الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة (1)
الدكتور ناصر الدين الأسد
الحداثة مصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح، كلُّ مصطلح، إنما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله إلى مفهوم غيره إلا باستعمال مصطلح آخر، فالحداثة إذن ليست كلمة عامة يُقصد بها الجِدَّة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه، فتختلف بذلك سماتها ومظاهرها وعناصرها باختلاف العصور، فالتجدد والتطور في العصر الأموي، في الحياة عامة، لهما من السمات والمظاهر ما يختلف عن عصر الراشدين، ثم ما يختلف عن العصور العباسية وما تلاها من عصور.
وقد اختلط معنى مصطلح (الحداثة) في اللغة العربية في بدء استعماله ودورانه على الأقلام والألسنة بمعنى الجِدَّة، وربما كان سبب ذلك أن الوصف منها هو (حديث)، فقالوا: (العصر الحديث)، و (الشعر الحديث)، فظنوا أن هذا الوصف منصرف إلى معنى (الجديد)، أو هذا الذي نحن فيه الآن، وربما جعلوه بمعنى (المعاصر)، وقالوا إن لكل عصر جديده أو حديثه، مرددين قول الشاعر: إن ذاك القديم كان حديثًا **** وسيغدو هذا الحديث قديما
ومن أجل رفع هذا الالتباس أصبح بعض كتابنا في هذه الأيام يستعملون صفة (الحداثي) بإضافة ياء النسبة إلى المصدر، وربما زادوا في التوضيح فقالوا (الحداثية) - باستعمال المصدر الصناعي - للتفريق بينها وبين (الحداثة) بمعنى الجِدَّة، ثم أغرب بعضهم فاستعملوا للمصدر لفظة (الحداثوية)، وللصفة لفظة (الحداثوي). كل ذلك ليثبتوا لهذا المصطلح انفراده بمعنى خاص، وامتيازه من غيره.
فما هي إذن هذه الحداثة التي اختلف كثير من الناس في فهمها، وحاروا في إدراك مقوماتها أو عناصرها؟ ولابد لنا قبل أن نمضي في الكلام على الحداثة من أن نشير إلى أنها - في أصلها - ترفض التحديدات والتعريفات وصياغة النظريات العامة وإصدار الأحكام القاطعة. من أجل ذلك لا نكاد نجد في المراجع التي تبحث في الحداثة، تحديدًا واضحًا أو تعريفًا شاملًا لها، وإنما نجد فيها تناولًا عامًا لبعض صفاتها أو مرتكزاتها أو مظاهرها أو آثارها، وهو ما سنتطرق إليه في الصفحات التالية، وربما كانت هذه التعميمات الفضفاضة لمدلول الحداثة من أسباب الاختلاف في فهمها وتفسيرها، حتى لقد قيل إن لكل بلد حداثته، ومع ذلك وقعت الحداثة - في الممارسة والتطبيق العملي: في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة - فيما رفضته نظريًّا، وفيما يخالف مبادئها ومنطلقات أفكارها.
فشهد القرن العشرون - مع التقدم العلمي والتكنولوجي - أقسى أشكال التحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في الشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية والصهيونية. وقد قامت كلها على أساس الأحكام القاطعة التي لا تقبل بغيرها، ولا تسمح بالرأي الآخر، وعلى أساس الفردية المطلقة، وإهدار قيم المجتمع، واغتصاب حقوق الآخرين، واحتلال أراضيهم، وتعذيبهم وقتلهم فرادى وجماعات، واستلاب اللغات والثقافات. وانتهت الحداثة الغربية بتقدمها العلمي والتكنولوجي إلى إفساد البيئة وتلويثها، والعبث بالطبيعة، واستنزاف الموارد الخام ونهبها، واستفحال الاستعمار، واستعباد الشعوب وتدمير كوامن القوة فيها، وإن كانت تدعي نقيض ذلك تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسواهما من الشُّعُر الزائفة التي تكيل بمكيالين، والتي تستعمل المقاييس المزدوجة.
