حلمي الأسمر
الثورات العربية... استعادة وآفاق
التاريخ:30/6/2016
حينما اشتعلت ثورتا تونس ومصر، قبل نحو خمس سنوات، هبّ المستقبليون والباحثون لاستخلاص نتائج وعبر أولية. ويمكن أن نستخلص، اليوم، نتائج ليست أولية، بل أقرب ما تكون إلى النهائية، قد تضيء طريق المستقبل، فثورات الربيع العربي لم تكن هبّة مؤقتة، أو مجرد أنفلونزا يمكن معالجتها بالمسكّن وبعض المضادّات الحيوية والخلود إلى الراحة. إنها موسم التغيير بكل ما يحمل من معانٍ، تغيير لن يقف عن حدوده السياسية، بل سيطال كل البنى القائمة، على نحوٍ أو آخر، على الرغم من الانتكاسات العميقة التي أصابتها، والمليارات التي أنفقت لسحقها. واليوم، لم يزل "شبح" الثورات يخيّم على رؤوس المرتعدين خوفاً من عودتها، أو قل "قيامتها" الثانية، بعد أن أعادت إنتاج نفسها، وأنضجتها المحن والخطوب التي تكالبت عليها، حتى بدا لأساطين الثورة المضادّة أنهم دفنوها إلى الأبد، مع أنها لم تزل كالجمر تحت الرماد.
ويمكن للمرء أن يحصر، هنا، بعضا من نتائج القراءة المعمقة، لواحدةٍ من أكثر الظراهر نبلاً في حياتنا المعاصرة.
أولاً: لا يوجد أي بلد عربي في منأى من التغيير، لكن الفرق هنا أن على قيادات هذا البلد أو ذاك أن تختار طريقة التغيير، وفق ظروفها وما أنجزت أصلاً قبل موسم الربيع. أما أن تضرب صفحاً عن هذا الملف باعتباره غير موجود، فهذا لم يعد ممكناً، والأفضل لها أن تبدأ شقّ طريق التغيير بعقلٍ بارد، بدلاً من العمل على وقع هدير الجماهير، حين تبدأ لعبة التنازلات في الوقت الضائع، وحيث لا يستمع إليها أحد، حتى ولو استمرت عملية "الستربتيز" السياسي إلى مرحلة الزلْط أو الملط الكامل.
ثانياً: لم تعد لعبة التآمر والمندسين والتدخل الخارجي، والعصابات المسلحة والسلفيين، والتخويف من الإسلاميين المتطرفين، مسلية، بل بدت باهتةً ومثيرةً للسخرية وباعثةً على الرغبة في التقيؤ، لأنها من السخافة بحيث غدت مهترئةً حد الغثيان والإفلاس الكامل، فلتبحث مختبرات الكذب عن مسوّغاتٍ أخرى للقمع والقتل والتدمير.
ثالثاً: النظام الذي يقتل شعبه، والجيش أو الجهاز الأمني الذي يبيح دم أهله، يوقّع على شهادة وفاته فوراً، مع تسجيل اسم أول شهيد، لأن الصلحة ممكنة في حال القتل الخطأ، أو حتى العمد بين فرديْن، أو أسرتيْن أو عشيرتيْن. ولكن، حينما يعمد ولي الأمر إلى إصدار أوامر القتل لأحد أفراد رعيته، فلا مكان للصلح أو التفاهم، فما بالك إذا أهدر دم مدينة أو شعب؟ مع من سيتصالح؟ مع عصابته الحاكمة أم مع زبانيته؟ كيف سيحكم، من بعد شعباً يتَّم أطفاله، ورمَّل نساءه؟ كان هذا ممكناً في الماضي، قبل ثورة "يوتيوب" و"فيسبوك" و"تويتر"، وكاميرات الأجهزة المحمولة. أما الآن، فكل ما يفعله الناس هو برسم البث المباشر والـ(share). والغريب، هنا، أن بعض المسؤولين العرب لم تصل إليهم مستجدّات الحياة "الديجيتال"، ولم يزالوا يكتبون بقلم كوبيا، في حين أن الأقلام كلها تحولت إلى متحف التاريخ الفلكلوري، لصالح هيمنة "الكي بورد" وتقنية اللمس.
