معركة حطين الخالدة .. بين المسلمين والصليبيين –
د. كمال إبراهيم علاونه
معركة حطين الخالدة .. بين المسلمين والصليبيين
583 هـ – 1187 م
هذه الدراسة جزء من كتاب فلسطين العربية المسلمة ، لمؤلفه د. كمال علاونه ، الذي يدرس بجامعة فلسطين التقنية / طولكرم ، كمساق إجباري ( قضية فلسطينية ) لجميع طلبة الجامعة من درجة البكالوريوس في جميع التخصصات العلمية والإنسانية .
في يومي 24 و 25 ربيع الآخر هـ ( تخليدا لعام 583 هـ ) يتذكر المسلمون ذكرى معركة حطين الباسلة ، ذكرى عزيزة خالدة محفورة في ذاكرة التاريخ الإسلامي ، ذكرى المجدد للإسلام صلاح الدين الأيوبي ، ذكرى الانتصار والبطولة والغلبة على جموع احتلالية إفرنجية غربية صليبية تتذرع بحمل الصليب جاءت من أوروبا لاستعمار المشرق العربي واستمرت في غيها واضطهادها نحو ( 90 عاما هجريا )، قلة قليلة مسلمة تتغلب بعون الله على كثرة كثيرة مستعمرة . وفي ذات الوقت ، في يومي 3 و 4 تموز عام 1187 م ، يتذكر على الجانب الآخر الفرنجة ما جرى لهم من ذل وخيبة وطرد على أيدي جحافل المسلمين في ارض كنعانية – فلسطينية – إسلامية ، في قرية حطين ، قرب طبرية ، البحيرة والمدينة ، بعد ثمانية وثمانين عاما شمسيا، من الاستغلال والاحتلال لمقدرات امة أخرى ، كانت ” خير أمة أخرجت للناس ” فهل يا ترى استفاد الجانبان الإسلامي والغربي وأحفادهم وأحفاد أحفادهم العبر والعظات ؟ نصر وغلبة لأصحاب الحق ، وقتل وولولة للمحتلين الطارئين ؟
والكثير من الباحثين والدارسين القدماء والحاليين ما زالوا يطرقون ويسبرون غور سر النصر والهزيمة على حد سواء ، فهذه المعركة الفاصلة لها من الأسرار الخفية التي ما فتئت تناقش وتبحث وتستخرج منها العظات والعبر من بطون الكتب ، ومن بطن التاريخ ، على كافة المستويات الأكاديمية والسياسية والعسكرية والفكرية ، وترصد لهذه الأبحاث الميزانيات الاستثنائية والطارئة أو المحددة أحيانا . ونحن هنا في فلسطين ، ارض الإسراء والمعراج ، الأرض المقدسة ، ارض حطين النصر يجب أن لا ننسى هذه الذكرى الخالدة التي انتصر فيها الحق على الباطل ” قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ” ولنا العبر والعظات المتجددة عبر التاريخ الزمني وعبر الذاكرة الذهنية الإنسانية لنعرف سر النصر والنجاح ، من الإعداد والاستعداد الروحي والإيماني والنفسي والفكري والعسكري ، من تنشئة وإعداد الفرد والجماعة على الجهاد في سبيل الله ، والوحدة والتوحد تحت لواء إسلامي واحد ، وكيفية إدارة المفاوضات السلمية السياسية والجنوح للسلم إذا جنحوا لذلك ، لقطف ثمار النصر العسكري بجميع الاتجاهات والمسارات وغيرها .
وحطين .. هذه القرية العربية الفلسطينية على بعد 9 كم غرب طبرية ، أين هي الآن ؟ لقد دمرها الاحتلال الإسرائيلي في حرب عام 1948 كغيرها من القرى والمدن الإسلامية ، وأخرج أهلها الذين كان عددهم نحو ألف مواطن [1] في محاولة لطمس التاريخ الإسلامي المشرف .. ألا ساء ما يفعلون .
سنحاول تسليط الضوء على ذكريات هذه المعركة الفاصلة بين الحق والباطل ، ذكرى معركة حطين ، معركة اليومين الخالدين ، لعلنا ، نحن أحفاد صلاح الدين الأيوبي ، نسترجع ذكريات النصر والعز والكرامة وتدمير الظلم والظلام بكل ما أوتي الإنسان المسلم من عزيمة وقوة لا تلين ، وإرادة لنيل مرضاة الله سبحانه وتعالى ، واسترجاع المقدسات الإسلامية ، وخاصة المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس ، وسنسعى إلى أن تكون هذه الدراسة الجديدة دراسة مستفيضة بكافة المناحي والصعد الإيمانية والروحية والعسكرية والسياسية والتجديدية ما أمكن ، ونحن في القرن الخامس عشر الهجري ، لهجرة المصطفى محمد نبي الله ورسوله صل الله عليه وسلم ، وفي بدايات القرن الحادي والعشرين الميلادي . وسنعمل على استذكار آيات قرآنية مجيدة لشحن النفوس بكهرباء النصر .
