مشروع الحاخام صموئيل هلل ازاكس كما جاء فى كتاب "الحدود الحقيقية للأرض المقدسة"
"ملف وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949، وزاوة الارشاد القومي، ج 1، مى 219 - 227"
مشروع الحاخام صموئيل هلل ازاكس
كما جاء في كتاب
"الحدود الحقيقية للأرض المقدسة" (*)
سنة 1917
الحاخام أيزاكس واسرائيل الكبرى:
يعتبر كتاب الحاخام صموئيل أيزاكس عن "الحدود الصحيحة أو الحقة للأرض المقدسة" بمثابة التعبير الرسمى عن المعايير التاريخية والدينية لدى الجناح الارثوذكسى المتدين داخلى الحركة الصهيونية. ولا بد من استكمال عناصر الصورة التى رسمتها الصهيونية آنذاك لاسرائيل الكبرى وحدودها فى ضوء ما اسمته بالعوامل والمقاييس الاستراتيجية والاقتصادية والتاريخية المستندة الى نصوص دينية معينة.
فالحدود التى يختارها ايزاكس للأرض المقدسة هى تلك الحدود التى يرد وصفها فى الاصحاح 34 من سفر العدد: 1 - 12 من العهد القديم. والغرض الذي يرمى إليه من وراء بحثه في "الحدود الحقة" ليس الا الفصل فى النظريات المتنوعة والمتباينة حول مواقع تلك الحدود والوصول الى تعيين ما يعتبره بمثابة الحدود التاريخية الصحيحة لاسرائيل.
وتقول "النبذة عن حياة المؤلف" في مطلع الكتاب بأن أصدقاء الحاخام تمكنوا من اقناعه بعد انعقاد المؤتمر الأول للسلام فى لاهاى (1899) أن يضع في متناول الباحثين فى الكتاب المقدس من الناطقين باللغة الانجليزية الاكتشافات التى قام بها حول الحدود الصحيحة للارض المقدسة كما أن التوطئة التى تسبق مقدمة الكتاب يرجع تاريخها الى عام 1906 - أى قبل انعقاد مؤتمر لاهاى الدولى الثانى بعام واحد (1907). وقد تحدث المؤلف فى تلك التوطئة عن نبوءة ارميا (33: 23 - 26) معتبرا إياها بمثابة النذير لمضطهدى اسرائيل. ثم أشار الى كونها إحدى النبوءات التى لاحصر لها، اذ وجدها تعد البقية الباقية من إسرائيل بمستقبل باهر يشهد رجوعها إلى ربها وعودتها الى أرضه المقدسة، بالاضافة إلى السلام والسعادة الجامعة التى تسود العالم فى المستقبل. وعلى الرغم من اعترافه بأن تحقيق هذه النبوءات لم تظهر علائمه فى الأفق بعد، فانه يجد فى العلامات الاستثنائية للعصر دلائل تشجعه على تبرير حدسه باحتمال حصول رجوع جزئى فى مستقبل قريب. أما الدلائل التى تبشره باقتراب الموعد فقد اختار منها ما يلى:
مؤتمرات السلام الدولية، والتى قد تتخطى مرحلتها التجريبية الحالية وتنتقل الى تحقيق غرضها على الصعيد العملى.
(ب)
الروح السائدة، فى تحريكها للتغييرات من السطلة الفردية المطلقة والاستبدادية الى الحكم الدستورى. فحين تتوطد دعائم هاتين الحركتين - حركة السلام العالمى والحكومة الدستورية - يتوقع الحاخام سيادة العدالة، والحرية والتساهل.
(جـ)
الاهتمام المتزايد والناشط بالأرض المقدسة، تمثله وتشهد عليه الاسكتشافات الاخيرة هناك. اذ يعود الفضل اليها فى "فتح آفاق البلاد أمام ناظرينا واقامة المجال أمامنا لاقتفاء آثار حدودها التى مضى عليها حوالى ألفى سنة وهى دفينة وخبيئة".
غير أن الحاخام ايزاكس لا يكتفى بالدلائل الثلاثة التى أوردها لتبرير النبوءة المتوقعة التحقيق. بل يضيف اليها دليله الرابع على صورة "المسألة اليهودية" التى ازدادت خطورتها، و"الحركة الصهيونية" التى اصبحت قوة لايستهان بها ومازالت فى نمو مستمر. ويبدو له من خلال الاصل المعاصر لهذه الدلائل ان القصد منها هو التحامها وأندماجها لتعطى نتائج عظيمة وحسنة. فيسارع الى التعبير عن أمنية الصهيونيين التى سبق لماكس نوردو أن تحدث عنها: الاعتراف بالصهيونيين كهيئة تمثل يهود العالم والسماح لهم بعرض المسألة اليهودية والمطالب التى يريدونها أماما مؤتمر صلح فى المستقبل، على أمل التوصل إلى حل يرضيهم.