رابعاً: الاحتماء بالشبيحة والبلطجية والزعران وأصحاب السوابق والمرتزقة، ومن لفّ لفهم، واستعمالهم قفازاتٍ لقمع الشرفاء وعموم الشعب، ثبت بالدليل القطعي أنه أسلوبٌ فاشلٌ في استئصال الثورات، بل إن هؤلاء، بغبائهم وخشونتهم وقسوتهم، كانوا كالبنزين الذي يُصبّ على النار لإطفائها، فكلما أسرف هؤلاء في بشاعاتهم، وفّروا مادة فيلمية مثيرة لمزيدٍ من الثورة، إنهم ملحٌ يرشّه المسؤولون المذعورون على جراح الجماهير، فيزيد هياجها.
خامساً: الشعب يصنع ثورته بسلمية حركته، وهو الطريق الأسلم والأسرع للتغيير، أما حينما يضطر إلى الثورة المسلحة، فقد تاهت البوصلة، وتعاظم الثمن. ولهذا، تحرص بعض الأنظمة على جرّ المحتجين للردّ على العنف بالعنف، وهنا مقتل التغيير وتأجيله، ورفع هائلٌ لثمنه. وحسناً تفعل الشعوب، حينما تصرّ على مواجهة الرصاص بالصدور العارية، لأنها أقوى بكثير في التأثير والتغيير، حتى ولو تأخر قطف الثمار.
سادساً: في مسألة التأثيرات الخارجية، وصناعة الحدث من الخارج، كثر الحديث بشكل لافتٍ
"تحرص بعض الأنظمة على جرّ المحتجين للردّ على العنف بالعنف"
عن صناعة الثورة بالريموت كونترول، من أميركا أو أوروبا أو حتى إسرائيل، باعتبار أننا شعوبٌ لا نتحرّك ذاتياً، بل نحتاج آباءً يوجهوننا كيفما يشاؤون. والحقيقة أن هذا التفسير متورط به عددٌ كبير من النخب العربية الذين يشعرون بغربةٍ ما عن حراك الشباب، كأني بهم يستكثرون على جيلٍ يافع أن يسبقهم بسنواتٍ ضوئية، ويحقق، في أسابيع أو أشهر، ما عجزوا عن تحقيقه في عقودٍ وربما قرون، فتراهم يحاولون تفسير الظاهرة، تارةً بعقلية المؤامرة، وأخرى بعقليةٍ تشاؤميةٍ مغرقةٍ بالسواد، باعتبار أن كل ما يجري حراكٌ هشٌّ يأخذ البلاد إلى المجهول، وتحاول مثل هذه النظرة التشاؤمية أن تهرب إلى رؤىً غائمة غامضة، أسفاً على وضعٍ كان قائماً، ربما كان يحقق مصالح معينة لهم، فقد اعتادوا على رؤية الباشوات الجدد يرتعون في خير البلاد والعباد، ويتصدّقون على طبقةٍ منتفعةٍ من النخب، حتى إذا زال كل شيء شعر هؤلاء باليتم، فطفقوا يبحثون عن مخذلات للثورة، ويفسّرونها بتفسيراتٍ ملتبسةٍ، إن لم نقل سوداء حاقدة، لأن الشباب أخذوا منهم دورهم الذي باعونا إياه عقوداً طويلة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لاحظنا أن كثيرين ممن يفكون الحرف من إعلاميين ومثقفين، بدأوا يبحثون في بطون الكتب والتصريحات عمّا يثبت أن كل شيء مخطط له، باعتبار أن كل ما يجري مجرد تآمرٍ على الأنظمة العربية لاستبدالها. والصحيح أنهم في الغرب، ومنه أميركا، لا يصنعون الحدث على الأغلب، بل يستثمرونه ويستفيدون منه، ولا ينتظرون حتى تُداهَم مصالحهم، فيتفاعلون مع ما يجري ولا يقفون متفرجين، وهذا طبيعي مع من له مصالح في بلادنا، بل ربما يحاولون سرقة ثمار الثورة، وحرفها عن مسارها. وهنا، يبرز دور صناع الثورة وحرّاسها، للمحافظة على منجزها، من دون أن يستعْدوا القوى العظمى، أو يُشعروها بأن مصالحها إلى زوال، وهذه مسألة معقدة تحتاج كلاماً كثيراً، لكن خلاصتها أن الحدث نبع من قلوب الملايين الذين لا تستطيع أن تحرّكهم إلا مشاعر مشتركة وقهر معتّق، وتواصل رقمي أتاح تبادل المعلومات والخبرات. ومن يعتقد أن أميركا تستطيع أن ترتكب هذه المعجزة، أخشى عليه من أنه يُشرك بالله، فما يجري حدث كوني، وصفه سائق تاكسي أميركي قائلا لكاتبة مصرية: أعتقد أن ثورتكم أنقذت الأجيال القادمة.