من أجل هذا كله أصاب الفزع كثيرًا من أحرار المفكرين والمثقفين، فأعلنوا انتهاء الحداثة وسقوطها واستنفادها أهدافها التي نادت بها في البدء، ونادوا بشعار جديد هو (ما بعد الحداثة) . ولا يزال هذا الشعار يكتنفه الغموض، ولكنه لا يعدو أحد أمرين عند هؤلاء المنادين به: فبعضهم يرى أنه تهذيب للحداثة وتليين لها بعد أن أصابها الجفاف فقست وأصابت البشرية بكثير من الكوارث الطبيعية والإنسانية، وكانت العامل وراء هذه الحروب العالمية والمحلية، وفي انتشار المجاعات والأمراض، بسبب خلوها من الروح، فهي محتاجة إلى تطعيم (ماديتها) المُغرِقة بقدر من المعنويات والروحانيات لتكتسب جانبًا إنسانيًّا يخفف من فرديتها وجمودها وأنساقها المغلفة.
ويذهب فريق آخر إلى إنكار هذا الشعار الجديد، وإلى تأكيد أن الحداثة ليست محدودة بزمن أو عصر حتى يقال إنها انتهت أو سقطت، أو يقال إن حقبة أخرى ستتلوها هي حقبة ما بعد الحداثة. وموضوع ما بعد الحداثة لا يدخل في عنوان دراستنا حتى نفصل القول فيه، ولذلك نكتفي بهذه الإشارة العابرة إليه، وربما تساءل بعضنا ساخرًا: وهل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة؟
ولا يزال كل هذا الذي ذكرته من تقديم بين يدي الموضوع يحتاج إلى مزيد من التوضيح - على ما بذلت من جهد لتخليصه وتلخيصه -، ولا يتأتى هذا التوضيح المطلوب إلا بعد أن نتحدث عن طبيعة الحداثة وجوهر أفكارها ومبادئها.
والحداثة الغربية نتاج الثقافة الغربية والفكر الفلسفي الغربي، وقد بدأت معالمها تتضح بالتدريج منذ القرن السادس عشر الميلادي، ثم أخذت تنمو وتتدرج في صور الحياة الغربية المختلفة، حتى أصبح الغربيون ينسبون إليها أسباب تقدمهم وازدهار مراحل حضارتهم خلال هذه السنوات الأربع مائة.
والارتباط وثيق بين الحداثة والعلمانية أو الثورة على الكنيسة - خاصة الكاثوليكية في الفاتيكان - وحركات الإصلاح الديني عند مارتن لوثر (1483 - 1546م)، وجون كالفن (1509 - 1564) . وقد كانت تلك العلمانية في بدء أمرها تحررًا فكريًّا من سيطرة الكنيسة ونفوذ رجال الدين من الكهنوت، واحتكارها للعلم والمعرفة، وحجرهم على العقول واضطهادهم للعلماء من غيرهم، وإقامة أنفسهم وسطاء بين الله والناس، ويحكمون عليهم بالكفر والحرمان من الجنة، أو يقبلون توبتهم ويمنحونهم صكوك الغفران. فكانت حركات الإصلاح الديني ودعوات المفكرين تنادي برفع تحكم رجال الكنيسة في الفكر ووصايتهم على العقول، وترك العلاقة بين الله والناس مباشرة مفتوحة، فهو وحده الذي يحكم بالحرمان أو الغفران.
حتى قد ذهب بعض العلماء إلى أن تلك الحركات والدعوات، كانت متأثرة بما كان شائعًا بين العلماء والمتعلمين في أوروبا من المعارف الإسلامية، ومن تعاليم القرآن الكريم وكتابات المفكرين والفلاسفة المسلمين. وقد أقاموا الدليل على ذلك بقدوم أعداد من هؤلاء المتعلمين إلى الأندلس للدراسة في المدارس وحلقات العلم هناك، ومنهم عدد من الرهبان الذين أصبح أحدهم بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهو (سلفستر الثاني) في سنة 999م، وكذلك استدلوا بكثرة الترجمات للقرآن الكريم ولكتب بعض هؤلاء العلماء والفلاسفة المسلمين من أمثال: الكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد والحسن بن الهيثم وغيرهم كثير، وقيام اتصال وثيق بين المسلمين والأوروبيين في أثناء حروب الفرنجة (الحروب الصليبية)، ومن خلال السفراء والأسرى بين الجانبين، وكان منهم علماء وفلاسفة تدور بينهم جميعًا محاورات دينية يعرض المسلمون من خلالها الإسلام .