المنحة المخفضة وميراث المستقبل:
تقول ابنة الحاخام ايزاكسى في التوطئة التى صدرت بها الطبعة الأولى لكتاب والدها بأن المؤلف أعرب عن رغبته قبل وفاته بنشر نتائج أبحاثه فى حقل "الحدود الحقة" لاسرائيل الكبرى قبل انعقاد المؤتمر اليهودى الامريكى لكى يتسنى للمعنيين بالموضوع الاطلاع على نتائج تلك الأبحاث.
ان الحدود التى يضعها ايزاكس فى ضوء أبحاثه ومكتشفاته هى نفسها المستمدة من سفر العدد 34: 1 - 12. فما هى تلك التخوم؟ التى وردت كتابة فى نصوص العهد القديم من الكتاب المقدس. وجاءت ابنته فى مقدمتها للطبعة الثانية (شباط فبراير1919) لتنبه القارىء بأن النص الذى يورده سفر العدد أعلاه يدل فقط على الرقعة الصغرى التى أعطاها الرب ميراثا لبنى اسرائيل، وعقد الحاخام ايزاكس آماله على رجوع اليهود اليها. كما أنها وجدت من اللازم اعطاءنا التأكيد التالى:
"لكن هذا لا يعنى بأن مطلبه في الوطن يجب أن يبقى محصورا ضمن هذه الحدود، بل على العكس من ذلك، فان مؤلفنا يصرح بقوله أن "وعود الله المشروطة لا تلغى أبدا، بل يحتفط بها لكى تتحقق .. فى زمن مستقبل".
ومن هنا تفتق ذهن الحاخام عن رسم صورة لتلك الحدود القصوى التى تتعدى مايدعوه بـ "المنحة المخفضة" لاسرائيل الكبرى. وهى التى يطلق عليها تسمية "المنحة المشروطة" Provisional Grants بعد استناده إلى الشرط (Proviso) المتضمن فى سفر التثنية 11: 22 ("لأنه اذا حفظتم جميع هذه الوصايا التى أنا أوصيكم بها لتعملوها، لتحبوا الرب الهكم وتسلكوا في جميع طرقه وتلتصقوا به").
فلو استوفت اسرائيل شرط الرب وحفظت جميع وصاياه وعملت بها، لسارع الرب إلهها إلى تقديم المكافأة على صورة المنحة الثانية:
"يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم فترثون شعوبا أكبر وأعظم منكم كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم. من البرية ولبنان من النهر نهر الفرات الى البحر الغربى يكون تخمكم".
( تثنية 11: 23 - 24 )
وكلم الرب موسى قائلا: أوص بنى اسرائيل وقل لهم انكم داخلون الى أرض كنعان. هذه هى الأرض التى تقع لكم نصيبا. أرض كنعان بتخومها:
"تكون لكم ناحية الجنوب من برية صين على جانب أدوم. ويكون لكم تخم الجنوب من طرف بحر الملح الى الشرق ويدور لكم التخم من جنوب عقبة عقر بيئم ويعبر الى صين وتكون مخارجه من جنوب قادش برنيع ويخرج الى حصر آدار ويعبر الى عصمون. ثم يدور التخم من عصمون إلى وادى مصر وتكون مخارجه عند البحر. وأما تخم الغرب فيكون البحر الكبير لكم تخما .. وهذا يكون لكم تخم الشمال: من البحر الكبير ترسمون لكم الى جبل هور، ومن جبل هور ترسمون إلى مدخل حماه وتكون مخارج التخم إلى صدد. ثم يخرج التخم الى زفرون وتكون مخارجه عند حصر عينان .. وترسمون لكم تخما إلى الشرق من حصر عينان إلى شفام. وينحدر التخم من شفام الى ربلة شرقى عين. ثم ينحدر التخم ويمر جانب بحر كنارة إلى الشرق. ثم ينحدر التخم إلى الاردن وتكون مخارجه عند بحر الملح. وهذه تكون لكم الأرض بتخومها حواليها.
