فتح دمشق
قصة الإسلام سيطر المسلمون على منطقة الأردن وفلسطين، بعد هروب جيش الروم إِثْرَ هزيمتهم النكراء في "بيسان"، ومن لم يقاتل منهم استسلم، ورضي بدفع الجزية للمسلمين، عدا ثلاث مدن: هي (القدس) و(عكَّا) و(حيفا) فلم تستسلم في هذا الوقت، وكان للقدس أسوار عظيمة، حالت دون دخول المسلمين إليها آنذاك، ثبَّت المسلمون أقدامهم في الأردن لمدة 3 شهور، منذ انتصارهم في ذي القعدة، حتى منتصف ربيع الأول عام 14هـ.
بعد أن تم استسلام هذه المنطقة، فكَّر المسلمون في المرحلة التالية، ولم يكن أمامهم من عقبة سوى مدينة دمشق، التي لا تزال تتمتع بوجود أكبر حامية رومية فيها، فبدأ الجيش الإسلامي يتجه لحرب الروم في دمشق، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المسلمين تركوا (القدس /مدينة إيلياء آنذاك)، واتجهوا إلى دمشق، على الرغم من وجود المسجد الأقصى في القدس، وأنه مسرى الرسول
، وكان من المفترض أن يهتموا بفتحه، إلا أن المسلمين، مع عظم قدر المسجد الأقصى في قلوبهم، إلا أن همهم الأكبر لم يكن المباني والمنشآت وإنما إيصال دعوة الله إلى الأرض، ومنطقة القدس لم يكن بها الكثير من السكان، في حين كانت دمشق عامرة بالسكان، ومحصنة، وبها أكبر حامية للروم آنذاك، فآثر المسلمون أن يتركوا القدس، وينتقلوا إلى دمشق، حتى يكسروا شوكة الروم في هذا المكان، وينشروا الإسلام في هذه المنطقة..
وهذا المفهوم في الحقيقة يجب أن يحرص عليه المسلمون دائمًا، فلا تتعارض رغبتنا في استرداد فلسطين، والقدس كأراضٍ مسلمة شريفة مع تعبيد الناس إلى الله
، ونشر الإسلام في أرجاء المعمورة، فغرضنا الأساسي أن تكون الأرض إسلامية، وأن يكون مَنْ عليها مِنَ المسلمين، ولا يحول بينهم وبين العبادة طاغوت مثل الروم، أو غيرهم. (فلا نرضى بأن نسترد القدس، وتقوم على أرضه دولة علمانية مثلاً، وإنما همُّنا الأول أن يكون من فيها يعبدون الله).
انتقل المسلمون بقيادة أبي عبيدة من منطقة الأردن وبيسان إلى دمشق، آخذين الطريق الأقصر إليها، وكان هذا الحصار الرابع لدمشق، (كان الحصار الأول عندما جاءهم خالد من العراق، ثم انتقل لفتح بصرى، والثاني بعد عودته من فتح بصرى، ثم انطلق إلى أجنادين، وعاد بعدها مرة أخرى إلى حصاردمشق، حينما عزل خالد، ووليَ الأمرَ أبو عبيدة، ثم تركها وذهب إلى بيسان), وهذا يؤكد أنها مدينة حصينة، وأن حامية الروم فيها قوية، ولكن هذه المرة تختلف حيث إن البلاد التي خلف المسلمين الآن أصبحت كلها إسلامية، فلا خوف من أن يأتيهم جيش رومي من خلفهم، وقد كان اهتمام الروم بدمشق راجعًا لأهميتها الخاصة، وهو ما يرصده لنا القزويني في (آثار البلاد وأخبار العباد) إذ يقول: "قصبة بلاد الشام (أي عاصمتها أو مدينتها الأساسية) وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار".
قال أبو بكر الخوارزمي كما جاء في آثار البلاد للقزويني، وفي معجم البلدان للحموي: "جنان الدنيا أربع: غُوطة دمشق، وصِغد سمرقند، وشعب بَوَّان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها فأفضلها غوطة دمشق.
