلف الأقاليم التي تمت السيطرة عليها.
على الرغم من الجهود التي بذلها "تجلات بلاسر" في تدعيم الملك الآشوري وبناء الدولة، إلا أن الخطر الآرامي مثل تهديداً حقيقياً للآشوريين، لاسيما خلال القرن الحادي عشر ق.م. لكن القرن التاسع عشر ق.م، شهد نهوضاً آشورياً جديداً على يد الملك "آداد نيراري الثاني" 913 - 890 ق.م، الذي عمل على مواجهة الخطر الآرامي من خلال إخضاعهم للسلطان الآشوري، وتطلع نحو محاربة بابل لتسفر عن توقيع معاهدة بين الطرفين، اعترفت فيها مملكة بابل بترسيم الحدود مع الجانب الآشوري.
أما المرحلة اللاحقة فقد تميزت في تحركات القبائل الجبلية في المناطق الشمالية من سوريا، وتطلعات الآراميين في المنطقة الغربية حتى جاء الملك "آشور ناصر بال الثاني" 883 - 859 ق.م، الذي وضع لمساته الخاصة في مجال التنظيمات العسكرية، حيث توسع في مجال استخدام العربات العسكرية والخيالة، مع العناية بالجانب الإداري، حيث كان للتوسع الكبير في الفتوحات، أثره في أهمية الاعتماد على ولادة ينوبون عن الملك في إدارة الأقاليم، لاسيما البعيدة منها. وكان الملك "شلمنصر الثالث 858 - 824 ق.م، قد عمل على توسيع رقعة الحكم الآشوري، ليفرض الجزية على الممالك الواقعة في رأس الخليج العربي. هذا بالإضافة إلى الحملات التي وجهها نحو جنوب سوريا. ولعل الحادث الأكثر جسامة في تاريخ الملك شلمنصر، كان قد تمثل في الانتصار الذي حققه في معركة "قرقارة" عام 853 ق.م، عندما واجه التحالف الذي تم بين الآراميين، خصوصاً بعد تعرض مدينة "دمشق" لهجوم شلمنصر، وعلى الرغم من تمكن الملك من مواجهة جيوش إثنتا عشر مملكة آرامية، إلا أنه لم يتمكن من دخول "دمشق" . ومما فاقم في الأوضاع، ظهور حالة من التمرد الداخلي في الأسرة الحاكمة، حيث أعلن أحد أبناء الملك راية العصيان، مما كان له الأثر البالغ في فقدان مملكة آشور لبعض الأقاليم الآشورية-البابلية، من خلال إقدام الملك "شمش آداد الخامس 824 - 810 ق.م، للزواج من الأميرة البابلية "سميراميس" التي صارت الوصية على عرش ولدها الصغير بعد وفاة والده الملك. والواقع أن مملكة آشور كانت قد وقعت تحت حكم بعض الملوك الضعاف الذين لم يتمكنوا من تقديم، أي إنجاز سياسي، حتى ظهور الملك "تجلات بلاسر الثالث" 745 - 727 ق.م.
مايميز عصر هذا الملك، الاتجاه الشديد والقاسي، نحو فرض العقوبات الصارمة بأعدائه، فقد تمكن من دخول مدينة دمشق عام 732 ق.م، وعمد إلى نقل سكانها إلى خارج المدينة، من أجل القضاء على نفوذ الدولة الآرامية بدمشق، وكان هذا الأسلوب قد ابتدعه ليسير خلفاؤه من بعده عليه، من جانب آخر كان تركز تجلات بلاسر على محاربة الميديين في بلاد فارس، فيما تمكن من احتلال مدينة بابل عام 729 ق.م، وإعلان نفسه ملكاً عليها. وكان من نتائج التوجه نحو الفتوح والحركات العسكرية المستمرة، أن توسعت رقعة الإمبراطورية الآشورية، لتشمل مناطق بعيدة أتاحت لخلفه الملك شلمنصر الخامس 727 - 722 ق.م، أن يحظى بمملكة واسعة الأرجاء، محكمة البنيان، تدخل خزانتها الأموال الواسعة الكبيرة، إلا أنه تعرض للانتفاضة الداخلية، لينتقل الحكم إلى أخيه الملك سرجون الثاني 722 - 705 ق.م، الذي واجه الأطماع المصرية في المنطقة بعد أن فقدت نفوذها في فلسطين، ودولة بابل التي حاولت التخلص من السيطرة الآشورية المباشرة. فيما تميزت خطوات "سرجون الثاني" بالتؤدة والحكمة، حتى أنه صفح عن ألد أعدائه، وعينهم في مناصب مهمة، مثل حكام إمارات، كل هذا من أجل حفظ الموازنات ، ليتمكن بالتالي من الحصول على لقب ملك بابل.