( سفر العدد، 34: 1 - 12 )
الاتساع نحو الشمال، تسمية المنحة المخفضة ( reduced grants ) ولو عدنا إلى الخريطة التى ألحقها الحاخام ايزاكس بكتابه (انظر الخريطة) لتبين لنا كيف جرى رسم حدود "الأرض الموعودة" (1916) وفقا للنص الوارد أعلاه من سفر العدد (الرقعة المظللة). وقد أطلق الحاخام أيزاكس على هذه الرقعة، المفرطة باعتبارها لا تشمل جميع التعيينات الاسرائيلية الكبرى وقد جرى رسمها وفقا لما يعتبره حدود امبراطورية سليمان. فهو يلصق بتلك "الرقعة" الصغرى" (المنحة المخفضة) مساحات شاسعة تمتد من نهر الفرات الى نهر مصر (وادى العريش) وتشمل خليج العقبة. ومما تجدر ملاحظته أن "مدخل حماه" ( Entrance Of Hamath ) قد صورة الحدود المخفضة للرقعة الصغرى من ضواحى مدينة حماه إلى جبال طوروس وحدود منطقة كيليكية.
وقد سارعت ابنة الحاخام الى التذكير بأن هذه الرقعة الكبرى تضم تلك المراعى والأراضى الزراعية الخصبة والتى لها قيمتها إلى الشرق من نهر الأردن وبررت مسألة الضم بقولها أن هذه المساحات جرى توزيعها فيما مضى على بنى رأوبين وجاد ونصف بنى منسى: كما أنها تضم تلك الأراضى التى تم الاستيلاء عليها "بالاستيطان السلمى" أو "الغزو الذى له ما يبرره" حتى زمن الملك سليمان،. "الذى كان على رأس المملكة اليهودية اذ وصلت إلى مداها الأوسع قبل وفاة الملك داوود". ولم تنس الاشارة إلى استرجاع الوطن القومى اليهودى فى ظل الوصاية البريطانية، بعد أن ظلت المسألة موضع نقاش بفضل صدور الوعد وتأييد كل من فرنسا وايطاليا وغيرها من الحكومات،
وبفضل موافقة "رئيسنا العظيم ودرو ويلسون"، يضاف اليه استحسان قداسة البابا بنديكت الخامس عشر. كما رأت من الضرورى لفت نظرنا إلى ما سوف يطالعنا به الكتاب: من أن "الحدود التوراتية والتقليدية والتاريخية" تشمل مساحة أكبر بكثير من تلك المساحة التى يسلم بها عموما للأمة اليهودية.
ومما يجدر ذكره بصدد "الأكتشافات" التى يعلنها الحاخام ايزاكس أن الغالبية العظمى منها مستمدة من الابحاث التى قام بها "صندوق اكتشاف فلسطين" فهو يقتبس الكثير عن شارل ويلسون والكابتن وارين والكولونيل كوندر في اعمالهم وكتاباتهم المتعلقة بجغرافية فلسطين وطوبوغرافيتها. ويؤكد أن التعرف على هوية جميع الأمكنة الواردة في نص سفر العدد كان ضربا من المحال، لولا استجابة هؤلاء الرواد وامثالهم إلى ضرورة ذكر الأسماء القديمة إلى جانب الحديثة، لتلك الاماكن التى عكفوا على وصفها وتعيين مواقعها. غير أنه لا يكترث، مثلا لكون الاسماء الحديثة والسائدة عريقه فى القدم أيضا، ومن زاويه التاريخ العربى للشرق الاردنى بنوع خاص. بل يجعل همه الصهيونى الاوحد: نبش الاسماء البائدة وفرضها على التاريخ المتطور كيفما اتفق، بحجه ورودها في النصوص المقدسة وتحت ستار "الوعد" و "الميثاق" و "الميراث".