ويقول
الإصطخري: أَجَلُّ مدن الشام كلها دمشق وليس بالمغرب مكان أنزه منه (ويعدها من مدن المغرب لأنه من إيران)، ولهذا اهتم الروم بمدينة دمشق، ووضعوا حولها حصون ضخمة وعظيمة، حتى إن سور دمشق حتى اليوم لا تزال آثاره باقية، لِعِظمه وضخامة بناءه، وكان ارتفاع السور 6 أمتار، وعرضه 4 أمتار ونصف، وهو مبني بالحجارة السميكة، وبه أبراج يبعد كل برج عن الآخر 15 مترًا، وهذه الأبراج بها عيون يقذف منها الجنود الرماح والأسهم على من يقترب منها، وكان حول سور دمشق خندق عظيم، يحيط بدمشق كلها، إحاطة السوار بالمعصم، وكان هذا الخندق عريضًا بحيث يتعذر قفز الخيول من فوقه!! وكان عميقًا أيضًا..
كما كان لذلك السور العظيم سبعة أبواب، (وقد تم استحداث 3 أبواب بعد الفتح الإسلامي) الباب الشرقي (العراقي) الذي اعتاد خالد بن الوليد النزول عنده، وعلى بعد ميل منه كان يوجد (دير صليبة) للنصارى، وعرف ذلك الدير لكثرة نزول خالد بالقرب منه باسم (دير خالد)، ونعتقد أنه الدير الوحيد بالعالم الذي يحمل اسمًا إسلاميًّا..
معاهدة مكذوبة:
تورد بعض كتب التاريخ (مثل كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر) نصًّا آخر للمعاهدة، هذا النص لا نجوزه، ومع ذلك فقد انتشر في كتب المسلمين، ونشره المستشرقون، وفي سند هذه الوثيقة ثمانية مجهولون، واثنان ضعفاء، كما أن العهد ورد في صيغته أنه من الروم لأبي عبيدة، يقول في بداية العهد: (هذا من قائد الروم ومدينة دمشق إلى أبي عبيدة، أنه علينا) وهي أمور يقومون بها للمسلمين، وهذا مخالف لكل الصيغ التي جاءت في تاريخ الحروب الإسلامية، في الروم وفارس.. فقد كانت الصيغة تأتي دائمًا من الجانب المنتصر (المسلمين) للمهزوم (الروم). وقد ذكرنا هذا العهد ورفضناه، لأنه قد ورد فيه بعض الأمور التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، مثل ما ورد على لسان الروم (ونقوم لهم من المجالس، إذا أرادوا المجالس) أي أن الروم يقومون للمسلمين من المجالس، وهو ليس من الأصول الإسلامية في شيء!!، وحتى إن كان هذا قدْ تمَّ، فمن الصعب أن يكتب مثل هذا الأمر التافه البسيط في معاهدة بين دولتين.
كما يذكرون: (ولا نعلم أولادنا القرآن) وهذا يتنقض من هدف هذه الفتوحات أصلاً، وهو نشر الإسلام، ونشر تعاليم الإسلام، وتعليم الناس القرآن، فكيف يوافق المسلمون على أن تكتب وثيقة يتعهد فيها الروم أنهم لن يعلموا أولادهم القرآن؟!! حتى إن ذلك يتعارض مع أصل عدم الإكراه في الدين في الإسلام، فإذا لم يريدوا أن يعلموا أنفسهم، ولا أولادهم القرآن فلا حرج عليهم، ولكن لا يكتب ذلك في وثيقة، بحيث إنه إذا علم أحد الروم ابنه القرآن يكون قد خالف عهد المسلمين، وهو أمر يخالف ما جاء في القرآن الكريم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. فهدف القتال مع هؤلاء المشركين هو توصيل رسالة الله I إليهم، وليس السيطرة أو امتلاك الأراضي..
ويذكرون أيضًا في هذه المعاهدة المختلقة: (ولا نظهر شركًا في نادي المسلمين)، وليس من المعقول أن يقول النصارى على أنفسهم أنهم (يظهرون شركًا)، إذ إنهم لا يعترفون -أصلاً- بأنهم مشركون.. بل يرون أنهم على الحق، ويقولون: (ولا ننقش خواتيمنا بالعربية), أي أنهم لن يكتبوا بالعربية، وهذا مخالف للأصول الإسلامية، فإنه كان من أهداف المسلمين نشر اللغة العربية في البلاد المفتوحة، حتى يقربهم ذلك من فهم القرآن الكريم، والسنة النبوية..
فلذلك كله يجب التنبيه على أن هذا العهد موضوع على المسلمين (إما وضعه بعض النصارى واليهود)، والغرض منه إظهار المسلمين أنهم يحاولون إذلال الآخرين، وليس همهم الدعوة، أو أنه وضعه بعض المسلمين الجهلاء، الذين ظنوا أن عزة الإسلام في ذل الآخرين!! وإنما تكون عزة الإسلام بنشره بين الناس، وبطاعتهم لله سبحانه.
