خيارات السوريين: الموت أو الباصات الخضراء
كانت الباصات الخضراء تنقل السوريين إلى المدرسة والعمل والمقابلات في مقاهي دمشق يومًا ما. اليوم تظهر في "لحظات الهزيمة"، على التلفزيون الحكومي السوري، عندما يسلم مقاتلو المعارضة والمدنيين، تحت الحصار والقصف، المنطقة التي يسيطرون عليها إلى القوات الحكومية ليستقلوا المركبات في طريقهم إلى مستقبلٍ غير معلوم.
تنتشر صور الحافلات الخضراء في سوريا في التلفزيون الحكومي الذي يحتفي بعمليات الإجلاء، وفي فيديوهات المعارضة التي تستهجن التهجير
يرصد تقريرٌ لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية كيف أصبحت الحافلات، التي كانت يومًا جزءًا مميزًا ومحبوبًا من المشهد الحضري، سمةً لاستراتيجية "استسلم أو مت جوعًا"، التي تنتهجها الحكومة السورية. في الأيام الأخيرة، ألقت طائرات الجيش النظامي منشورات على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة من مدينة حلب، تعرض خيارًا قاسيًا على ما يقدر عن حوالي 250,000 شخص محاصرين في المدينة الاستراتيجية: "الموت"، ممثلًا في صورة جسدٍ مدمى، أو "الخلاص"، في صورة حافلة خضراء.
ا
تنتشر صور الحافلات في كل مكان: في تقارير التلفزيون الحكومي والمواقع الموالية للحكومة التي تحتفي بعمليات الإجلاء، وفي مقاطع فيديو المعارضة التي ترثي ما تعتبره عمليات تهجير. يطل نساء وأطفال، أو مقاتلون حاملون أسلحتهم من نوافذ الحافلات، باكين، أو هاتفين بتحد، أو محلقين في الفضاء بينما يتركون المناطق التي ظلت طويلًا رمزًا للانتفاضة ضد الرئيس السوري بشار الأسد، مثل ضاحية داريا، التي تم إفراغها مؤخرًا.
ويتابع التقرير أنه عادةً ما يعرض على مستقلي الحافلات خيارين، لكن وكما هو حال العديد من جوانب الحرب الأهلية السورية الدموية والفوضوية، فإن كلا الخيارين سيئ. يمكنهم استقلال الباصات الخضراء إلى مناطق سيطرة النظام، حيث يخشى الكثيرون الاعتقال أو التجنيد، أو إلى المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة، حيث يواجهون ضرباتٍ جوية مستمرة من قِبل النظام، مثل التي قصفت مدرسة منذ أيام وقتلت 22 طفلًا في محافظة إدلب.
"اللعنة على الباصات الخضراء، إنني أراها في أحلامي"، قال جلال التلاوي، وهو فني كمبيوتر يبلغ من العمر 36 عامًا، ناقش جيرانه في الوعر، وهو حي محاصر في ضواحي مدينة حمص، مؤخرًا ما إذا كانوا سيستقلون الحافلات في عرض الإجلاء الأخير. منذ عامين، استقل التلاوي باصًا أخضر مع زملائه المقاتلين ليخرجوا من مدينة حمص القديمة في اتفاقٍ مع النظام، فقط ليواجهوا حصارًا آخر في الوعر. "إننا مصابون بفوبيا – متلازمة الباص"، قال التلاوي. "في عقولنا، إنها تساوي النزوح".
وصلت الحافلات، صينية الصنع، إلى المدن السورية لأول مرة وسط احتفاءٍ كبير عام 2009. في ذلك الحين، كانت الباصات رمزًا للتحديث الذي وعد به الأسد. حلت الحافلات التي تم دهانها باللون الأحمر وتغطيتها بشعار شركة هاتف محمول، يمتلكها ابن عم الرئيس، محل حافلات المدارس المعتاد استخدامها ودعمت الحافلات البيضاء الصغيرة المعروفة باسم "السيرفيس"، لتوفر وسيلة انتقال عامة محسنة وفي متناول الطلاب والعمال.
يتحدث أسامة محمد علي، وهو الآن ناشط معادٍ للنظام محاصر في الوعر، بحنين عن ركوب الباص إلى مدرسة القانون في حمص في الأيام الممطرة إلى جانب أشخاص من شتى مناحي الحياة. "اعتاد السائق تشغيل أغنيات فيروز، وكان هناك نوع من الاحترام بيننا"، قال علي. "كنت إذا رأيت رجلًا كبيرًا في السن واقفًا أتنازل له عن مقعدي".