1. حياة صلاح الدين الأيوبي
هو يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان الكردي ، ولد لأبوين كرديين ، عام 532 هـ / 1137 م ، في بلدة تكريت في العراق . تبوأ والده يوسف الملقب بنجم الدين منصب حاكم قلعة تكريت العراقية ومحافظا على بعلبك اللبنانية . وقد نشأ صلاح الدين ( يوسف ) في مدينة بعلبك إذ عمل والده زمن نور الدين بدمشق وتربى على الفروسية والنزال والحرب والجهاد وكان حافظا للقرآن الكريم [2] . وصفه القاضي بهاء الدين ، بأنه كان تقيا بعيدا عن المعاصي يخشى الله سبحانه وتعالى ، وقال عنه : ” كان رحمه الله خاشع القلب غزير الدمعة إذا سمع القرآن خشع قلبه ودمعت عيناه ، وكان رحمه الله كثير التعظيم لشعائر الدين ” . وقال عنه القاضي ابن شداد : ” كان إذا سمع العدو قد داهم المسلمين خر إلى الأرض ساجداً داعيا الله سبحانه وتعالى : ” إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك ، والإعتصام بحبلك ، والإعتماد على فضلك ، أنت حسبي ونعم الوكيل ” .
انتقل صلاح الدين إلى مصر في الحملة الأولى على هذه البلاد برفقة عمه أسد الدين شيركوه عام 559 هـ ، وعين وزيرا في سنة 564 هـ / 1169 م وكان عمره 32 سنة ، وأطلق عليه الخليفة الفاطمي العاضد آخر الخلفاء الفاطميين ( 1160 – 1171 م ) لقب الملك ( ملك مصر ) ثم أصبح يحمل لقب الملك السلطان الناصر صلاح الدين . وبعد عامين من توليه الوزارة عمل على إحلال السنة محل الشيعة في مصر ، وتوحيد العرب والمسلمين من العراق إلى بلاد الشام واليمن ومصر وليبيا وسواها ، تحت إمرة الخليفة العباسي المستضئ وأقام الخطبة للخليفة والغى الخطبة للفاطميين والسلاجقة . وفي إعقاب وفاة نور الدين زنكي رئيس صلاح الدين الأيوبي أعلن صلاح الدين استقلال مصر وضم سوريا له .
وفي عام 1175 م أصدر الخليفة العباسي قرارا بإسناد السلطة لصلاح الدين على مصر والمغرب وغربي الجزيرة العربية وفلسطين وسوريا ، وكانت بلاد الحرمين الشريفين ( الحجاز ) قد ألحقت بمصر . أما اليمن فقد تولى حكمها توران شاة اخو صلاح الدين الأكبر ، وبعد نحو عشر سنوات الحق صلاح الدين الموصل والعراق له . وقد تعرض صلاح الدين لمحاولة اغتيال فاشلة من قبل الحشاشين . على أي حال ، بذل صلاح الدين الأيوبي كافة الجهود المخلصة لتوحيد كلمة العرب المسلمين على أسس إسلامية راسخة المعالم والبنيان ، وعمل على إعلاء كلمة الحق والدين الإسلامي فعمد إلى إحياء الجسم الإسلامي الواحد الذي يشد بعضه بعضا كالبنيان المرصوص وتألم لعذاب المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا ، وقضى على الفتن والانقسامات الداخلية من الحشاشين والإسماعيلية في صفوف العرب المسلمين واهتم بالإعداد البشري والمادي لمقارعة المعتدين على الديار الإسلامية في قارتي آسيا وأفريقيا . ومن ضمن اهتماماته العمل على تحرير فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك مهما كلف الثمن بالقضاء على الحملة الصليبية الأولى التي شنها الإفرنج متخذين شعارا براقا وهو الصليب على الصدور والاستيلاء على ” أقاليم الكتاب المقدس ” وخاصة فلسطين . وفي 22 شعبان 588 هـ / 12 أيلول 1192 م ابرم صلح الرملة بين السلطان الناصر صلاح الدين والملك ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا ، وحددت مدة الصلح بثلاث سنوات وثلاثة اشهر . وبذلك انتهت الحروب بين الجانبين الإسلامي والصليبي .