فالبحر الكبير غربا (البحر الأبيض المتوسط) و "بحر الملح" عند نهر الاردن شرق (البحر الميت) كانت حدودا معروفة في نظره. بينما "القسم الشمالى من التخوم الغربية والشرقية والحدود الشمالية بأكملها كانت منسية وعرضه للتخمين". لذلك يلجأ إلى الاستعانة بأعمال "صندوق اكتشاف فلسطين" على أن يقارن الأسماء التى عينتها بتلك التى يمكنه العثور عليها في الشروحات والترجومات العبرانية القديمة. والغرض من كل ذلك ليس الا التعرف على هوياتها الصحيحة، عن طريق تعيين هوية تلك العلامات الواردة في النصوص المقدسة حول خطوط التخوم. وهكذا يتم له - على حد قوله- تكملة الحدود عند الجهات الاربع على "هيئة مستطيل" كما أنه يأبى الفروغ من مقدمة كتابه قبل التوجه إلى تلامذة الكتاب المقدس ولفيف الباحثين بالتماس يطلب فيه اعارة إنتباههم التام للأسباب التى يعطيها كتعليل لخروجه عن نطاق المواقع والأماكن التى اختارها الشراح المعاصرون، وللبديلات إلى وقع اخياره عليها. ويعترف - دونما أى مبرر لذلك - بالشطط الجديد الذى ارتكبه فى القسم الشمالى بنوع خاص، مؤكدا أنه يشكل "خطوة جريئة" أو جسورة ويعد القارىء بتقديم تعليلات حسنة لكل خطوة ينحرف بها عن السلف والمعاصرين، على أمل تسليمهم بها والأعراب عن ترحيبهم بالترتيب الجديد.
الحدود الجنوبية: ورد فى النص المذكور أن قادش برنيع هى بمثابة أبعد نقطة فى مخارج التخم الى الجنوب. وفي الاصحاح 47: 19 من سفر حزقيال نجد السيد الرب يصف جانب الجنوب "يمينا من ثامار إلى مياه مريبوث قادش النهر إلى البحر الكبير" كما نعرف من سفر العدد .. (13: 3 و 26، 32:
بأن قادش برنيع، حيث أرسل منها موسى جواسيسه الاثنى عشر إلى أرض كنعان، تقع في برية فاران فكيف نوفق بين هذه النصوص المتباينة؟ هنا يخالف الحاخام ايزاكس رأى معظم المكتشفين والباحثين المحدثين فيفترض وجود مكانين باسم قادش بدلا من القبول بالرأى السائد الذى لا يميل إلى نسبة الدقة فى التعيينات القديمة. ولا يلتفت إلى
اجماع الباحثين بأن تخوم التيه آنذاك لم تكن على شاكلة الخطوط المرسومة بدقة، كما هى الحال في الحدود السياسية الحاضرة. وقد سبق ومر معنا شئ عن اختلاف الباحثين والمكتشفين بصدد موقع قادش برنيع. فجعلها ستانلى فى البتراء مثلا، واكتشفها الرحالة الامريكى روبنصون عند التخم الغربى للعربة. واعتمد البعض الآخر على المصادر الجغرافية والتاريخية العربية مؤكدا أن قادش برنيع ليست سوى عين قدس.
لذلك يطالبنا الحاخام ايزاكس بافتراض وجود مكانين يحملان الاسم نفسه. ويرضى بأن تكون قادش برنيع هى "عين الويبة" كما عرفها روبنصون، مما يجعل الاثنتين فى نظره مؤهلتين لاحتيل مكانيهما على تخم أرض اسرائيل.
الحدود الغربية: لا داعى للجدال في مسألة اعتبار البحر الأبيض المتوسط بمثابة، تخم الغرب فهو يؤلف علامة واضحة. لكن ما يقلق الحاخام أيزاكس هو انعدام أى تحديد جلى في النص المقدس للنقطة التى تنتهى عندها الحدود الغربية شمالا على شاطئ البحر. اذ يفترض أن تتجه الحدود الشمالية صوب "جبل هور" ومنه إلى "مدخل حماه" وقد شغل المكتشفون والباحثون طيلة النصف الثانى من القرن الماضى في اطلاق شتى التخمينات والنظريات المتباينة حول موقع "الجبل" و "المدخل" واستعرض ايزاكس نظرياتهم ملخصا اياها على الشكل التالى:
(أ)
الرأى القديم - يعتبر جبل هور احدى قمم جبل حرمون. بينما "مدخل حماه" يعنى الممر المؤدى إلى مدينة حماة عبر البقيعة والذى يبتدئ إلى الجنوب الغربى من جبل حرمون. أما النقطة التى ترسم التخوم عندها على الشاطئ فتقع إلى الغرب مباشرة من جبل حرمون ويسير التخم منها شرقا إلى جبل هور المذكور
(ب)
الرحالة اليهودية استورى هابارشى (الفارحى): خطر له عام 1322 م تعريف جبل هور بالجبل الاقرع، الواقع على شاطئ البحر بين اللاذقية والاسكندرونة "شمالى مدينة اللاذقية". فرسم خط الحدود من هذه النقطة وسار بها عبر البقيعة نحو حماة في الاتجاه الشرقى الجنوبى. مما أدى الى توسيع الرقعة التى يشملها الرأى القديم بحوالى 110 أميال على امتداد الشاطئ.