لكن عندما اندلعت الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح السياسي عام 2011، تم استخدام الباصات لنقل ضباط الأمن بأزيائهم المموهة أو رجال ميليشيات مدججين بالسلاح عبر شوارع دمشق للاعتداء واعتقال المحتجين. مع تحول الانتفاضة إلى صراعٍ مسلح، تركت الاشتباكات حافلاتٍ محروقة تشتعل في الشوارع. أصبحت الجثث الحديدية في بعض الأحيان حواجز بين مناطق سيطرة النظام وتلك التي تسيطر عليها المعارضة.
ثم، وفي اتفاقٍ تم إبرامه عام 2014 برعاية مسؤولي الأمم المتحدة، أجلت الباصات الخضراء آخر مقاتلي المعارضة من حي حمص القديمة لتسيطر قوات النظام على المنطقة. "كنا جميعًا نبكي، ’هل هذه هي نهاية رجال حمص’"، يحكي التلاوي. "اعتقدنا أننا سوف نحرر حمص، لكن نهايتنا كانت في الباص الأخضر". استخدمت الباصات مرارًا منذ ذلك الحين في اتفاقات استسلام محلية دعا إليها النظام بدلًا من اتفاقية سلام وطنية.
يصور النظام السوري وحليفته روسيا عمليات الإجلاء على أنها عملٌ يدل على الرحمة ويؤدي إلى تحرير من يجادلون بأنهم يستخدمون كدروعٍ بشرية. من جانبهم، تتزايد رؤية معارضي الحكومة للعملية على أنها "تطهير عرقي"، حيث إنها هجرّت بالأساس أفرادًا من الأغلبية السنية.
ترى المعارضة السورية عمليات الإجلاء بالباصات على أنها "تطهير عرقي"، حيث إن التهجير شمل أساسًا أفرادًا من الأغلبية السنية
أدانت الأمم المتحدة عمليات الإجلاء باعتبارهًا "نزوحًا قسريًا" للمدنيين، داعيةً إلى السماح للسكان بـ"العودة طوعًا، بأمنٍ وكرامة". لكن مع استمرار الجيش السوري في طرد المدنيين من المناطق التي لا يستطيع السيطرة عليها، فإن الأمم المتحدة والوكالات الأخرى العاملة في البلاد تخاطر بالمشاركة في "سابقةٍ خطيرة"، حسبما كتب مؤخرًا آرون لوند، وهو محلل بمركز كارنيجي للشرق الأوسط. تستطيع الجماعات المسلحة، تابع لوند، "استهداف وتهجير المدنيين دون رادع في سوريا، وربما في مناطق أخرى".
عندما ترفض الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة الاتفاقات، فإن القصف يشتد ويتم تضييق الحصار. في آب/أغسطس الماضي، استسلم آخر 1,500 شخص في داريا جنوب دمشق، بعد قصفٍ حارق لآخر مشافيهم. اتجه البعض إلى الضواحي التي يسيطر عليها النظام، بينما اتجه آخرون إلى محافظة إدلب.
كان أبو عدنان البالغ من العمر 50 عامًا، أحد سائقي الباصات، حيث نقل 50 مقاتلًا وعائلاتهم إلى إدلب، التي لم يذهب الكثير منهم إليها من قبل. بكى ركاب الباص بينما كانوا يعبرون نقطة التفتيش في طريقهم إلى الخروج من داريا. "حتى أنا بدأت في ذرف الدموع – إن بكاء الرجال شديد الصعوبة"، تذكر أبو عدنان في مقابلة، طلب فيها أن يتم تعريفه بكنيته فقط لتجنب عواقب الإعراب عن تعاطفه. "رأيت مسلحًا يضع بعض الرمال من داريا في حقيبةٍ بلاستيكية ويشمه كما لو كان ترابًا من الجنة".
استغرقت الرحلة التي يبلغ طولها 320 كيلومترًا 30 ساعة، حيث توقفت الحافلة في العديد من نقاط التفتيش. في بعضها، هدد المقاتلون على متن الحافلة بإطلاق النار إذا صعدت قوات الأمن، في أخرى، هتف رجال الأمن للأسد بينما هتف الركاب لداريا والثورة.