وتوفي رمز البطولة والفروسية الإسلامية في عصره ، السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بمرض الحمى في سنة 589 هـ / آذار 1193 م ، وعمره ( 55 ) سنه ، ودفن في دمشق . وقبره لغاية الآن في العاصمة السورية دمشق .
2. مرحلة الإعداد الإسلامي العام
سار صلاح الدين الأيوبي على خطى ثابتة واضحة المعالم استعدادا ليوم اللقاء والمواجهة يوم الفصل العظيم عندما يحين الحين واضعا نصب عينية : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } [3] . فلم يهن في ابتغاء القوم بل عمل على إعداد العدة بكل ما أوتي من قوة فكان ممن شملتهم بذلك الآية القرآنية : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [4] . وقد واصل صلاح الدين الأيوبي عملية الاستعدادات الشاملة في كافة المجالات والميادين ، ولم يغره تقلب الذين كفروا في البلاد ، على النحو التالي :
أولا : الإعداد النفسي والفكري الإسلامي :
القرآن الكريم ، هو الدستور وهو الأساس الذي اعتبره صلاح الدين الأيوبي الحافز لإعلاء كلمة الله في الأرض ، ونشر العدل والمساواة وإحقاق الحق بكافة أشكاله وصوره ، فكان القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي حافظا للقرآن الكريم وداعيا إلى إتباع أوامره واجتناب نواهيه في بوتقة إسلامية شاملة ومتكاملة ، حاثا على الاعتصام بحبل الله المتين ، كما قال البارئ عز وجل : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [5] . وكان ممتثلا للأحاديث النبوية الشريفة والاستفادة منها في تنظيم شؤون الرعية في كافة المجالات والميادين . وقيل إن صلاح الدين الأيوبي كان يختار أيام الجمع لمقاتلة الأعداء ، بعد صلاة الجمعة الجامعة ، وكان يختار الجنود ممن يصلون ويلتزمون بصلاة الفجر جماعة في المساجد ويقرأون القرآن الكريم ، ويعتبر أنهم من المؤمنين حقا ولديهم الاستعداد النفسي والروحي للجهاد في سبيل الله وهم اقدر على تحمل المهام الجسام . وعندما كان يتفقد خيم جنود الجيش يحثهم على قراءة القرآن ويقول لهم : ” من هنا يأتي النصر ” ، وعندما كان يدخل خيمة ولا يجدهم يقرأون القرآن الكريم يقول لهم : ” من هنا تأتي الهزائم ” .
ثانيا : بث روح الجهاد في سبيل الله :
والجهاد في سبيل الله ، ذروة سنام الإسلام ، كان هاجس القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي لنشر الإسلام والقضاء على البدع والفرقة والانقسام ، وتخليص الإسلام والمسلمين من أطماع الطامعين الغربيين . قال ابن شداد عن صلاح الدين ، ” كان الرجل إذا أراد التقرب إليه يحثه على الجهاد أو يذكر شيئا من أخبار الجهاد ، وقد ألف له كتب عدة في الجهاد ، وأنا ممن جمع له فيه كتابا … وكان كثيرا ما يطالعه ” [6] . فعمل على ترسيخ مفهوم الجهاد في سبيل الله بالقول والفعل بصورة متكاملة ، والجهاد له ترغيب وترهيب ، ترغيب في إتباع مبادئ الإسلام الحنيف وترهيب من التصدي أو الاعتداء على حمى المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا . والجهاد في سبيل الله يشمل ، مجاهدة النفس وحثها على إتباع الإسلام ومجاهدة الشر والطغيان ، والكفار والمحتلين : باليد واللسان والقلب . امتثالا لقول الله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [7] . وكان المسلمون يقولون : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ثالثا : الإعداد العسكري البري والبحري :
اتخذ صلاح الدين من شعار النسر شارة حربية للفارس الإسلامي . واهتم بالإصلاحات والتطويرات العسكرية البرية والبحرية على حد سواء ، فأنشأ ديوانا خاصا للجيش الإسلامي ، بجناحيه : البري والبحري ، هذا الديوان الذي يعنى بعدد الجند والعتاد الحربي وصناعة السلاح وتركيب المنجانيق ( جمع منجنيق ) وهو الآلة الحربية المعروفة آنذاك لقذف الحجارة الكبيرة بإتجاه الحصون والقلاع ، واعتنى كذلك بالأسطول البحري الحربي ببناء السفن تحت إمرة ( أمير البحر ) وهو قائد الأسطول أو القوات البحرية . فكان الإعداد النفسي والفكري على أساس العقيدة الإسلامية المجاهدة متلازما مع التجهيز والإعداد المادي جنبا إلى جنب . وإهتم أيضا صلاح الدين بالحمام الزاجل للمراسلات بين البلاد .
