نقطة التحول في مسيرة صلاح الدين
هناك محطات في حياة المرء تجعله يقف مع نفسه وقفةً للمراجعة والمحاسبة، فقد ذكر ابن الجَوْزِيِّ في "سِيرة عمر بن عبدالعزيز" أنه عندما وَلِيَ إمرة المدينة المنورة في شهر ربيع الأول من سنة 87 من الهجرة في خلافة ابن عمِّه الوليد بن عبدالملك - كان من أخيل الناس في مِشْيته، ثم إن الوليد بعث إليه يأمره بجلد خُبَيْب بن عبدالله بن الزُّبير مائة سوط، ويحبسه؛ لأنه قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلًا، اتخذوا عِباد الله خَوَلًا، ومال الله دُوَلًا))، واعتراضه على ضمِّ حجرات النبي صل الله عليه وسلم إلى مسجده، فجلده عمرُ، وبرَّد له ماءً في جَرَّة، ثم صبَّها عليه في غَداةٍ باردة، فتيبَّسَتْ أعضاؤه، وتشنَّج جسمُه (أصابه داء الكُزاز)، فأخرجه عمرُ من السجن، وندم على ما صنعه به، وعندما بلغه خبر موته، سقط إلى الأرض فزعًا، ثم رفع رأسه مسترجعًا، ولم يزلْ هذا الحادث يحزُّ في نفسه حتى مات، واستعفى من إمرة المدينة، وامتنع من الولاية، وكان إذا قِيَل له: إنك قد صنعتَ كذا فأبشر، فيقول: "كيف بخُبَيْبٍ على الطريق؟!"، ثم في خلافته خصَّ آل عبدالله بن الزبير بقسمٍ من الغنائم، فقال الناس: "دِية خُبَيْبٍ"؛ فهذا الموقف العارض، جعل من عمر بن عبدالعزيز ذاك الخليفة الأُموي العادل الزاهد[1].
وفي سِيرة صلاح الدين الأيوبي ما يُشبه هذا الموقف؛ ففي سنة 581هـ سعى صلاح الدين جاهدًا لضمِّ إمارة الموصل - دولة بقايا الزَّنْكيين - إلى مملكته، فضرب عليها حصارًا شديدًا في شهر شعبان؛ لكنه لم يظفرْ بطائل، وقد خرجن إليه أتابكيات البيت الزَّنكي طالبات الشفاعة، وهو مقيم على نهر دجلة بكَفْر زَمَّار قرب الموصل، وكان قد عزم على أن يُشتِّي في ذلك المكان، فلم يقبلْ شفاعتهن، وردَّهُنَّ خائبات، ثم مرض في شهر رمضان مرضًا شديدًا كاد يقضي عليه، وكان الحر شديدًا، وطال مرضه، وندم على رد الشوافع الزنكيات، فسيَّر إلى عماد الدين الزنكي (الثاني)، صاحب سِنْجَار وأخي عز الدين مسعود صاحب الموصل، طالبًا منه أن يرسل إليه رُسله؛ للتوسُّط مع المواصلة لعقد الصلح، ورحل قبل عيد الفطر بيومٍ، وهو مريض، وخيَّم على نَصِيبين في شوال، ثم نزل بحرَّان، فوصل إليه أخوه العادل من حلب ومعه الأطباء[2].
وفي أثناء إقامته بحران وصل إليه الفقيه بهاء الدين بن شَدَّاد، رسول صاحب الموصل، فجلس صلاح الدين - وكان هذا أول جلوسه بعد مرضه - وحلف في يوم عرفة على نسخة العقد، وأهدى هدايا عظيمة، تزيد على عشرة آلاف دينار، غير الخيل والطِّيب والتحف البديعة والنفيسة، لصاحب الموصل وأمه وزوجه، وابنة سيده نور الدين محمود[3]؛ فهو بذلك يتدارك ما صنعه مع نسوة البيت الزنكي من قبلُ.
