"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"
د. محمد خازر المجاليهي أرجى آية في كتاب الله تعالى، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه؛ تأتي مؤنسة للقلب، مطمئنة للنفس، تضفي سكينة عجيبة ترتاح لها القلوب، حتى تلك الموغلة في المعاصي المنيبة إلى الله تعالى، تطرق كلماتها العقل كما الفؤاد، تُشعر بمحبة شديدة من الله لعباده الذين وثقوا به ورجوه وعرفوا قدره، قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر، الآية 53).
إنهم عباده مهما فعلوا وابتعدوا، وهو الرؤوف الرحيم بهم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ يفرح لتوبة العبد أكثر من العبد نفسه، فيحب من عباده الإنابة إليه وحسن عبادته ورجائه.
يأمر الله نبيه محمدا أن يخاطب أمته، خاصة أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب، صغيرها وكبيرها، وتجاوزوا حتى حد الذنوب العادية، بأن يقول لهم: "لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ"؛ فلا قنوط مع الثقة بالله، مع استشعار وجوده وقدرته سبحانه، فهو الذي يغفر الذنوب جميعا، مهما كثرت أو عظمت. ويؤكد الله سبحانه هذا بأنه هو الغفور الرحيم. وما أجمل اجتماع هذين الاسمين له تعالى؛ المغفرة حيث محو الذنوب، والرحمة حيث فعل سبحانه ما فعل لأن رحمته سبقت غضبه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الأم بولدها، يحب أن يرحم. فليتقدم العبد إلى الله، ويغير منهجه ويصوب أمره ويثق به.
ونحن في شهر عظيم تسمو فيه الروح وتتألق، ويرى أحدنا ببصيرته لا بمجرد بصره، يعرف قيمة نفسه وحقيقتها، ومقدار قربها من الله أو بعدها. فالله يحب من عباده أن ينيبوا إليه، أن يعرفوا حقيقة هذه الحياة ولماذا خلقهم وما هو مصيرهم. ولو عرف كل واحد منا أنه في هذه الدنيا لمهمة عزيزة هي عبادته تعالى والقيام بأمره، وأن هذه الدنيا مؤقتة والآخرة هي دار القرار، فيعمل صالحا مهما استطاع. وكل ذلك إيجابي في الحياة، يتفاعل معها في طاعة الله الذي لم يخلقه عبثا: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (المؤمنون، الآيتان 115 و116). تعالى الله عن العبثية، فالمسألة جادة، ولا بد من بصيرة وعلم وواقعية، فأنا مخلوق لغايات ولا يجوز أن أنشغل عنها، وعمري قصير لا يجوز أن ألتهي فيه عن مهمات الأمور.
ومع هذا الرجاء الذي بينته الآية، يأتي مباشرة بعدها قول الله تعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ" (الزمر، الآيتان 54 و55)؛ فمن أراد المغفرة الحقيقية التي تكفل الله بها، فلا بد معها من إنابة حقيقية إلى الله تعالى، لا بد من انكسار له واعتراف بما اقترف الإنسان بينه وبين ربه، ينيب ويستسلم له، حتى لا يأتيه عذاب الله وحينها لا ناصر ولا ولي. وليكن أيضا الاتّباع لهذا الكتاب، وهو أحسن ما نزل من عند الله تعالى، وهو حبل الله المتين الذي ينبغي أن نتمسك به ليقودنا إلى الصراط المستقيم. فالاتباع هنا ضروري، وإلا سار كل منا هائما على وجهه؛ فلا بد من دليل ومرشد وهاد، وهو هذا القرآن الذي "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت، الآية 42)، حتى لا يأتينا العذاب بغتة، ويكون المصير هو الهلاك لا قدر الله. ونستشعر هنا لفظ "الرب" الدال على التربية التي ينبغي أن نراعيها ونتدرج فيها.
وهنا ينتقل بنا السياق إلى ما بعد هذه الأحداث، فالدنيا إلى زوال، والآخرة حق لا لبس فيه، فلتكن التوبة والإنابة الآن قبل الندم: "أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" (الزمر، الآيات 56-58)؛ فهي أمور ثلاثة ذكرها الله تعالى على ألسنة الخاسرين مع ندمهم: أولها، الاعتراف بأنه كان من الساخرين؛ يسخر من أمر الله ومن عباده، يستكبر عليهم ويستصغر شأنهم، فالتهى عن حق الله. والثاني، أنه يتمنى لو أن الله هداه، مع أنه تعالى هداه النجدين، وألهم نفسه فجورها وتقواها، وحذر سبحانه ورغّب، ولكنها النفس التي تتآمر على فطرتها فتضل وتسلك درب الضلال. والأمر الثالث، حين ترى النفس حقيقة العذاب، ليتمنى أحدنا لو يعود إلى الدنيا ليعمل من جديد، ليكون من المحسنين.
هي فرصنا الآن قبل الندم؛ فحياتنا الدنيا واحدة لا تتكرر، وهي قصيرة منتهية لا محالة، والعاقل هو من يسخرها لحياة باقية في جنات النعيم. ولهذا يجيب الله تعالى هؤلاء على ندمهم: "بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" (الزمر، الآيات 59-61). فقد بين تعالى وأرشد، ولكنه الحمق والعناد واللهو واللعب، فيجيب الله هؤلاء النادمين بعد فوات الأوان أنه أنزل آياته، ولكنه التكذيب والاستكبار عن أمر الله، فاستحقوا وصف الكفر، وتراهم يوم القيامة يتميزون بوجوه مسودة، علامة على سخطه تعالى عليهم.
وأشير إلى لفظ "الاستكبار"، حيث ورد بوضوح هنا. فحقيقة التكذيب والإعراض هي الاستكبار عن أمر الله تعالى، وهو ذنب إبليس الأول. وتلفت الآيات مصير المتقين، حيث ينجيهم الله تعالى، فقد فازوا برضوانه حين أقبلوا عليه تعالى، وأنسوا به، فلن يمسهم السوء أبدا، ولا يخطر على بالهم حزن على شيء فاتهم، فهم في جنات مكرمون.
لنكن أصحاب همة في هذا الشهر العظيم، إقبالا على ما يحبه ربنا ويرضاه، ولنطلق اللهو واللعب والركون واليأس، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وليكن شعارنا في هذه الحياة: "كن مع الله ولا تبالي".