عودة إلى دمشق:
يقضي المسلمون الشتاء في دمشق، ويوطدون أمورهم فيها، وفي المناطق المحيطة، ثم ينتقلون بعد ذلك بنحو 7 أشهر إلى المرحلة القادمة من جهادهم.
دمشـق.. تُفتَح صُلْحًا:
حتى يأتي الله في ليلة 14 من رجب عام 14هـ بالنصر من عنده، بعد أن أعد المسلمون العدة كاملة، من العبادة وقيام الليل، والاستعداد المادي والمعنوي، في هذا الوقت يولد مولود لـ(نسطورس) قائد الحامية الرومية، فيقيم احتفالاً كبيرًا بهذه المناسبة ويذهب إليه كل جنود الروم، وكل شعب دمشق الموجود داخل الأسوار، وانهمكوا في احتفالهم، وشربهم للخمر، ولا يزال المسلمون حول الأسوار، لم يعلموا بما يحدث إلا خالد بن الوليد
، الذي كان لا ينام، ولا يُنيم -كما يقول عنه الرواة- وكان له عيون في كل مكان، فلما سمع هذه الضجة، والأصوات العالية، استشرف الأمر، وإذا بالأسقف الذي وقع معه المعاهدة يرسل له رجلاً يخبره بأن أهل دمشق قد أقاموا ذلك الاحتفال بمولود قائدهم، وأن كثيرًا من الجنود في ذلك الحفل، يدرك خالد عندئذٍ قلة الحراسة عند الأبواب، وكان قد أعد (سلالمَ وحبالاً) أخذها من الدير القريب منه، على أن يخفف عن صاحب الدير الجزاء إذا فتحت دمشق، وكذلك أعد القِرَبَ التي تمكن المسلمين الذين لا يجيدون السباحة من عبور المياه، وتجاوز هذا الخندق الكبير الذي يحيط أسوار دمشق، يعبر هذا الخندق خالد والقعقاع بن عمرو والمذعور العجلي، وهؤلاء الثلاثة كانوا قادة المسلمين في حروب الفرس، فلم يكلوا هذا الأمر إلى صغار الجنود، بل تولاه هو، ونائبه القعقاع وأحد كبار قواده المذعور بن عدي، فعبروا الخندق، وألقوا بالسلالم والحبال على الأسوار، وتمكنوا من تسلق السور، وكانوا أول من نزل داخل الأراضي الدمشقية، وقالوا للمسلمين: إن علامة دخولكم أرض دمشق "التكبير"، ولم يكن هناك إلا عدد قليل من الحراس، قاتل خالد حراس الباب الشرقي، وقتلهم، وأشار إلى رجال فوق السور، ليكبروا، فهجمت القوات الإسلامية على الباب، وفتحته، وقطعوا الحبال التي تمنع فتحه، وتدفقت الجيوش الإسلامية تدفقًا عظيمًا على الباب الشرقي (9 آلاف مجاهد) من دمشق بعد منتصف الليل (وتذكر بعض الروايات أن ذلك كان قبيل الفجر), وكان ذلك في 3 من سبتمبر 653م في مطلع الشتاء, ودخل الجيوش الإسلامية دمشق، ويعلم الروم بدخولهم فيسرعون لتدارك موقفهم، ولكن المفاجأة أذهلتهم، وسقط منهم كثير من القتلى، ودار القتال في شوارع دمشق، وكان قتالاً صعبًا على المسلمين، لأنهم لا يعرفون تفاصيل الشوارع، ومع ذلك فقد انتصر المسلمون، وكتب الله لهم النصر في البداية!
حيلة نسطورس:
لما علم قائد الروم بذلك، قام بحيلة ذكية، بأن فتح الباب الغربي (باب الجابية) لأبي عبيدة، والباب الصغير ليزيد، وباب الفراديس لشرحبيل، وهي الأبواب الثلاثة البعيدة عن خالد بن الوليد، وقال لأبي عبيدة: إني قد عاهدتك على الصلح، ولم يكن أبو عبيدة يعلم أن خالدًا قد دخل من الباب الشرقي في ذلك الوقت، (وربما يرجع ذلك لسرعته، ولأنه خشي أن يستأذنه فتضيع الفرصة منه)، فلما خرجت الجيوش الرومية إلى أبي عبيدة، ويزيد، وشرحبيل تطلب الصلح (وهو ما أراده المسلمون منذ البداية) لم يكن منهم إلا أن يوافقوا وأعطاهم أبو عبيدة الأمان، إلا أنه كان متعجبًا لوقت هذا الصلح!!.