رابعا : تنظيم الأوضاع الداخلية وتوحيد صفوف المسلمين :
لجأ صلاح الدين الأيوبي إلى إعادة تنظيم الشؤون الإدارية العامة للمسلمين ، وإعادة الارتباط بالخلافة العباسية للخليفة المستضيء عبر خطبة الجمعة من على المنابر في بيوت الله . وتعيين الولاة والقضاة والعلماء ، مثل القاضي الفاضل ، وعماد الدين الكاتب الاصفهاني ، والعالم العراقي عبد اللطيف البغدادي ، وكان بهاء الدين ابن شداد كاتما لأسرار صلاح الدين . وقرب إليه مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها واسند إليه مهام قيادية مهمة [8] .
خامسا : تشجيع العلم والأبنية العمرانية والقلاع :
إهتم صلاح الدين الأيوبي في عهده ، ببناء المساجد والمدارس وبناء السدود وحفر الاقنية .
سادسا : تجديد الهدنة مع بعض الصليبيين :
عقد صلاح الدين الأيوبي هدنة جديدة مع ( بوهمند ) حاكم إنطاكية وطلب المسلمون من ريموند ( القمص ) حاكم طرابلس وطبرية الصليبي أن تمر قوة إسلامية صغيرة بأراضي الجليل التي يسيطر عليها ، فوافق على مرور المسلمين من هذه الأراضي بعد طلوع شمس اليوم التالي وان يعودوا قبل حلول الليل وعدم إلحاق أي أذى بالقرى والمدن التي يمرون منها [9] ، وقد ساهمت هذه الحادثة في رفع معنويات الجيش الإسلامي وأدت إلى زعزعة ثقة الصليبيين ببعضهم البعض إلا أن ( القمص ) ما لبث أن تراجع عن تأييده للجيش الإسلامي [10] .
3 . إنطلاقٌ من الشام
هاجر صلاح الدين الأيوبي من مصر إلى الشام ، وأخذ يعمل على إعداد العدة من الرجال والعتاد من بلاد الشام ، فهو المسلم المهاجر من تكريت العراقية إلى مصر وإلى بلاد الشام ، وذلك لمجاهدة المحتلين الفرنجة ، الذين عاثوا في الأرض الإسلامية ( بلاد الشام ) فسادا وتخريبا فلم يسلم منهم الإنسان المسلم أو المقدسات الإسلامية . لقد تحققت نبوءة طيبة قديمة في تلك الفترة من نبؤآت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال : ” رأيت كأن عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فاتبعه بصري ، فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ، ألا وان الأيمان إذا وقعت الفتن بالشام ” [11] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ يَرْفَعُ اللَّهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ اللَّهُ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ” [12] . وأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا هُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ ” [13] . وفي رواية أخرى ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا عَمُودَ الْكِتَابِ فَعَمَدُوا بِهِ إِلَى الشَّامِ ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ فَالأَمْنُ بِالشَّامِ ” [14] . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : ” أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ ، وَلا يَمُوتُوا إِلا غَمًّا وَهَمًّا ” [15] . فها هو صلاح الدين الأيوبي القائد المسلم يحقق هذه النبوءة المحمدية الشريفة ، فجاء الأمن للمسلمين في أعقاب واقعة حطين الخالدة أبد الدهر والسنين ، وهاهم أهل بلاد الشام بقيادة مظفرة على رأسها الناصر لدين الله صلاح الدين ، سوط الله في أرضه ، انتقم بهم من الفرنجة الصليبيين الحاقدين ، كيف لا وهو احد تلامذة المصطفى صل الله عليه وسلم الغر المحجلين . فها هي بلاد الشام صفوة البلاد عند الله العزيز الحكيم تجاهد في سبيل الله ضد الغاصبين ، كما قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ” الشَّامُ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ بِلادِهِ ، يَجْتَبِي صَفْوَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّامِ إِلَى غَيْرِهَا ، فَبِسَخْطَةٍ، وَمَنْ دَخَلَهَا فَبِرَحْمَةٍ ” [16] .