إن هذا المرض جعل صلاح الدين يُراجع نفسَه، ويهتمُّ بمصالح رعيَّتِه، ويكتفي بما حقَّقه من توحيد للبلاد، ويتفرَّغ لتحرير بيت المقدس - بُغية أستاذه نور الدين - فقد ذكر العماد الكاتب أن صلاح الدين في أثناء مرضه هذا أمره بتفريق ما اجتمع في خزائنه من الأموال، حتى قال العماد: "واستمر مدة استمرار مرضه على بذل جوهر ماله وعَرَضه"، وأمر بمكاتبة ولاته ونُوَّابه بمصر والشام؛ ليتصدَّقُوا على الفقراء والمساكين من بيت المال[4].
وقد كان من ثمار وقفة صلاح الدين هذه مع نفسه أنه نذر إنْ شُفِيَ من هذا المرض أن يشتغل بفتح بيت المقدس، ولو ببذل نفائس الأموال والأنفس، وألَّا يصرف بقية عمره إلَّا في قتال أعداء الله والجهاد في سبيله، وإنجاد أهل الإسلام والإقبال عليهم، ولا يترك شيمة الجود، والسماحة بالموجود، والوفاء بالعقود، والمحافظة على العهود، وإنجاز الموعود[5].
بل كان من وصاياه - إنْ مات في مرضه هذا - أن يخلفه في تدبير أمور دولته في الشام ومصر أخوه أبو بكر العادل، وابن أخيه تقي الدين عمر، وابناه الأفضل علي والعزيز عثمان؛ لأنه يراهم على مراده في جهاد الفرنج[6].
وعلى إثر هذا المرض، لم يتعرَّضْ صلاح الدين طوال العام الذي سبق معركة حطين لأحد من المسلمين، فبعد شفائه رحل من حرَّان مع أخيه العادل، فوصل حلب في منتصف المحرم سنة 582هـ، ففرِح به أهلها، وفي طريقه إلى دمشق مرَّ على حمص، وقرَّر أمورها، وكتب منشورًا بإسقاط المكوس بالرَّحبة، واقتصر منها على الخَراج والأجور والزَّرْع، وهي الرسوم التي يُبيحها الشرع، وعندما دخل دمشق التي كانت قد تزيَّنَتْ لمقدمه، جلس في دار العدل التي بناها أستاذه نور الدين؛ لكشف المظالم، ثم أخذ في ترتيب البيت الأيوبي من الداخل، فجعل مصر لابنه العزيز عثمان، وسير معه أخاه العادل بعد أن أقطعه الشرقية، وجعله أتابكًا لابنه، وجعل حلب لابنه الظاهر غازي، وطلب من ابنه الأفضل نور الدين أن يُقيم معه في دمشق[7].
وفي دمشق أوائل سنة 582هـ، بعد وصول صلاح الدين إليها مباشرةً، وهو لم يُشْفَ تمامًا من مرضه، قال له القاضي الفاضل: "قد أيقظك الله، وما يعيذك من هذا السوء سواه، فانذرْ أنك إذا أبللت (شُفيت) من هذا المرض، تقوم بكلِّ ما لله من الْمُفتَرض، وأنك لا تُقاتل من المسلمين أحدًا أبدًا، وتكون في جهاد أعداء الله مجتهدًا، وأنك إذا نصرك الله في المعترك، وظفرت بالقومص (ريموند الثالث صاحب طرابلس) وإبرنس الكَرَك (أَرْناط)، تتقرَّب إلى الله بإراقة دمهما، فما يتم وجود النصر إلا بعدمهما"، فأعطاه صلاح الدين يده على هذا النذر، ولما انتصر في حطين سنة 583هـ قتل أرناط؛ وفاءً بنذره، بينما هرب قومص طرابلس من المعركة وقد أُصيب بجراحات ثلاث، فمات فور عودته إلى طرابلس[8].