من جانب آخر قيض لهذا الملك أن يتم له القضاء على مملكة السامرة عام 722 ق.م، ويعمد إلى طرد أهلها واستبدالهم بسكان جدد، وبعدد أكبر مما كان، وعين عليها حاكماً آشورياً مع فرض الجزية. وفي الوقت ذاته برزت التدخلات المصرية في المنطقة الغربية، حيث عمدت إلى تقديم الدعم من أجل ظهور التمرد والثورات ضد النفوذ الآشوري. لكن سرجون الثاني لم تخمد همته، بل حرص بالإضافة إلى نشاطاته العكسرية، إلى تأمين الطرق التجارية في سوريا عند الشمال الغربي وفي جزيرة العرب واليمن وحضرموت . أما في الأقاليم الشمالية من سورية فإن جهوده أثمرت عن مد سلطانه إلى طوروس وآرارات وعمد إلى احتلال قبرص، بل وحرص على فرض نفوذه في مناط التخوم مع الجنوب مع بلاد مصر ولاسيما وفلسطين. أما في المجال العمراني، فقد حرص على تطوير مدينة "آشور" العاصمة القديمة، لينتقل بعدها إلى مدينة "نمرود"، فانتقالة مرة أخرى إلى مدينة "نينوى"، لكنه حرص في العام 713 ق.م، على إنشاء مدينة جديدة "خرسباد" بعد أن أحاطها بسور حصين، تم بناء مائة وخمسون برجاً عليه، مع ثمان بوابات مرسوم عليها الثيران المجنحة لحراسة المدينة، وقد تم افتتاح المدينة عام 706 ق.م، بعد أن خططت بشكل دقيق وحاذق يثير الإعجاب، ليكون دلالة عميقة على التطور الفني والعمراني الذي بلغه الآشوريون، لاسيما وأن حالة الاتصال مع الثقافات الأخرى كان له الأثر البارز في هذا المجال. لكن المدينة سرعان ما أهملت، خصوصاً وأن خلفه الملك "سنحاريب" 705 - 681 ق.م، وقد نقل العاصمة إلى "نينوى".
مايميز عهد "سنحاريب" حالة التقارب والتحالف مع الفينيقيين واليونان، الذين قدموا له الدعم في إنشاء السفن التي استخدمها في محاربة الممالك البابلية الموجودة في أقصى الجنوب عند رأس الخليج العربي، لاسيما بابل وبعض الممالك السورية كانت قد وقفت بالضد من بلاد آشور) في شرق سوريا والهلال الخصيب. أما الملك "أسرحدون 680 - 669" ق.م الذي قيض له أن يقمع الفتنة التي ظهرت في أعقاب والده سنحاريب، فقد توجه بكل ثقله نحو محاربة مصر في شرق الدلتا عام 675 ق.م ،م.
بوفاة الملك "أسرحدون" المفاجئة، تعرضت الأسرة الحاكمة إلى مشكلة وراثة الحكم، حيث تمكن الابن الثالث "آشور بانيبال" 669 - 626 ق.م، من السيطرة على الحكم في بلاد آشور، أما الابن الأكبر "شمش شوم أوكين" فقد عين وريثاً شرعياً للمملكة في بابل، وكان التعاون بين الأخوين قد استمر لمدة عشرين عاماً، لكن الأطراف المناوئة للنفوذ الآشوري، حاولت التقرب إلى الملك "شمش شوم"، محرضينه على أهمية التمرد على أخيه الملك "آشور بانيبال". وقد عملت عدة أطراف في هذا المجال منها الكلدانيون والعيلاميون والممالك السورية وامراء القبائل العربية، ليسفر عن ذلك حصار لمدينة بابل عام 652 ق.م، دام حوالي السنتين انتهى بوفاة الملك "شمش شوم" وتدمير مدينة بابل، ليتوجه "آشور بانيبال" بعدها إلى تأديب الحلفاء حيث هاجم العيلاميين، وعمد إلى تدمير مدينة "سوسة".
وكعادة الآشوريين، فإن مشكلة ولاية العهد كانت الأكثر حضوراً في الواقع السياسي، حتى أن وفاة أي ملك منهم، تمثل مرحلة قلاقل وصدامات بين الأمراء، إذ عادت الحروب بين الإخوان حول ولاية العهد والفوز بالمنصب الملكي، وقد استثمرها ملوك الأقاليم للانفصال عن الحكم الآشوري، حيث انفصلت فلسطين وسوريا وأرمينيا، وظهرت الأسرة الكلدانية في بابل، وبدأ الميديون بتهديد العاصمة الآشورية. وقد بلغ الأمر قمته عندما تم التحالف بين الميديين والبابليين لاقتسام مملكة آشور وتدمير العاصمة "نينوى" ونهب كنوزها .
كان للطبيعة الحربية التي نشأ عليها الآشوريون، قد انعكست في مجال الاعتقاد والعبادات الدينية، حيث يغلب على آلهتهم الصفة الحربية، وهذا مايتجسد في كبير الآلهة لديهم وهو "آشور" إله الحرب، حيث يجسد في رسم محارب قاسي الملامح يحمل العدّة الحربية الكاملة والجاهزة. وفي المرتبة الثانية تأتي منزلة الآلهة "عشتار" زوجة "آشور"، حيث يتم رسمها وفق السمة الحربية، حيث تحمل السيف والقوس وتضع على كتفها السهام المعدة للقتال. والواقع أن عبادة الآشوريين لم تتوقف على هذين الإلهين، بل إن الاحتكاك مع الأقوام والثقافات المختلفة ومنهم الاراميين، جعلتهم يتوجهون نحو عبادة العديد من الآلهة مثل؛ "شمش، سن، آدد، نابو، بعل، مردوخ، إينورتا"