4. حيثيات معركة حطين
عمد القائد صلاح الدين الأيوبي إلى توحيد أجنحة البلاد العربية من نهر دجلة في العراق شرقا إلى نهر النيل في قارة أفريقيا غربا وجعلها تحت سيطرته للدفاع عن المسلمين والتصدي للقوات الصليبية المحتلة للأرض العربية الإسلامية ، بالدفاع تارة والهجوم تارة أخرى ، وذلك بعد أن فرض هيبته وقوته على الإمبراطورية البيزنطية وعقد الصلح أو الهدنة معها . وعلى الجانب الآخر ، تعرضت المملكة اللاتينية الإفرنجية( أورشليم ) في بيت المقدس لنكسة اثر وفاة الملك بلدوين الرابع ، فتسلم الملك بلدوين الخامس مقاليد الحكم بعده ، ثم توفي فخلفه ” غي دي لوزنيان ( لوسينيان )” فأصبح الفرنجة المحتلون يتخبطون في همومهم الداخلية .
وكان تعرض قافلة تجارية مسلمة آتية من القاهرة إلى دمشق وأسر أفرادها وتعذيبهم وسبي نساء القافلة ، وسلب ونهب ممتلكاتها ، من قبل رينالد شاتيون ( أرناط ) ، صاحب بارونية الكرك عام 582 هـ / 1187 م ناقضا معاهدة كانت أبرمت بين السلطان صلاح الدين وملك المملكة اللاتينية في بيت المقدس [17] ، كان السبب المباشر والفتيل الذي أشعل شرارة الحرب الأولى بين المسلمين والصليبيين الإفرنج ، فطلب صلاح الدين الأيوبي من ملك المملكة اللاتينية ” غي دي لوزنيان ” إعادة ما نهبه أرناط فرفض أرناط ذلك ” فنذر السلطان دمه ” [18] ، ليس ذلك فحسب بل إن أرناط جهز جيشا وارهب شواطئ الحجاز على البحر الأحمر ونهب قوافل الحجاج المسلمين ، وأعلن أرناط أنه سينبش قبر الرسول محمد صل الله عليه وسلم . حينئذ ، بعد التنكر للمعاهدة المبرمة بين الجانبين : المسلمين واللاتينيين في بيت المقدس أعلن السلطان صلاح الدين الأيوبي ” الجهاد في سبيل الله ” من دمشق وبعث إلى قادة وأمراء المسلمين للإعداد للحرب والدفاع عن المسلمين من تعديات الصليبيين الفرنجة الكفرة وخاصة ارناط ، الذي تطاول على شخصية نبي الله محمد صل الله عليه وسلم بقوله : ” إن كنتم تعتقدون في محمد فادعوه لأن يفك أسركم ويخلصكم من شر ما وقعتم فيه ” ، عند تعرضه وأسره القافلة الإسلامية المذكورة .
وقد تمكن صلاح الدين الأيوبي من منع ارناط من التصدي لقافلة حجاج مسلمين أخرى متوجهة إلى مصر ومن ثم إلى مكة المكرمة في محرم 582 هـ الموافق نيسان 1187 م لأداء فريضة الحج الإسلامية ، وحاصرت قوات صلاح الدين الأيوبي الكرك وشددت الحصار عليها إلا أنه لم يستطع فتحها كونها كانت حصينة ، فرفع الحصار عنها ورجع إلى رأس الماء في حوران ملتقيا بقوات إسلامية أخرى يقودها ابنه الأفضل ، وأصبح عدد قوات المسلمين نحو 12 ألف جندي [19] ، وهو يردد في نفسه قول الله ، ناصر عباده المؤمنين في محكم التنزيل :
{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [20] . ثم توجه صلاح الدين الأيوبي إلى الأردن في 17 ربيع الثاني 583 هـ / 1187 م ،
وطلب من قومه دخول الأرض المقدسة ، ومحاربة الصليبيين المحتلين ، وكأن لسان حاله يقول كما جاء في الآية العزيزة في القرآن المجيد :
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [21] ،
وكان لسان حال الجند المسلمين معه ، يقول كما جاء في الآية القرآنية الكريمة أيضا: { قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا } [22] .