ولكن هذه النشأة التاريخية ما لبثت أن مرت في مراحل من التطور، فأصبحت الثورة على الكنيسة ورجال الكهنوت ثورة على الدين نفسه، وكفرًا به، إلى أن قال (نيتشه) (1844 - 1900) قولته المشهورة: (قد مات الإله)، وأصبح تنظيم شؤون الحياة والناس لا علاقة له بتعاليم الدين، وراج شعار (الإنسان يصنع تاريخه) . وربما كان هذا التغير في موقف العلمانية ومعناها هو السبب في الاختلاف في فهم كثير من الناس لها وفي موقفهم منها. فإن فُهمَت على المعنى الأول فنحن - المسلمين - معها، إذ لا كنيسة عندنا ولا كهنوت، وإن فُهِمَت على المعنى الثاني فهي منافية للدين منكرة لله عز وجل، ولا يقبل بها مسلم مؤمن.
وهذا الذي ذكرناه عن العلمانية هو الحداثة بعينها، وهو يُدخِلنا فيها من أوسع أبوابها، ذلك أن ما قاله (نيتشه) وما ذكرناه من أن (الإنسان يصنع تاريخه) هما من أسس الحداثة وركائزها. بل لقد ذهب بعضهم إلى أن تعريف الحداثة: هو أن (الإنسان يصنع تاريخه) مع تأكيد كلمة (الإنسان) وأن (هذا القول بمثابة شهادة ميلاد الحداثة، وتحديد مجال تساؤل الفكر الاجتماعي) ، وحتى نستكمل توضيح هذا العنصر العلماني من عناصر الحداثة نحتاج إلى أن نستمر في اقتباس عبارات من أصحاب هذا المذهب، فأحدهم مثلًا يتساءل : (
هل أصبح من الممكن ربط مختلف إنجازات المعرفة الفرعية ودمجها في تفسير موحد للواقع الاجتماعي ككل؟) ويجيب بقوله: (للإجابة على هذا السؤال طابع فلسفي بالضرورة، لقد كان لإجابة جميع فلسفات العوالم القديمة - أي السابقة على الحداثة الرأسمالية - طابع ميتافيزيقي صريح. فكانت هذه الفلسفات تؤكد أن هناك نظامًا يحكم الكون ويفرض نفسه على الطبيعة والمجتمعات والأفراد، فأقصى ما كان يمكن أن يحققه البشر - فرادى وجماعات - إنما هو اكتشاف أسرار هذا النظام، بواسطة صوت الأنبياء، وإدراك مغزى الأحكام الميتافيزيقية المضمرة، فالطاعة لها) .
ثم يقول: (نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن هذا الإرث ، فدخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وفَقَد الحكم طابعه المقدس، وصارت ممارسات الفكر العقلاني تنعتق من الحدود المفروضة عليه سابقًا. فأدرك الإنسان منذ هذه اللحظة أنه هو صانع تاريخه، بل إن العمل في هذا السياق واجب، الأمر الذي يفرض بدوره ضرورة الخيار.
انطلقت الحداثة - إذن - عندما أعلن الإنسان انعتاقه من تحكُّم النظام الكوني. وارتأى - وأشارك العديد من الآخرين في هذا الرأي - أن هذه القطيعة كانت أيضًا لحظة تبلور الوعي بالتقدم. فالتقدم - في مجال إنماء قوى الإنتاج، أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية - ظاهرة موجودة منذ الأزل. ولكن الوعي بالتقدم، أي الرغبة في إنجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة. من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفًا للتحرر والتقدم) . ثم يقول: (ليس هناك تعريف آخر للحداثة - في رأيي - غير هذه القطيعة الفلسفية) .