في أيلول/سبتمبر الماضي، حدث الإجلاء من الوعر، حيث رحل المئات متجهين إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة إلى الشمال. اختار علي، طالب القانون، أن يظل تحت الحصار. "لا يمكنني تحمل رؤية تلك الباصات الآن"، قال علي، لكنه أشار إلى أن البعض رأوها كوسائل إنقاذ "تأخذهم من الجحيم لبدء حياةٍ جديدة"، ربما الهرب إلى تركيا.
بعد ذلك، نقلت حافلات، بيضاء هذه المرة، مقاتلي المعارضة وبعض المدنيين من ضاحية قدسيا بمدينة دمشق، حيث هتف السكان المتبقون بدعم النظام بينما رحب مسؤولو الأمن بعودة البلدة مجددًا "إلى حضن الوطن".
وفي التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، استقل مقاتلون من المعارضة وناشطون الباصات الخضراء المتجهة إلى إدلب من ضاحية المعضمية بدمشق، حيث قتلت الهجمات الكيماوية المئات عام 2013. من بين هؤلاء كان هناك طبيبٌ يدعى مهند، ساعد على جمع أدلة لتحقيق الأمم المتحدة في تلك الهجمات وتحدث بشرط تعريفه باسمه الأول فقط للحماية.
كان مهند وزوجته ونجله يأملون في أن يسافروا عبر التهريب إلى النمسا، حيث عمل الطبيب يومًا. البقاء بالبلاد ليس خيارًا، فقد كان مطلوبًا من 16 جهاز أمن، بتهم معالجة مقاتلين جرحى."إنني داخل باص رقم إم-09"، قال مهند عبر الهاتف. عند سؤاله عن الشعور العام قال "كلمة واحدة: بكاء".
"قُتل أكثر من 2600 شخص في المعضمية خلال الحرب"، قال مهند. "لن تكون لدينا أبدًا فرصة لقراءة الفاتحة على قتلانا".
عُرضت أيضًا الباصات الأخضر، أو عُرضت كتهديد، في الحادي والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي على سكان الأحياء الشرقية المحاصرة، التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب، المدينة القديمة المنقسمة منذ عام 2012 بين مناطق يسيطر عليها النظام وأخرى تسيطر عليها المعارضة.
لدى سكان حلب الشرقية الكثير ليهربوا منه: ضربات جوية من قبل النظام وروسيا، ومخزونات متناقصة من الطعام لكن لم يخرج أحد تقريبًا
بعد تطويق النظام للجزء الذي تسيطر عليه المعارضة هذا الصيف، سخر أحد المراسلين الموالين للنظام، ويدعى شادي حلوة، من مقاتلي المعارضة على التلفزيون الرسمي، قائلًا: "والله، والله، الباصات الخضر ستكون متواجدة، وسنأخذ لقطات سيلفي مع هؤلاء المرتزقة وهم يخرجون كالجرذان".
لدى سكان حلب الشرقية الكثير ليهربوا منه: ضرباتٌ جوية من قِبل النظام وروسيا على المشافي والمباني السكنية والمدارس، مخزوناتٌ متناقصة من الطعام. لكن الباصات الخضراء لم تشغل محركاتها. لم يخرج أحد تقريبًا، بالرغم من أن روسيا قد أعلنت وقفًا أحاديًا للضربات الجوية ودعت إلى عمليات إجلاء.
اتهم النظام وروسيا مقاتلي المعارضة بمنع المدنيين من الخروج. قال مقاتلو المعارضة إنه لا ينبغي إجلاء أحد إلا إذا تم السماح بدخول المساعدات الإنسانية، وأخبروا السكان أن استقلال الحافلات دون إشرافٍ دولي غير آمن. دعت الأمم المتحدة إلى وقفٍ إنساني أشمل، يشتمل على توصيل مساعدات وعمليات إخلاءٍ طبي، لكن ذلك لم يتم الموافقة عليه.
من الصعب معرفة كم عدد سكان حلب والمناطق الأخرى التي يحتدم فيها الصراع الذين سوف يغادرون إذا توفرت لهم ضمانات أمن موثوقة. الكثيرون، بما في ذلك السكان الأكبر سنًا، يقولون إنهم يرغبون في البقاء في منازلهم. يذكر التلاوي، الفني الذي استقل الباص الأخضر للخروج من حمص عام 2014 لكنه رفض استقلاله مجددًا في الوعر هذا العام، أنه عندما استقل أحد أصدقائه الباص، أخرج تذكرةً قديمة وختمها من الماكينة كما لو كانت رحلة عادية، واحتفظ بها. "لقد قال إنه سوف يستخدمها مجددًا"، يكمل التلاوي، "في طريق العودة".