بعد خمس سنوات على ما بدا أنه خبو لنار الثورات العربية، لم تزل أسباب اندلاعها قائمة. ثمة استخلاصات لم تغب عن مختبرات التفكير التي ترقب بلادنا، وتوجّه الأحداث، يمكن تكثيفها في ما يلي:
- تكرّس في الوجدان الشعبي الجمعي أسلوب التغيير السلمي، وسنرى في مقبل الأيام هذا الأسلوب قد أصبح المفضل في تغيير أي واقع، وستلجأ له كل المجتمعات والتجمعات، صغرت أم كبرت، ومهما تنوعت اهتماماتها، وسيكون الطريقة الفضلى للتعبير عن الذات الجمعية.
- بدأ الشخص الطبيعي يعرف قيمته المادية والمعنوية، ولن يكون في وسع أحدٍ أن يصدق مقولة (وأنا مالي) أو (لا أستطيع أن أفعل شيئاً)، بعد أن ثبت بالقطع قدرة الفرد داخل جماعته على صنع المعجزة، وسيترسّخ أسلوب العمل الجماعي، وسنرى في أماكن العمل خصوصاً تكتلات الأفراد وتضامناتهم مع بعضهم، على العكس من زمنٍ مضى، حينما كان المنادي بالتضامن الجمعي مع حالةٍ فرديةٍ يبدو شاذّاً، بل سيشذ من ينأى بنفسه عن المجموع!
- في أي تغيير ثوري على مستوى الدولة، يتعيّن على فلسفة الأمن إعادة النظر في آليات عملها، لاستيعاب (وإعادة) إنتاج الحركات الشعبية، والتعاطي معها بالحوار لا بالتغييب، باعتبارها حركة تمرّدٍ على الشرعية، لأن مفهوم الشرعية اليوم اختلف عما مضى، فالمؤسسة تأخذ شرعيتها من البيعة بالمفهوم الإسلامي، أو الانتخاب بالمفهوم المعاصر، وبعيداً عن هذين المفهومين، ستكون شرعية القهر والجبر خارج التاريخ، ولو عمّرت بعض الوقت.
- لم يعد ثمّة من مكان للنظام الشمولي الذي يعيش خلف ستار حديدي، فوسائل الاتصال الحديث قضت على أي خصوصيةٍ قطرية، وأي حدثٍ يقع في أي بقعةٍ أصبح عرضةً للنشر، بعد تزايد ظاهرة المواطن الصحافي وانتشارها.
- أخيرا.. التغيير قادم، الآن أو بعد حين. ومن يحسب أنه في منأى عنه يعيش في وهم كبير، فلا يوجد بلد عربي أو غربي محصّن ضد التغيير. والاختلاف، هنا، تحكمه عقلية من يدير هذا البلد أو ذاك، فإما أن يكون التغيير سلساً غير مكلف، أو دموياً مكلفاً، لكنه غدا حتميةً تاريخية، إن جاز التعبير.
(العربي الجديد)