الجائعون من أجل الوطن ..
د. ديمة طهبوب
كنت أظن مخطئة أن ما سيخرج الشعب الأردني عن صبره وطوره واحتماله ليحفزه للمطالبة بالإصلاح هو رغيف الخبز ولقمة العيش! وكنت أظن، عن جهالة، أن المعاني السامية التي تدفع الانسان للتغيير والتضحية كالكرامة والحرية، التي هي منحة ربانية يكتسبها الانسان بالولادة، ورفض الظلم بهتت في نفوسنا وأصبحنا كما وصف الغزالي "شعوب عابدة لرغيفها سوف تموت دونه" وهذه انتكاسة في النفس الانسانية الى درك العجماوات من المخلوقات التي تبحث فقط عن أكلها وشربها وقضاء حاجتها.
وقد كان من المقبول مرحليا الى أن يتطور الوعي السياسي لدى كافة طبقات الشعب أن يخرج الشعب من أجل لقمة الخبز فقد سبق أن خرج الفرنسيون في واحدة من أعظم الثورات الشعبية التي سجلها التاريخ الانساني واهتدت بها الأمم من أجل الخبز حتى أن بعض المظاهرات كانت تسمى بمظاهرات الخبز bread riots، وشعلة الربيع العربية البوعزيزية كان من محفزاتها الثورة من أجل لقمة العيش المغمسة بالفقر والذل والطبقية، غير أن مسيرة الإصلاح الطويلة بتحدياتها الجسيمة لا يمكن أن تعتمد على "عباد الرغيف" فقط فهؤلاء يسكتهم رغيف إحسان ومنة ومكرمة، كما يحركهم رغيف جوع وحاجة اذا لم يترافق مع إدراك أن الاصلاح الاقتصادي ما هو الا جزء من عملية الاصلاح الشامل الذي يسير بخطوط متوازية تشمل المجتمع وأخلاقه وثقافته وتمتد لتشمل الحكم والسياسة في أعلى الهرم وبينهما الاقتصاد، وأن الرغيف، الموجود أو المفقود، هو دلالة لا أكثر على وجود العدالة والنزاهة أو فقدهما وهذه تتطلب صلاح الحاكم ابتداء ومراقبة الشعب له لضمان الاستقامة والمحاسبة، وفي حال غياب كليهما تختفي العدالة وتصبح الحقوق منحا وأعطيات تسكيت وترقيع يمن بها الحاكم على المحكومين الذين قد ترتفع أصواتهم في جولة أخرى عند الحرمان ثم تخفت مع العطاء فيستحي الفم ويسكت الفم فتفهم الحكومات الدرس وتوزع الأبر المهدئة لثورة الجياع في كل جولة انتفاضة!
ولكن قد بين لي خطأ ظني ثلة من شباب الوطن أخرجهم للاصلاح حبهم للوطن المجرد من أي حاجة وحرصهم على الشعب أن يظل رهينة لفساد يقتل فيهم الانسانية والقيم قبل أن يقتل أجسادهم ويُبقي الوطن في ذيل قافلة التقدم.
هؤلاء الشباب الحراكييون خرجوا من عائلات كريمة مستورة لم يعضها الفقر المدقع ولكنهم أرادوا الدفاع عن حق الشعب بأكلمه في الحرية والعدالة والعيش الكريم ليتساوى في الحد الأدنى الواجب من الحقوق ابن القرية المعدمة على الأطراف مع ابن المناطق المحظوظة والمعقمة.
هؤلاء الشباب الحراكييون رضوا بالامتناع الطوعي عن الطعام كوسيلة احتجاج على اعتقالهم غير القانوني وتوجيه تهم مفبركة لهم ومحاكمتهم، بالرغم أنهم مدنييون، أمام محكمة عسكرية لا لشيء سوى مشاركتهم في الحراك الاصلاحي ومطالبتهم باصلاح النظام ومحاكمة الفساد.
وقد دخل هؤلاء المعتقلون الاسبوع الرابع وحالتهم تتدهور صحيا حتى شارف بعضهم على الاصابة بالفشل الكلوي دون أدنى شعور بالمسؤولية من الحكومة في بلد كان يرفع شعار أن الانسان أغلى ما نملك بل ما زالت الحكومة تصر على موقفها اللاانساني واللاقانوني بدعم من الأجهزة الأمنية التي تمسك وتحرك خيوط المشهد السياسي في بلدنا بل تتحايل أحيانا على التوجيهات السامية التي صدرت بشأن تعديل محكمة أمن الدولة.
جاع هؤلاء الثلة من الشباب الأردني ليشبع الشعب لا من الخبز فقط بل من الكرامة والعدالة وكان بامكانهم المقايضة على الاصلاح والمبادئ بتوقيع ورقة تخرجهم من أبواب السجن الى أوسع أبواب الحرية وربما التبني والمساعدة أيضا ولكنهم قدموا مصلحة الشعب، الذي لا يشعر معظمه بتضحيتهم ولم يرفع صوته للمطالبة باطلاق سراحهم، على حياتهم وحياة أسرهم التي تشترك معهم في المعاناة.
جاع هؤلاء من أجل الوطن، من أجل الشعب، من أجل المبادئ ورفضوا رغيف الخبز طواعية ما لم يكن مقرونا بالعزة لهم كأشخاص ورموز للحراك الاصلاحي وللشعب الأردني الذي يتطلع الى الكرامة والعدالة كباقي شعوب الأرض.
قال سيدنا عمر لواحد من عماله: اذا جاءك سارق ماذا تفعل؟ قال: أقطع يده، فرد عليه: واذا جاءني جائع أو عاطل قطعت يدك ان الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم.
بهذا المنطق من العدالة وبتقييم أكثر من 94 حكومة أردنية تعاقبت على حكمنا منذ تأسيس الدولة كم من الأيادي ستبقى سليمة؟!
لسنا عباد رغيف ولا طلاب إحسان وامتنان نحن طلاب حرية وكرامة وعدالة وهذه ان وجدت ستحصل لنا رغيف الخبز نأكله ولو مع البصلة ورؤوسنا مرفوعه فليس بالخبز وحده يحيا الانسان وماء الحياة بذلة كجهنم وبطن جائعة بهامة مرفوعة خير من كرش متخم يساق للذبح وقتما يريد الراعي.
لقد كفّى شباب الحراك ووفوا وآن لهم أن يعلقوا اضرابهم فحياة أمثالهم غالية علينا وعلى الوطن الذي يريدهم أصحاء أقوياء لمتابعة مسيرة الاصلاح فما زال في العمر يوم أغر وأردن أهل العزم لم ينبُ سيفه وسيقطع الفساد عاجلا غير آجل بإذن الله.
السبيل