عن زكاة الأراضي من جديد.. “استفت قلبك ولو أفتوك وأفتوك”
ياسر الزعاترةنحاول أن نمر على هذه القضية بين عام وآخر، وفي موسم رمضان تحديدا، والسبب هو هذا التلعثم الذي نتابعه من كثير من المشايخ في التعاطي مع المسألة، على نحو يحمّلهم مسؤولية تهرب قطاع كبير من الناس من دفع زكاة ما يملكون من الأرض، والتي باتت قيمتها تقدر في هذه الأيام بمئات الملايين، وربما أكثر من ذلك بكثير في بعض البلدان.
الزكاة مثلها مثل كل العبادات في الاسلام، هي تعامل بين العبد وربه. ومع أنها في الأصل واجب تجبيه الدولة الاسلامية لتنفقه وفق الأسس الشرعية، إلا أن ذلك لا ينفي عنها تلك الصفة التي تقوم على أساس من النية الصالحة والتقرب إلى الله عزّوجل.
في الوضع الذي نحن بصدده هذه الأيام، فإن زكاة المال هي نوع من العبادات التي لا صلة لها بالدولة وأجهزتها التي سنت ضرائب ومكوسا لم يعرف أكثرها في النظام الاقتصادي الإسلامي، من دون أن يعني ذلك أن النظام المذكور يحرّم الضرائب ما خلا الزكاة، لأن من حق الحاكم المسلم أن يفعل ذلك ضمن ظروف معينة.
لذلك كله يبدو من العبث أن يلجأ البعض ممن يؤدون هذه الفريضة من أهل اليسر والثراء، ومعهم بعض محدودي الدخل ممن يملكون النصاب المعلوم، إلى البحث عن شواذ الفتاوى للوصول إلى أقل قدر من الزكاة يمكن أن يدفعوه، مع علمهم أن تتبع الشواذ من الفتاوى هو مهلكة محققة كما ذهب أهل العلم الثقات، وهو ما ينطبق على الزكاة.
من الضروري أن يتذكر من يؤدون هذه الفريضة العظيمة من فرائض الاسلام أنهم يتعاملون مع رب حكيم عظيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن استصدارهم لفتاوى من هذا الشيخ أو ذاك عبر أسئلة فيها الكثير أو القليل من اللف والدوران، لا يمكن أن يكون صحيحا من الزاوية الشرعية بحال من الأحوال.
من المؤكد أن بإمكان أي واحد من أولئك أن يمتنع عن أداء زكاة ماله، ولن يجبره أحد على ذلك، لكن تأديتها وفق فتاوى اللف والدوران في حساب المبلغ المطلوب إخراجه، إو من خلال البحث عن الفتاوى الشاذة، لن يدخله في دائرة من أدى هذه الفريضة أو هذا الركن الذي لا يصح اسلام مسلم بدونه.
وحده دافع الزكاة هو من يعرف حقيقة نيته تجاه هذه الأرض التي يملكها، أكانت للتجارة أم لغير ذلك، ووحدها دافعة الزكاة من تعرف ما إذا كانت تلك الجواهر التي تملكها لأغراض الزينة أم لأغراض الكنز والتوفير، وقس على ذلك الكثير من مسائل الزكاة.
والحال أن مسألة الأراضي التي تشكل واحدة من أهم عروض التجارة هذه الأيام لا زالت تحظى بالكثير من الغبن في سياق الزكاة الشرعية، إذ يميل أكثر ملاك الأراضي إلى عدم دفع زكاة عنها، وهو ما يخالف إجماع العلماء، حيث ينبغي أن تقدر قيمة الأرض عند حلول الحول ثم تدفع زكاتها، وبشكل سنوي.
ولا نعني هنا قطعة الأرض المخصصة لبناء المسكن أو الزراعة أو الإيجار، وإنما الأرض المهيأة للبيع عند وجود الفرصة المناسبة أو الحاجة للمال، لأن الأرض عندما لا تستخدم للسكن ولا للزراعة، فهي إما أن تكون من عروض تجارة أو شكلا من أشكال الادخار، وفي كلا الحالين تجب عليها الزكاة كما يقول العلماء، من دون النظر إلى شذوذ هنا أو هناك.
لا قيمة للحديث عن فتاوى قديمة في السياق، فالأرض كجزء من عروض التجارة لم تعرف على هذا النحو في القديم، لكنها اليوم من أهم العروض، وهي من أهم وسائل الادخار والاستثمار عند كثير من الناس، فبأي منطق تفرض زكاة على مبلغ من المال يملكه شخص، ثم يُعفى منها حين يشتري به قطعة أرض ليست للبناء ولا للزراعة، وإنما للادخار والبيع عند الحاجة؟! وحتى من ورثوا الأرض وراثة، فهم يملكون مالا، وعليهم أن يبيعوا ليدفعوا، وسيجدون مشتريا حين ينزّلوا السعر، وهذا مطلوب أيضا لتخفيض الأسعار، وتسهيل الحياة على الناس، وحتى لو لم يبع الآن، فالزكاة دين عليه حين يبيع، ولا تدفع مرة واحدة فقط عند البيع كما يذهب بعضهم في منطق قصير النظر، لا يفقه معنى المال.
سيقول البعض إنك لست عالما ولا مفتيا، وأن هناك من أهل العلم من يقول بخلاف ذلك، وأنا أقول لمن يرد بهذا المنطق: “استفت قلبك ولو أفتوك وأفتوك”. اسأله، أليست هذه الأرض مالا مدخرا أو مستثمرا بالنسبة لك، فلماذا تميزه عن غيره من أنواع المال؟!
دعك من مشايخ لا يعرفون ماهية المال، ولا حركة الاقتصاد، لا في الإسلام ولا في الاقتصاد الحديث، وإنما هم ينقلون بعضهم عن بعض دون تدبر، فالأمر جد واضح، ولا يحتاج سوى لقلب نظيف، وروح تتذكر أنها تتعامل مع الله عز وجل، وليس مع دائرة الضريبة.
بقي أن نقول إن إدراك عظم هذه الفريضة من فرائض الاسلام لا يتأتى إلا من معرفة ما يترتب عليها من تأثيرات على المجتمع المسلم في سياق تكافله، وحمل غنيه لفقيره، فضلا عن تأثيرها على تزكية النفس وربطها بخالقها عزّوجل. “ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”. صدق الله العظيم.