هل رأيت في حياتك نهرا يجري؟
قرأت مرة قصة عن رسام حالم مرهف الحس، غير أنه أخفق تماما في بيع أي من لوحاته البديعة، فالتمس نصيحة صديق له يعمل كاتبا. فلما أن سمع الكاتب شكوى الرسام حتى ابتسم، ونصحه بأن يتوقف عن رسم الأشياء كما يراها بعينه الحالمة، وأن يضرب بفرشاته في جنبات اللوحات فيلطخ بها الصفحات، جريا على عادة الرسومات الرائجة آنذاك. وإن حدث وسأله شخص ما عن معنى هذه اللوحة أو تلك، فلْيَشخَص ببصره بعيدًا، ثم ليقل: "هل رأيت في حياتك نهرًا يجري؟".
لم يقتنع الرسام في البداية بالتخلي عن تصوراته وأحاسيسه التي يسكبها باستمتاع على تلك الصفحات البيضاء، إلا أنه تحت وطأة الحاجة والإحباط قرر أن يجرب النصيحة، وما كاد الرسام ينشر بضع لوحات على ذلك المنوال، حتى طارت شهرته في الآفاق، وتلقفه النقاد والمعجبون، وأقاموا له معرضًا خاصًا.
وفيما الرسام يحيّي رواد المعرض، سألته إحدى الزائرات عن إحدى لوحاته المعلقة، فما كان منه إلا أن شخص ببصره أمام الحضور المترقب، وأجاب بعد هنيهة صمت: "هل رأيتِ في حياتك نهرا يجري؟" وكان الرد على سؤاله تصفيقًا حارًا دوت به القاعة!
وحدث مرةً أن تأملتُ لوحةً عنوانها "الغراب الأصفر"، فدُهشت منها أيما اندهاش. ليس لأن الغراب أصفر، بل لأن اللوحة لم يكن فيها قطرة من لون أصفر، ناهيك عن شكل غراب، أو أي شكل ذي معنى، يمكن أن تستبينه من بين "لطخات" ملونة، ألقي بها على الورق دون عناية! وشعرت بكثير من الأسف لرؤية العبث بالجمال حتى في مجال الرسم، الذي طالما اتصلت بينه وبين الجمال أواصر المحبة.
هل يستأذن الجمالُ القلوبَ؟
كم نسمع عن الفن التشكيلي والتجريدي ومسميات أخرى عديدة، من المستحدثات على الفن والجمال، بينما لا تَمُتُّ للفن ولا للجمال بأي قرابة ولو بعيدة! فليس التشكيل ولا التجريد ما يجعل الفن فنا، وإنما الجمال الذي يأسر القلوب ويخلب الألباب، هو الذي يمكن تسميته فنا. إن الفنان إنسان مرهف الحس، وحين يرى جمالا تسكن إليه روحه، تأبى حواسه إلا أن تخلده في لوحاته، فلا يمر عليه مرور الكرام كغيره ممن تستعجلهم عجلة الحياة.
ومن تلك اللوحات التي تأملتها، ورأيتها تَمَس شَغاف القلب بما جمعت من رقة ورصانة وحنان، لوحةُ أم جالسة وفي حجرها طفل رضيع يتطلع إليها. ويبدو أنها كانت جالسةً في حديقةٍ تزدان بالورورد البيضاء، إذ طارت بَتَلةُ إحدى تلك الورود لتستقرَ على رأس الرضيع، فرفعت الأمُّ يدَها لتنفضها عنه. وعند ذلك التقت عيناها بعينيه، فابتسمت العينان وتبعتهما الشفتان، وسكن القلب للقلب في مشهد يجسده حبيبان يتناجيان. فكأن الزمن توقف إجلالا عند تلك اللحظة، ليخلد لنا دفقا من معاني الأمومة والرحمة والحنان في تلك النظرة، وتلك اليد الممدوة لتدفع عن الصغير أي أذى، ولو كان بتلة ورد!
إنني لا أعرف حتى اللحظة من الرسام، ولا تاريخ رسم اللوحة، ولا حتى "المذهب" أو "المدرسة" المتبعة، كل ما أعرفه أن تلك الصورة قد رسمت بجمالها "المباشر" الجلي الابتسامةَ على وجوه من تطلعوا إليها، وأثارت في قلوبهم طيفا من المشاعر الدافئة.
إن الميل للجمال فطرة في الإنسان. قد يكبُر بدرجات عند بعض الناس حتى يصل إلى حد الشغف به، وقد ينعدم في الحالات التي شاعت مع الأسف في العصر الحالي، حتى يستحيل القبح حُسنا، والعبثُ فنا، والبلاهةُ ذوقا! وتتعدد التعريفات والشروط والمذاهب، ويظل الجمال الحق يعرفه كل منا حين يراه، ويحبس أنفاسه للمنظر الخلاب حين يقع بصره عليه.
والفن الحقيقي ليس هو ذاك الذي يتبع قواعد اخترعت حديثا، فالفن ليس قاعدة بحد ذاته، وإنما هو معنى تهفو إليه النفوس، دون حاجة إلى "مذهب"، يفرض عليها أن "تصنف" هذا على أنه "جميل"، وغير المتبع للمذهب على أنه قبيح. الجمال وُجد بالفطرة في نفوس البشر، ومهما تعددت القواعد والتصنيفات، ومهما قام وقعد " كبار النقاد "، سيظل الجميل جميلا، ويظل "اللامعنى" بلا معنى. فالفن الحقيقي هو الذي يرسم البسمة على شفاه الجميع، بسطاء كانوا أم نخبة، باحثين عن الجمال كانوا أم مجرد متأملين.
إن الجمال لا يطرق باب القلب قائلا: "عفوا! أتسمح لي أن أتربع على عرش قلبك؟" بل هو من الذين يدخلون القلوب بلا طرق ولا استئذان. لقد شاهدت لوحات كثيرة لمشاهير ولغيرهم، لكبار الفنانين وصغارهم، ولم أتوقف يوما لأسأل "أتخضع تلك اللوحة لمذهب الفن هذا أم ذاك؟" ولم أستفسر عن صاحب اللوحة أو تاريخ حياته، ربما يعني ذلك أهل الاختصاص، ولكنه لا يعني متأمل الجمال. لقد كانت اللوحة الجميلة دوما جميلة بالإجماع، إجماع القلوب والعقول، سواء رأت من قبل نهرا يجري، أم لم ترَ.