(جـ)
الحاخام جوزيف شفارتز (1850) - يجعل الجبل الباحث عن مكانه عند جبل النورية (رأس شكا على الساحل اللبنانى الآن) ويرسم الخط من هناك مرورا بالبقيعة (مدخل حماة) إلى ما يدعوه بالجديدة تبعد نقطته هذه حوالى 63 ميلا عن نقطة الرأى القديم.
(د)
روبنصون وبورتر وغيرهما من الباحثين: يضعان الجبل التائه مكان جبل عكار، ذلك القسم الشمالى الشامخ من جبال لبنان فيصبح مدخل حماة ذلك الوادى المتقاطع مع سلسلة جبال لبنان وجبال النصيرية (العلويين) وتنطلق الحدود من مصب النهر الكبير عبر الوادى المذكور. وبذلك تتوسع مسافة 84 ميلا على امتداد الساحل وعن النقطة التى يأخذ بها الرأى القديم.
وقد أفرد الحاخام ايزاكس ملحقا خاصا فى القسم الثانى من كتابه (الفصل الرابع) للرد على الرأى السائد منذ القدم وتفنيد آراء كل من استورى هابارشى والحاخام جوزيف شفارتز، ونظرية روبنصون وبورتر. فسارع إلى القول بأن أحدا
من هذه الآراء والنظريات لا يمكن القبول به. وعلى الرغم من استناد معظمها إلى نصوص دينية استقاها أصحابها من المصدر نفسه - اسفار يشوع والقضاة والتثنية وحزقيال في العهد القديم، مثلا - فان الحاخام ايزاكس يرد على الرأى السائد ("جبل هور = جبل حرمون") .. باستحضار النصوص المقدسة التى تتعارض معه وتناقضه. مع العلم بأن هذه النصوص لا تتفق أبدا وقطعا مع الرأى الذى يخطر له تبنيه. ولذلك نجده يلجأ إلى ما يعرف عند اليهود بـ "الطوسفتا" أو ملحق المشنا الذى جرى تنقيحه فى القرن الثالث فيزعم أن النص المذكور - كما استشهد به التلمود والترجوم الارامى - يأتى على ذكر ("طورى امانون" أى "جبال امانون" ثم يعين موقع جبل أومانيس والتسمية الاغريقية هى Mons Amanus على حد قوله) في مكان لا يرقى الشك إلى صحته: على خليج الاسكندرون ويسارع إلى الاعتراف بأن الجبال التى يتحدث عنها الآن لا تحمل اسما مشتركا فى الوقت الحاضر، مؤكدا أن سم "مانوس" قد ضاع. ولا يتردد فى ارجاع التغير الذى طرأ على الاسم إلى الفتح العربي لسوريا في القرن السابع للميلاد.
ومما تجدر ملاحظته ان الحاخام ايزاكس لا يجد تناقضا بين مختلف النصوص الواردة في اسفار العهد القديم بصدد رقعة الارض الموعودة. بل يرد التباين في تعيين الحدود بجميع جهاتها إلى خطأ في تفسير النصوص ولايجد سبيلا إلى نكران الغموض الذى يكتنف معظمها، ويعتبر تغير الاسماء الجغرافية بمثابة سبب رئيسى يعلل به منشأ هذا التباين فى الآراء. وقد بلغ به التخمين حدا جعله ينحى باللائمة على جغرافية بطليموس وكتاب المجسطى فزعم انها بقيت كتب التدريس المتعارف عليها لدى الأجيال اللاحقة حتى مجىء كوبر نيكوس وحصول الاكتشافات البحرية الكبرى في القرن الخامس عشر وانتقد خريطة بطليموس لأنها وضعت سلسلتى جبال لبنان، الغربية والشرقية بعيدا عن حدود فلسطين، مما حال دون ضمهما في نطاق تخومها.
أما تعيين ايزاكس للحدود الغربية: وفقا لما يعتبره التفسير الحرفى المتشدد للنص الذى يختاره من سفر العدد، فقد جا ء على الشكل الآتى:
"يبتدىء عند الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر الكبير، حيث ينحدر صوبه نهر مصر (وادى العريش) .. ثم يتجه شمالا فيمر بجبل الكرمل، وصور وصيدا، وجبال لبنان، الخ حتى يصل إلى الزاوية الشمالية الشرقية من خليج الاسكندرون".