فمنذ سنة 571هـ وحتى مرضه في سنة 581هـ، كان صلاح الدين يتعرَّض للفرنج لمامًا، فبعد كسْرة الرملة سنة 573هـ، حقَّق نصرًا مؤزرًا عليهم في مرج عيون سنة 575هـ؛ لكن بعد حادثة مرضه عقد نيَّته على فتح بيت المقدس، ومما يُدلِّل على ذلك أن ابن أخيه المظفر تقي الدين عمر - وقد كان نائبه بمصر وقتئذٍ - لما علم أن عمَّه صلاح الدين جعل مصرَ لابنه العزيز عثمان مدعومًا بالعادل أبي بكر، سمَتْ هِمَّتُه إلى إقامة مملكة له في بلاد المغرب بعد أن مالت إليه عساكر مصر، وكان خادمه قَراقوش التقوي قد مهَّد له الأمور هناك، فلما انتهى إلى صلاح الدين ذلك، قال: "لعمري، إنَّ فتح المغرب مهمٌّ؛ لكنَّ فتح البيت المقدس أهمُّ، والفائدة به أتمُّ، والمصلحة منه أخصُّ وأعمُّ، وإذا توجَّه تقي الدين، واستصحب معه رجالنا المعروفة، ذهب العمر في اقتناء الرجال، وإذا فتحنا القدس والساحل، طوينا إلى تلك الممالك المراحل"، وكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فانصاع تقي الدين لأمر عمِّه، وأقطعه صلاح الدين حماة ومنبج والمعرة وميافارقين، ثم كتب إلى مصر باستدعاء رجاله، وإعلامهم بإبطال فتح المغرب، فامتثلوا الأمر[9].
وكان القاضي الفاضل قد كتَب لتقي الدين عمر يُشجِّعه على ترك أمر المغرب قائلًا: "يا مولانا، ما هذا الواقع الذي وقع ... وكيف نَعْدِل إلى حرب الإسلام المنهي عنها (يقصد بلاد المغرب الواقعة تحت إمرة الموحِّدين)، ونحن في المدعو إليها (يقصد بلاد الشام) من حزب أهل الحرب؟!"[10].
وفي سنة 582هـ - خاصة في رمضانها - أكثر صلاح الدين من العطاء والإنعام على العلماء والوعَّاظ والحُفَّاظ؛ فقد قال العماد: "وكان من كرم شيم السلطان إذا عرف في خزائنه موجودًا، أنه لا يستطيب تلك الليلة حتى يُفرِّقه جُودًا"[11].
وأخذ صلاح الدين أيضًا بعد مرضته الشهيرة تلك، يقضي أوقاته في أثناء إقامته بدمشق – ولأول مرة منذ سنة 571هـ - في الصيد والقنص بشاهينه البحري في تل راهط، وكان صيده من نصيب العماد الكاتب على اتفاق بينهما إلى أن مات هذا الشاهين[12].
فحقًّا، إنَّ هذا المرض كان نقطة التحوُّل في مسيرة صلاح الدين، فجعل تحرير بيت المقدس شغله الشاغل، وصدق القاضي الفاضل حين قال بعد بُرْء صلاح الدين من مرضه:
نعيٌّ زاد فيه الدَّهرُ ميمًا
فأصبح به بُؤساه نعيمَا[13]
[1] ابن الجوزي؛ سيرة عمر بن عبدالعزيز، تحقيق: محب الدين الخطيب، مطبعة مجلة المؤيد، القاهرة، ص32-35؛ ابن واصل، التاريخ الصالحي، تحقيق: عمر عبدالسلام تدمري، المكتبة العصرية، بيروت، 2010م، جـ(1)، ص304.
[2] أبو شامة؛ الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: عمر الزِّيبق، مؤسسة الرسالة، بيروت، الجزء الثالث، ص235، 237.
[3] ابن شَدَّاد؛ النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق: جمال الدين الشيال، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص120.
[4] الفتح البنداري؛ سنا البرق الشامي، تحقيق: فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص268.
[5] سنا البرق، المصدر السابق.
[6] سنا البرق، ص269.
[7] ابن واصل؛ مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق: جمال الدين الشيال، دار الكتب المصرية، الجزء الثاني، ص174-177.
[8] الروضتين، الجزء الثاني، ص291-292.
[9] سنا البرق، ص280-281.
[10] الروضتين، ص258.
[11] سنا البرق، ص287.
[12] الروضتين، ص268.
[13] الروضتين، ص242.