واستولى على طبرية بعد حصار دام ستة أيام ، وعسكر بثغر ( الأقحوان أو الأقحوانة ) لمدة خمسة أيام يتفقد مواقع القتال ويسمع آراء أمراء الجيش الإسلامي ، وقد أحاط الجيش في هذه الفترة ببحيرة طبرية [1] ، واستولى عليها وبقيت قلعة طبرية تحت سيطرة الصليبيين فاستنجدت ايشيفا الصليبية زوجة ريمون حاكم طرابلس بالفرنجة فأشار زوجها ريمون على الصليبيين بأنه لا يؤيد توجه الجيوش الصليبية إلى طبرية ولا يرضى بتدمير هذه الجيوش وقال إذا سيطر المسلمون على القلعة فماذا عساه أن يفعل وأوضح أن المسلمين إذا سيطروا على القلعة فلن يستمروا فترة طويلة في منطقة طبرية بعد عملية حرقها وتخريبها . وأصدر القائد صلاح الدين أوامره إلى بعض الأجنحة البرية العسكرية الإسلامية بالعمل على فتح جبهة أخرى ضد بارونية الكرك والشوبك لتشتيت جهود الصليبيين في عدة معارك جانبية [2] . وطلب من ابنه الأفضل مهاجمة عكا فدعا ابنه الأفضل القائد المسلم مظفر الدين كوكبري وحثه على التصدي لبعض الفرق الصليبية فالتقى بهم عند منطقة صفورية وأبلى فيها جند الإسلام بلاء حسنا وقتلوا قائد الإسبتارية .
5. الجيش الصليبي الإفرنجي .. ويوم الخروج
على الجانب الآخر ، خرج الصليبون في يوم الخروج المحدد لهم ، كما قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [3] . فتجمعت القوات الصليبية من الفرنجة عند صفورية وأوقدوا نار الحرب ، وتشاور القادة الصليبيون الغزاة وقرروا الهجوم على الجيش الإسلامي وتسيير قواتهم نحو طبرية حيث ترابط القوات الإسلامية ، وقد حشد الفرنجة الصليبيون جنودا يقدر عددهم بخمسين ألف جندي من المقاتلين والفرسان [4] ، فأعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم هذه الكثرة من الله شيئا ، ونصب الفرنجة الصليبيون هيئة أركان لجيوشهم ضمت غي لوزنيان ملك المملكة اللاتينية في بيت المقدس وريموند الثالث ( القمص ) حاكم طرابلس وطبرية ( وكانت طبرية من أملاك زوجة القمص الكونتيسية ايشيفا ) وأسقف عكا ، واحضروا صليب الصلبوت ( وهو خشبة الصليب المقدس ) وكانت النية الاستعمارية الصليبية هي العمل الحثيث للقضاء على الجيش الإسلامي وصلاح الدين الأيوبي بصورة نهائية . ورغم معارضة ريمون القمص لتوجه الجيش الصليبي الإفرنجي إلى طبرية بعد إتهامه بأنه لا يريد الحرب مع المسلمين ( والخيانة )، أقنع جيرالد مقدم الداوية الملك ( غاي ) بضرورة توجه الجيش نحو طبرية ، وجيرالد هو صاحب الفضل في تنصيبه ملكا على المملكة اللاتينية ، فنادى المنادون بضرورة توجه الجيش فجرا للقاء الجيش الإسلامي عن طريق الشمال . وتشكلت قيادة الجيش الصليبي كما يلي : مقدمة الجيش يقودها ريمون كونت طرابلس ، كونه حاكم طبرية ، وقلب الجيش يقوده الملك غاي ، ومؤخرة الجيش يقودها رينالد شاتيون ( أرناط ) وفرسانه [5] .
6. يوم الحشر للصليبيين الفرنجة
زحفت جموع الفرنجة بإشارة من جيرالد ( جيرار ) قائد فرسان الداوية أو ما يطلق عليهم ( فرسان الهيكل ) : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } [6] ، زحفوا باتجاه الجيش الإسلامي في طبرية ، في اليوم الموعود ، وبهذا فان القوات المستعمرة جاءت لحتفها . وأوقدوا نار الحرب ليلا ، فأطفأها الله ، قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [7] ، فساء ما كان يعملون . فدعا داعيهم إلى شيء نكر : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ } [8] ، إذ دعا لمقاتلة المسلمين الموحدين بعبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، هذه الثلة التي تسعى لنشر الدعوة الإسلامية وعبادة الله في الأرض ، فأحال الله على الصليبيين الكفار ذلك اليوم وجعله يوما عسرا . وتخيلوا أنهم سينتصرون على المسلمين : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ . سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ . إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ . وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [9] .