ومما يزيد الأمر وضوحًا تلك الدراسات الأوروبية في موضوع علم الاجتماع الديني وخاصة في فرنسا. ومن الدارسين الذين بحثوا هذا الموضوع الباحثة الفرنسية (دانيال هير فيوليجيه)، التي تناولت العلاقات المتشابكة بين الدين والحداثة والعلمانية، فهي تقرر أن الحداثة كانت تتصور أنها مسار تاريخي طويل للتحرر من إسار الدين، وذلك بتضافر ثلاثة أبعاد كبيرة أولها: تأثير العقلانية، والتركيز على العلم والتكنولوجيا، مما يجعل الإنسان ينظر إلى الكون من منظور علمي بعيد عن الرؤى الدينية للعالم التي كانت تقدمها الأديان الكبرى.
وثانيها: أن جوهر الحداثة يتركز في استخلاص الفرد الفاعل المستقل من إطار السياقات الاجتماعية الكلية التي كانت تذيب فرديته؛ كالقبيلة والأسرة الممتدة وعضويته في الحرف التقليدية. وبذلك أصبح الفرد قادرًا على أن ينتج بنفسه معايير الخير والشر ومرجعياتهما، ويحدد توجهاته المستقلة، من خلال النقاش الحر مع أمثاله من الأفراد الفاعلين، حول المعنى الذي يريد أن يضفيه على العالم.
وهذه الاستقلالية من شأنها - دون أدنى شك - أن تحقق على حساب تراث الديانات السماوية الكبرى التي درجت على فرض القوانين التي تحكم حياة الناس من الميلاد حتى الموت.
أما البعد الثالث: فيتعلق بسمة أساسية من سمات المجتمعات الحديثة، وهي تخصص المؤسسات وتميز كل واحدة منها عن الأخرى، مما يجعل كلاًّ من النسق السياسي والثقافي والاقتصادي والديني ومن الحياة الخاصة دوائر منفصلة، بحيث توقف النسق الديني عن فرض قواعده على القطاعات الأخرى. فالنظام السياسي في المجتمع الحديث - بتأثير العلمانية - تخلص من تأثير النسق الديني تحت شعار الفصل بين الدين والدولة، كما أن القطاعات الاقتصادية، وحتى الثقافية، انطلقت بعيدًا عن التوجهات الدينية الصارمة التي رأى فيها أنصار الحداثة قيودًا تكبل انطلاقة المجتمع تجاه التقدم . وهكذا نجد في ظل هذا التصور الحداثي وفي ضوء المسيرة التاريخية الفعلية؛ أن علم الاجتماع الديني كاد ينحصر في دراسة ظاهرة الإزاحة للدين في المجتمعات الحديثة، وتتبع وتيرة الإزاحة وتنويعاتها الوطنية في مختلف المجتمعات .
وحين نعيد النظر فيما عرضناه في الصفحات السابقة لنستخلص منه عناصر الحداثة وركائزها من أجل أن نصل إلى توضيح لها بذكر صفاتها وماهيتها وليس بتعريف لفظ يحددها، نجد لها العناصر والمقومات التالية:
أولها: حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم، وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) . ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية، وذلك رد فعل لاحتكار الكهنوت للمعرفة والعلم، وتحكمهم بعقول العلماء والمفكرين، على ما فصلنا القول فيه.
وثانيها: تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، فيقبل ما يقبله عقله ويرفض ما لا يقبله. وانتهى الأمر إلى تأليه العقل، وإنكار الغيب، ونفي الوحي، وعُدَّا من الخرافات، حتى إنهم ابتدعوا تعبير (ثقافة الخرافة) ، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الغيب والوحي وبين الخرافة، على ما سنبينه في صفحات تالية. ومن هنا نشأ الاعتقاد بأن الحداثة تدعو إلى القطيعة مع الماضي ومع التراث، وهو اعتقاد صحيح إذا حُصِر في القطيعة مع أنماط التفكير وأساليبه، ومع التراث الديني المسيحي ونصوصه.