ودخلت الجيوش الإسلامية من غرب دمشق ومن شمالها صلحًا، حتى وصلوا إلى جيش خالد بن الوليد وهو يقاتل، فلم يكن منهم إلا أن اجتمعوا (وبدا أن جيش خالد دخل قبل أن يعقدوا الصلح مع المسلمين، وأن نسطورس قام بهذه الحيلة لكي يحفظ دماء قومه بإعطاء الجزية، لكن المسلمين لم يتأكدوا من ذلك). فقالوا: والله إن أخذنا ما ليس لنا فسَفَكْنا الدماءَ، وأخذنا الأموال لَنَأْثمَنَّ، ولئن تركنا بعض ما لنا، لا نأثم, فأخذوا بالسلامة إيثارًا للعدل، فأنفذوه صلحًا مع دمشق!!...
وهو أمر عجيب أن المسلمين يتحرجون من أن يظلموا أهل دمشق والروم إلى هذا الحَدِّ، على الرغم من أن الروم كانوا حريصين على قتالهم، إلى آخر لحظة.
وهم بذلك إنما يتبرأون من الشبهة عملاً بقول رسول الله
: من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ, فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ, كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلا, وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ" رواه مسلم.
يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: "إن صحابة رسول الله
، كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال، مخافة الوقوع في الحرام إذا كان فيه شبهة". وبذلك سادوا، وبذلك نصرهم الله I في دمشق، وفي المواقع السابقة، والمواقع التالية. إذ إنهم يعملون وكل غايتهم إرضاء الله
أولاً وأخيرًا، وليس كسب المغانم من أرض دمشق، وثمارها، وأنهارها، وإنما الغاية الوحيدة رضا الله
، بنشر الإسلام في هذه البلاد، وغيرها.
ويُقر أهلُ دمشق على العهد، فيأتي أسقف دمشق، ويحضر معه العهد الذي كان قد أمضاه خالد بن الوليد، فيتعجب المسلمون من هذا العهد، ويقولوا: كيف يعطي خالد عهدًا وهو ليس بأمير؟!! إن هذا لا نجوِّزُه، فيقول أبو عبيدة: "إنني من المسلمين، وأجيز على أدنى رجلٍ من المسلمين".
وتلك المقولة من أبي عبيدة لها عدة أسباب أهمها ثقته الكبيرة في خالد بن الوليد، وعلو مكانته عنده، وأن هذه هي طبيعة أبي عبيدة، إذ كان يتسم بالحكمة، والذكاء الشديدين، كما أنه كان هينًا لينًا سهلاً، لا ينتصر لنفسه، كما قال عنه الصديق: "إذا ظُلِمَ لم يَظلِم، إذا أُسيءَ إليه غَفر، وإذا قُطِعَ وَصل", وهذا ما فعله من قبل مع
عمرو بن العاص في ذات السلاسل، وهذا ما يجب أن يفعله المسلمون، إذا أعطى أحدهم عهدًا أو أمانًا ينفذه أمير المسلمين..
وبذلك أجاز المسلمون عهد خالد بن الوليد.