7. يوم الخروج الإسلامي
لقد نقلت عيون صلاح الدين له عملية تحرك الجيش الصليبي بإتجاه طبرية ففرح كثيرا لأن منطقة طبرية شديدة الحرارة ، { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [10] . فاستشار صلاح الدين مساعديه ، وفق مبدأ الإسلام : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ . إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ } [11] . وتم الاتفاق على الخروج الإسلامي وملاقاة الفرنجة الصليبيين في 17 ربيع الآخر 583 هـ بعد صلاة الجمعة ، وعقب القائد صلاح الدين الأيوبي ، على ذلك قائلا : ” جاءنا ما نريد ونحن أولو بأس شديد وإذا صحت كسرتهم ، فطبرية وجميع الساحل ما دونه مانع ولا عن فتحه وازع ” [12] ، فحاصر طبرية ستة أيام وأطبق عليها . ووضع صلاح الدين خطة عسكرية ، حكيمة بالغة ، تقضي بتوجه معظم القوات الإسلامية إلى المرتفعات في قرية حطين على بعد خمسة أميال غربي بحيرة طبرية فأغلقت الطريق الموصلة إلى طبرية ، وبقيت قوة صغيرة في منطقة طبرية .
نظم صلاح الدين الأيوبي الجيش الإسلامي البالغ عدده 12 ألف جندي ، بما فيهم رماة السهام النشاب ( الجاليشية ) وعددهم أربعمائة رام للسهم [13] ، كما يلي : ميمنة الجيش : بقيادة تقي الدين عمر ، ميسرة الجيش بقيادة مظفر كوكبري صاحب حران ، قلب الجيش الإسلامي بقيادة صلاح الدين نفسه برفقة بدر الدين دلدرم ( على عسكر حلب ) وصارم قايماز النجمي على عسكر دمشق [14] . وقال لهم :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ } [15] . وتمركزوا في قرية حطين وهي قرية عربية فلسطينية غزيرة المياه وغنية بالمراعي ، فالماء ضروري للحياة للجند والخيول والعشب ضروري للخيول والماشية المرافقة للجيش الإسلامي ، وحرمان الصليبيين من المياه أمر ضروري لإنهاك قواهم في شهر تموزي حار ملتهب من فصل الصيف .
8. يوم حطين المشهود .. يوم الواقعة
عند بزوغ فجر يوم الجمعة 24 ربيع الثاني 583 هـ / 3 تموز 1187 م ، حان موعد الاستعداد للنزال والجدال والفروسية ، فتدفقت الجموع الصليبية المشتركة ووصلت بعد ظهر يوم الجمعة إلى سطح جبل طبرية خلف لوبيه ، عند ” قرني حطين ” ، والقرنان كل منهما على ارتفاع حوالي 30 مترا ، وكانت القوات الصليبية الإفرنجية عطشى خائرة القوى ، بسبب المسيرة الطويلة وارتفاع درجات حرارة الطقس ، إذ أن الوقت كان شهر تموز من فصل الصيف الحار والوقت ظهرا ، ولجأت القوات الصليبية للنوم فوق الهضبة بعيدا عن مرابطة قوات المسلمين ، بأعداد كبيرة { لقد أحصاهم وعدهم عدا } [16] ، متساقطة كتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف ، فتحول الصيف خريفا للأجساد الإفرنجية في غير أوانه ، وأثناء ذلك ، صلى المسلمون صلاة الجمعة ، وانتشروا في مواقعهم استجابة لقول الله العزيز : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [17] . فواصل المسلمون قراءة وتلاوة القرآن الكريم سرا وجهرا بأصوات مرتفعة بخشوع وتدبر كبيرين ، سجودا وقياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ورددوا عبارات التكبير الخالدة وكأنهم في صلاة دائمة متواصلة ليلا ونهارا .. الله اكبر .. الله اكبر ، فبدت بشائر النصر تلوح في الأفق ، وأوجس الفرنجة خيفة كبرى من المسلمين . وعند ظهور الخيط الأسود من الليل ، وفي ظلام تلك الليلة المشهودة ، ليلة السبت ، أصدر القائد صلاح الدين الأيوبي التعليمات والإرشادات العسكرية إلى الجند المسلمين .. على بركة الله ، داعين الله أن يهب لهم النصر وان يهزم الكفار قائلين : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [18] .