ولا غرو فقد اعتبر هذا التفسير "ترجمة حرفية" للنص الذى بين يديه وأعلنه خلوا من كل التباس وغموض. ثم قرر أنه يستحق القبول دون براهين اضافية. وأحال المستزيدين منا إلى ملحق كتابه ، حيت يريدنا أن نرى عجز جميع النظريين المار ذكرهم عن تعيين علامات الحدود الشمالية بشكل مقبول.
والحدود الشمالية، كما يرسمها ايزاكس، تبدأ من اجتهاده فى تفسير تسمية "جبل هور" . فهذه العبارة مؤلفة من فكرة "جبل" واسم علم "هور" - مع العلم بأن لفظه "هور" العبرانية تعنى الجبل .. وماذا تعنيه اذن تسمية "جبل الجبل" أو "الجبل المزدوج" أو الجبل القائم على جبل؟ وهل من وجود لشىء اسمه "جبل هور"؟ هنا يلجأ الحاخام إلى نص من المدراش كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء ويصبح الجواب على سؤالنا: ما هو جبل الجبل؟ - (انه الجبل القائم على رأس جبل مثل تفاحة
صغيرة على ظهر تفاحة كبيرة) وهكذا يتحول "جبل هور" فى تفسير ايزاكس إلى وصف يدل على أى جبل يعلوه جبل ويقع على خط الحدود .. ففي سفر العدد أيضا (20: 22 - 25 و 27) نقرأ عن ارتحال بنى اسرائيل من قادش ومجيئهم إلى جبل هور، حيث كلم الرب موسى وهارون في جبل هور على تخم أرض أدوم. مما يؤكد أن التسمية المذكورة ربما أطلقت على أى جبل يعتمر جبلا آخر. ولا وجود للجبل المذكور عند شاطئ البحر بتاتا. كما أن ايزاكس يرفض اعتبار جبل هارون التقليدى هو نفسه جبل هور، على الرغم مما ورد في سفر العدد (20: 16 و 23) من وصف لقادش وجبل هور (هارون) باعتبارهما على تخم أرض أدوم. ويعرب عن تأكده من كون جبل هارون غير جبل هور، بينما يرجح قليلا أن يكون جبل مديرة هو نفسه جبل هور. غير أنه يفضل تعيين جبلين، بهذا الاسم: جبل هور في الجنوب على تخم أرض أدوم، وجبل هور في الشمال، وهو الذى يتحدث عنه سفر العدد في وصفه للتخوم. هذه هى الخطوة الأولى في تفسير ايزاكس واجتهاداته.
ثم يعمد إلى التنقيب في الترجوم (الترجمة الارامية القديمة للأسفار الخمسة) والمشنا (خلاصة الشريعة الشفهية، تؤلف مجموعة قوانين اليهود السياسية والدينية) ليستنبط "جبل امانوس" ويعلنه جبل هارون المنشود، فيصبح جبل "هارون" (أمانوس على الاصح) الحد الفاصل بين الشمال الغربي من سوريا وكيليكيا. وينتقل "مدخل حماه إلى مقربة من الجبل المذكور، كما تتبعه سائر النقاط والمواقع الأخرى. وتصبح حصر عينان مكان عينتاب التركية على الزاوية الشمالية الشرقية لحدود الأرض الموعودة وهكذا يتسنى للحاخام ايزاكس اعتبار جبل هور جزءا من سلسلة جبال طوروس.
وتمتد التخوم الشرقية: من حصار عينان (عينتاب التركية) إلى بلدة شفام التى يعتبرها موقع قلعة المضيق على حدود لبنان الشمالية (ربما كانت هى نفسها قلعة الحصن). ثم تسير نحو ربله، التى يضعها مكان بلدة الهرمل الحالية باعتبارها تقع شرقى عين (= عين العاصى). وتنزل من هناك نحو بحيرة طبرية لتلتقى بالحدود الجنوبية عند البحر الميت.
In 1917 Rabbi j. lsaacs wrote a book called The True Boundaries of the jewIsh State which he submitted to the post-war Peace Conference. In this book he asks that the bounda- ries of Israel should extend from the Taurus Mountains in the north to the Sinai Desert in the south.
(*) عن كتاب "اسرائيل الكبرى" للدكتور أسعد رزوق