وقفة مع أبي الدرداء:
المتابع لسيرة أبي الدرداء
يلحظ أنه كان رجلاً حريصًا على العبادة، والصلاة، وليس له اهتمام يذكر بالجهاد، وقد قرأنا من أقوال لأبي الدرداء توحي بذلك، إذ يدعو الله: "اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب، سئل، وما شتات القلب يا أبا الدرداء؟، قال: أن يكون لي في كل واد مال", أي أن يكون له تجارة، تجعل قلبه معلقًا بهذه الأموال، وتبعده عن عبادة الله
حق عبادته، وكان ذلك ديدنه
دائمًا بعد إسلامه، إذ إنه كان تاجرًا عظيمًا قبل إسلامه، لم يبق من تجارته بعد إسلامه إلا القليل، كان يقول: "أسلمت مع النبـي
وأنا تاجر، وأردت أن تجتمع لي العبـادة والتجارة فلم يجتمعا، فرفضـت التجارة وأقبلت على العبادة، وما يسرنـي اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد، ألا إني لا أقول لكم: إن اللـه حرم البيع، ولكني أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"، وقد صدَّق في أفعاله كلها هذه الكلمات، فاكتفى بقليل التجارة، حتى لا تلهيه عن ذكر الله، بل وكان
يقول لمن حوله: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوكم، فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير.. ذكر الله، ولذكر الله أكبر", ورد موقوفًا في موطأ مالك، ومرفوعًا إلى النبي
في الترمذي, (وكان شأنه في ذلك شأن
معاذ بن جبل، الذي أوصى أصحابه عند وفاته أن يلتمسوا العلم عند أبي الدرداء)، كل تلك الأقوال توحي إلينا أنه لا يرى فضلاً عن ذكر الله، وعبادته، ويجعلنا نتعجب من أن يكون قد خرج للجهاد في سبيل الله، ويؤمره أبو عبيدة على هذه الفرقة في دمشق، ونفهم من ذلك أن أبا الدرداء
، وإن كان يولي ذكر الله وعبادته كل اهتمامه، إلا إنه يعرف (عبادة الوقت)، ففي وقت الجهاد، لا شيء يعدل الجهاد في سبيل الله، فلما دعي
للجهاد ترك العبادة، وترك مسجد رسول الله، والمسجد الحرام، وخرج إلى الجهاد، ولا يزال على عهده مع الله، ومع نفسه، في أرض الجهاد يذكر الله في كل حين، شأنه في ذلك شأن غيره من صحابة رسول الله
، وأفراد الجيش الإسلامي كله.. وعلى ذلك يجب أن يكون المسلم في كل وقت..
ثم يرسل أبو عبيدة
ذو الكُلاعِ الحِمْيَرِيّ إلى مسافة 45 كلم في الشمال، في اتجاه حمص، يعسكر بقوة أخرى، لحماية المنطقة أكثر، وهكذا أصبح لدى المسلمين قوتان في الشمال لصد أي هجمات رومية محتملة، وقطع المدد والتموين عن الحامية الرومية في دمشق، وبذلك صعبت المهمة على الروم صعوبة شديدة..
حصــار.. ومعاهدة:
استمر حصار المسلمين للروم لمدة أربعة أشهر (وتذكر بعض الروايات أنها بلغت 6 أشهر)، وفي أثناء ذلك الحصار يرسل الروم اثنين من الجواسيس العرب، للاندساس في جيش المسلمين، مثلما فعلوا قُبَيْلَ موقعة أجنادين فذهبا، ثم عادا لقائد حامية دمشق الرومي نسطورس يقولان له: وجدناهم على طول قيام بالليل، وصبر على الجهاد والتدريب بالنهار، وإذا وجد أحدهم شيئًا كالنعل أو الغزل، وضعه في الغنائم، فإذا سأله صاحب الغنائم: أي شيء هذا؟ قال: لا نستحِلُّه إلا بحِلِّه. (أي أن جميع الجيش الإسلامي لا يَغُلُّ، أو يأخذ ما ليس له، مهما كان حقيرًا أو بسيطًا)..
يروي أبوداود أن رجلاً مات يوم خيبر، من أصحاب رسول الله، فبلغ النبي، فقال: "صلوا على صاحبكم"، ولم يصلِّ عليه، فتغيرت وجوه الناس، فقال
: "إن صاحبكم غَلَّ في سبيل الله", أي أخذ شيئًا من الغنائم ليس من حقه، ففتشوا متاعه فوجدوا خرزًا من خرز اليهود، لا يساوي درهمين!! (تسبب في حرمانه من صلاة الرسول عليه في ذلك اليوم)، وروى
البخاري عن
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كان على ثقل النبي (أي على حماية الغنائم) رجل يقال له: كَرْكَرَة، فمات، فقال النبي
: "هو في النار", فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة في متاعه!!! (جعلته في النار، فهذه أصول إسلامية، تعلمها المسلمون، وتربوا عليها) وكان رد نسطورس قائد دمشق آنذاك: إن كانوا على هذه الحال، فليس لنا بهم من طاقة!! (مثلما قاله قائد الروم باهان في
أجنادين)... وهكذا يدخل المسلمون الحرب بهذه النفسية، وبهذة الثقة أن الله
معهم، ومن كان الله معه، فمن عليه؟!!. وفي المقابل نلحظ نفسية القائد الرومي، وبالتالي جيشه، الذي يدخل الحرب، وفي يقينه أنه لا طاقة له بمثل هؤلاء المجاهدين الصادقين!! فقد ألقى الله I في قلوبهم الرعب.