التقاء الفئتين للقتال .. يوم الجمع
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [19] . وفي يوم السبت 25 ربيع الآخر 583 هـ / 4 تموز 1187 م حاصر الجيش الإسلامي القوات الصليبية وعندما برزوا لقتالهم : { قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } [20] . وهاجموا القوات الصليبية ، ودنا بعضهم من بعض ، وسلوا سيوف الله المسلولة ، واحرقوا الأعشاب والأشواك البارزة فوق هضبة طبرية ، فسلقوهم وانتشرت النار في الهشيم ، هشيم الأعشاب وهشيم القوات الصليبية .. لا فرق .. كله هشيم في هشيم ، وتعالت سحب الدخان في سماء المنطقة فأصبحت كالجحيم على جيوش الصليبيين المحتلين . فحاولت الجموع الصليبية أن تفل وتهرب من جحيم المعركة ، فقال لهم المسلمون : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [21] .
واستطاعت القوات الإسلامية المسلحة بالصبر والإيمان والجهاد في سبيل الله أن تفتك بجموع الصليبيين الغزاة في يوم الجمع : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } [22] ، فقتل نحو عشرين ألف مقاتل صليبي إفرنجي أو ما يقارب من نصف ذلك الجيش المحشود لمحاربة المسلمين : { فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ . فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [23] . فانقلب السحر على الساحر ” ولا يفلح الساحر حيث أتى ” وانقلبت الحرب على الذين ينقضون المواثيق والمعاهدات ، فأصبحوا هم الخاسرين ، فاستسلم قادة الصليبيين الفرنجة ومن ضمنهم : ملك المملكة اللاتينية في بيت المقدس غي دي لوزنيان وأرناط وعدد كبير من البارونات ومن فرسان الإسبتارية والداوية وفر حاكم طرابلس ريموند الثالث إلى صور اللبنانية مع بعض رجاله عند اندلاع وطيس المعركة [24] ، وهذا نوع من أنواع العذاب الدنيوي لهذه الفئة الظالمة عبر التاريخ الإنساني : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [25] .
طوبى ل ” حطين “
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ . لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ . خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ . إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا } [26] . كما رأينا ، التقت الجموع المؤمنة بالجموع الإفرنجية الكافرة في حطين فلسطين من البلاد الشامية ، فوقعت واقعة حامية الوطيس ، أعلت الإسلام وخفضت من قيمة الطامحين المحتلين ، انتصر الحق على الباطل ، بفضل رحمة الله العزيز الحكيم ، فعن ذلك تنبأ رسول الله صل الله عليه وسلم وقال : ” طوبى للشام ، إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه ” [27] . فكانت الجحافل الإسلامية من السابقين السابقين ، نحو رفع راية الحق ودين اليقين . ورد الله الجموع الصليبية من الفرنجة على أعقابهم خائبين { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } [28] . ولعنهم يوم السبت وردت الجموع الصليبية على أدبارها ، { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } [29] . فكانت معركة فاصلة بين الحق والباطل { الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [30] . ولم يهن المسلمون في ابتغاء القوم ، ممتثلين لقول الله جل وعلا : { وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [31] . وانطبق قول الله تعالى على المسلمين : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [32] .
ونال الشهادة في سبيل الله جزء من الجيش الإسلامي من أبطال المجاهدين المسلمين : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا . وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا . وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } [33] . ولسان حال الشهداء ينادي ويدعو رب العزة ، رب السماوات والأرض قائلا : { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } [34] . فالحرب بين الجانبين قد انتهت في هذه المعركة ، فكانت ملحمة بطولية أبلى فيه المسلمون بلاء حسنا ، وتشتت الظالمون المحتلون بين قتيل وجريح وأسير وفار ، واخذوا يولولون ، وكما قال الشاعر ( أبو الطيب ) : لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر لطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شأن
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وانتصر العرب المسلمون أيما انتصار ، وسجلوا بأحرف من نور لامع براق ، ودم احمر قانٍ ، صفحات خالدة في تاريخ العرب والمسلمين على حد سواء ومكنهم الله في الأرض العربية الفلسطينية ، بعد حطين فلسطين الأبية العزيزة ، وهزم الجمع الصليبي وولوا الدبر ، كما قال الله سبحانه وتعالى وما زال قوله خالدا عزيزا { سيهزم الجمع ويولون الدبر } . صلى القائد صلاح الدين الأيوبي صلاة الشاكرين لأنعم الله عز وجل الذي من على المسلمين بالنصر المبين رغم قلة عددهم إذ لم يبلغ عدد أفراد الجيش الإسلامي آنذاك 12 ألف جندي في حين بلغ عدد قوات الصليبيين الفرنجة نحو 50 ألف جندي كما تعددت الروايات في هذا المجال . وكما قال الرسول الكريم محمد صل الله عليه وسلم : ” لن يغلب اثني عشر ألف من قلة ” [35] .