وثالثها: الأخذ بالعلم ومناهجه، بعيدًا عن تصديق تعاليم الدين وأحكامه مما لا يخضع لقوانين العلم وتجاربه، وأصبح الإنسان هناك يحس بأنه سيد مصيره وصانع تاريخه، فسادت العقلانية المادية التي صورت للإنسان قدرته الغالبة على الكون والدين (الكنيسة) ونبذ الغيبيات. وكان كل ذلك بسبب نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي منذ أن تحرر العقل الأوروبي من ربقة قيود الكنيسة، وانطلاقه في فضاء رحب لارتياد المعرفة في الأرض والبحر والجو.
ورابعها: الإيمان بفكرة التقدم. وخلاصتها أن الإنسانية تسير دائمًا إلى الأمام من عصر إلى عصر، وأن كل عصر تالٍ لابد أن يكون أكثر تقدمًا وأفضل للناس من العصر الذي سبقه؛ فالحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر. والتقدم بهذا المعنى أمر حتمي. على حين كان الناس قبل القرن السادس عشر يمجدون الماضي، ويرون أن العصور السابقة كانت أفضل من الحاضر، وأن كل عصر أسوأ من العصر الذي قبله، ومن هنا نشأت فكرة تقديس الماضي، وأصبح كثير من الناس يحنون إلى الأيام الفاضلة السعيدة (Good old days) .
وفكرة التقدم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة التطور، فقد (كان العقل البشري في عمومه يعتقد بأن للأشياء - وضمنها الأفكار، والمرجعيات والقيم والإيديولوجيا والمبادئ - حقائق ثابتة أزلية أبدية. وقد سمى الفلاسفة القدماء وربما أيضًا المحدثون؛ هذه الثوابت: جواهر، أما ما قد يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي - كما سموها - مجرد أعراض لتلك الجواهر) . وهذا يعني أن تلك (الجواهر) ستظل على حالها الثابتة منذ بدء العالم إلى نهايته دون تغيير أو تطوير. ثم جاء تصور عقلي جديد جعل (التغير) مكان (الثبات)، وانتهت بذلك مرحلة التفكير المطلق، وبدأت مرحلة التفكير النسبي (الذي ينظر إلى كل شيء على أنه متغير ونسبي) .
وذهب بعضهم إلى أن التقدم والحضارة وقفٌ على أوروبا، ومن هنا سادت نظرة التعالي الأوروبي إلى البلاد الأخرى (المتخلفة)، وخاصة بلاد آسيا وإفريقيا، وكان ذلك سببًا من أسباب حركة الاستعمار الأوروبي، إذ كان الاعتقاد أنه من حق تلك البلاد المتقدمة أن تستخدم سكان البلاد المتخلفة وتستعبدهم، وتستثمر مواردهم وتستنزفها لخير الإنسانية المتحضرة، وقد ادعى بعض ساستهم أن تلك البلاد الآسيوية والإفريقية لم تبلغ سن الرشد بعد، وأن الاستعمار هو وسيلة الأخذ بيدها إلى الترقي والتحضر.
وخامسها: تمجيد الفردية (Individualism) التي أخذت تنمو، وخاصة بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فـ (الفكر والنظام السياسي والاجتماعي الغربي قام على أساس مفهوم واحد مقدس هو الفردية، الذي يضمن للفرد السعي نحو تحقيق مصالحه، بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها لتحقيق هذه الغايات. وفي حال حدوث تضارب بين مصلحة الفرد والمجتمع فإن مصلحة الفرد هي التي تعلو على ما سواها. ومن هذا المفهوم تفرعت كل الأفكار والقيم الغربية المتعلقة بالحرية الفردية والمبادرة الذاتية التي لا تحدها حدود، ولا تكبلها ضوابط وقيود) .
*رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) عمان – الأردن.