في هذه الأثناء، كان لخالد بن الوليد عيون داخل دمشق، وكان منهم أحد أساقفة دمشق، الذي يمده بالمعلومات، وقامت بينه وبين خالد
علاقة وطيدة، إلا أنه لم يُسْلِم، حتى جاء يوم، وهو يحدثه قال له: إني أرى أن الغلبة ستكون لكم، فقال له خالد: صالِحْني (ولم يكن خالد آنذاك أميرَ الجيوش) وكتب عهدًا معه يقول فيه: هذا كتاب من خالد بن الوليد إلى أهل دمشق، أني أمنتهم على ديارهم، وأموالهم، وكنائسهم، ألا تُسْكَنَ، ولا تهدم، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.. وأمَّنَ هذا الأسقف، (ولم يكن من صلاحيات خالد، وهو قائد على واحد من جيوش المسلمين فحسب أن يفعل ذلك، ولكنه أراد أن يستغلَّ هذه الفرصة التي قد تزلزل أهل دمشق، وتشجعهم على الاستسلام في نفس الوقت)، وهناك رواية أخرى تذكر أن يزيد بن أبي سفيان و
شرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما شهدا على هذا العقد، وإذا صحَّتْ هذه الرواية، فلا شك أن أبا عبيدة قد وصله أمر هذه المعاهدة، ويزول اللبس أو الإشكال حول هذا الأمر. أما إذا لم يصح، فإن حله أن خالد قد آثر أن يأخذ هذا العهد لكي يوهن من نفسية أهل دمشق, وقد تم هذا العهد ولم يعلم القائد الرومي نسطورس عنه شيئًا، إذ كان تصرفًا فرديًّا من أسقف دمشق.
ويأتي مدد آخر للروم من طريق حمص، ويتصدى له ذو الكلاع الحميري، ويقضي على هذا المدد، وبذلك أيس الروم داخل حصون دمشق من أن يصلهم أي مدد، أو يفك عنهم الحصار.
جيش المسلمين يحـاصر دمشق:
توجه أبو عبيدة بالجيوش، وفي مقدمتها خالد بن الوليد إلى حصون دمشق، واستعاد ترتيب جيشه، فنزل خالد بن الوليد
في مكانه المعتاد (الباب الشرقي)، ثم نزل على باب الجابية
أبو عبيدة بن الجراح، وكان من الواضح أن جيشي أبي عبيدة وخالد، هما أقوى جيوش المسلمين، وكان قوام جيش خالد 9 آلاف مقاتل، وجيش أبي عبيدة 7 آلاف مقاتل، ثم حاصر جيش يزيد المنطقة الجنوبية، حول بابي (كيسان والصغير)، في حين حاصر جيش عمرو باب (توما) في الشمال، وحاصر جيش شرحبيل باب الفراديس، وتُرِكَ باب السلامة لصعوبة الطريق إليه..
كما بثَّ المسلمون العيون في كل منطقة، تحسبًا لقدوم قوات رومية من خلف الجبال، إذ تقع دمشق في سفح جبل قاسيون، وقد قدمت القوات الرومية من حمص -كما ذكرنا سابقًا- مستترة خلف هذه الجبال، حتى وصلت إلى بيسان، وفعلاً حدث ما توقعه المسلمون، إذ علموا بوصول قوة رومية قادمة من حمص، متجهة نحو دمشق مددًا للحامية الرومية، فخرجت فرقة صغيرة لمقاتلة هذه القوة، وكانت بقيادة الصَّلْت بن الأسود الكندي، فطاردت تلك القوة التي كانت أكبر من فرقته، ولكنها فرَّتْ، فتعقبها حتى دخل حمص وراءها (وكانت المسافة من دمشق إلى حمص نحو 225 كلم) فهي مسافة كبيرة، ولكن الفرقة الإسلامية تتبعتها كل تلك المسافة، وتجاوزت حمص، وفتحت حمص دون أي مجهود يذكر من المسلمين، وطلب أهل حمص الأمان من المسلمين، فأمَّنوهم، ثم عادت القوة الإسلامية مرة أخرى إلى دمشق، بعد فرار القوة الرومية، ومعاهدة أهل حمص على الأمان..
ووضع المسلمون جيشًا إسلاميًّا (حامية) في اتجاه الشمال، تجنبًا لحدوث مثل ذلك مرة أخرى، ووضوعوا على رأسها أبو الدرداء
، وكانت على بعد 5 كلم شمال دمشق، في سفح جبل قاسيون، عند قرية تسمى قرية برزة، للتصدي لأي قوى رومية تأتي في اتجاه دمشق من هذه المنطقة.