تصفية حسابات القرن العشرين
بدأت تتكشّف، يوماً بعد يوم، أهداف الحرب المستمرّة التي تشنّها إسرائيل على المنطقة. لقد وصل
الأمر في أسبوعين من الغارات والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان إلى حقيقة أنّ كمّية "الداتا"
والمعلومات التي كان العدو يعمل على تحصيلها، ومتابعتها، وتخزينها، ويحاول اكتشاف أصغر
تفاصيلها وأدقّها، سنوات، لا تُقدَّر بثمن، فأتاحت له تحديد بنك أهداف واسع جدّاً، وصل في مداه
المُتعيِّن إلى أمكنة ومستويات تفوق الخيال وتتخطَّى غزّة ولبنان واليمن وسورية، هذا من دون
احتساب ما قد يُستهدَف في المقبل من أيّام، بل بالكلام عما استُهدِف حتّى اللحظة.
ففي لحظات كتابة هذه السطور، كان العدو قد دمّر مجموعةَ أهدافٍ لحزب الله، أقل ما يُقال فيها إنّها
مميتةٌ، وفي مقدمتها عملية تفجير أجهزة البيجر، وما حقّقته من إصابات في صفوف الحزب، ناهيك
عمّا كشفته من كوادرَ وعناصرَ وقياداتٍ كلّفت الحزب عقوداً من العمل التنظيمي والأمني والعسكري
لبنائها، ناهيك عن انكشاف مخازن ومراكز بناها واستخدمها بسرّية تامّة، وهو ما استكملته إسرائيل
في اليوم التالي بعملية تفجير الأجهزة اللاسلكية، بالإضافة إلى الغارة التي شنّتها في اليوميَن التاليَين
على مبنى في ضاحية بيروت الجنوبية، وأدّت إلى اغتيال قيادات الصفّ الأول من نخبة فرقة
الرضوان بعد أن استهدفت رأس تلك الفرقة في مرّتَين سابقتَين.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد استكملت إسرائيل بنك أهدافها بضربة قاضية تمثلّت باغتيال أمين
عام حزب الله، حسن نصر الله، ومن كان معه من قيادات الصفّ الأوّل، في الإغارة على اجتماع تحت
مُجمَّع سكني في ضاحية بيروت الجنوبيّة، واستتبعته بعد أيّام باستهداف هاشم صفيّ الدين، المُرشَّح
لخلافة نصر الله. وبين هذه وتلك، لم تتلكّأ إسرائيل في استهداف بعض فروع ومراكز القرض
الحسن، بما يمثلّه من أهمية استثنائية في عملية تدوير شبكة أموال الحزب. ناهيك عن المحاولات
المستمرّة لناحية استهداف قيادات بعض التنظيمات الأخرى، التي تتقاطع مع (أو تدور في) فلك
الحزب ومحور الممانعة، في البقاع والجنوب وصيدا والشمال وبيروت، بالإضافة إلى تصفية قيادات
من الجبهة الشعبية في مبنى في منطقة الكولا البيروتية، وهي إحدى أكثر المناطق كثافةً سكّانيةً، من
دون أن تُنسى محاولة استهداف أمين سرّ حركة فتح في لبنان منير المقدح في صيدا، التي قضى فيها
نجله، ومن دون احتساب الغارات المستمرّة على اليمن وسورية، ولا ننسى الكلام عن الضربات
العسكرية المُزمَعة على إيران ردّاً على هجوم صاروخي شنّته الأخيرة ردّاً على اغتيال كل من
إسماعيل هنيّة في أراضيها ونصر الله.
لا يقتصر ما نحن فيه اليوم على تصفية محور يبدأ من غزّة وينتهي في طهران فحسب، بل أيضاً
العمل لتفعيل خريطة أخرى كانت تنام في الأدراج منذ 1917
بعد أن كان الجو السائد يرى أنّ الأهداف المباشرة لإسرائيل هي تلك التابعة لحركة حماس وحزب الله
حصراً، وأنّ ما عداها كلّه أهدافٌ عفى عليها الزمن، ها نحن اليوم أمام حقيقة أنّ السياقات تتخطَّى
هذه الفرضية، خصوصاً أنّ العدوّ يستهدف أيضاً من ليس له أيّ صفة مباشرة في هذه الحرب
الدائرة، ولا ما سبقها من حروب في آخر عقدَين. لقد راكمت إسرائيل معطيات كثيرة بعضها فوق
بعض، باستخدام أبرز الاختراعات التكنولوجيّة وإمكاناتها الهائلة، بالإضافة إلى كمّية الخروق
البشرية التي كانت تعمل عليها منذ حرب تمّوز (2006)، ما سمح لأجهزتها وجيشها بوضع رسمٍ
أوّليٍّ شاملٍ يكشف تفاصيلَ دقيقةً للخرائط الجغرافية والسياسية في غزّة والضفة ولبنان وسورية
والعراق واليمن وصولاً إلى إيران، وللامتداد المكاني كلّه للمحور الذي ينتمون إليه، بما يحويه من
أهداف مُؤكَّدة وأخرى محتملة، كما أهداف جديدة وأخرى قديمة، فإن كان لمجموع هذه الخطوات
والأهداف والاستهدافات أن تشير إلى أيّ شيء، فهو أنّ ما تريده إسرائيل يتخطَّى ما يمكن الكلام عنه
واختصاره بجزئية من هنا أو من هناك، أو بإخراج قيادي ما من المعادلة، بل يستبعد حتّى هدفها
المُعلَن والقاضي بإعادة المستوطنين إلى شمال الأراضي المحتلّة، فما تريده إسرائيل، وكما هو ظاهر
اليوم، يتمثّل بتصفيةٍ مباشرةٍ للامتداد السياسي والمكاني المحتمل أن يُشكّل أيَّاً من أنواع الخطر عليها
في المقبل من الأيام.
أما اليوم، وقد دخلنا مرحلةَ هجوم العدو البرّي على لبنان، وانفتاح الاحتمالات على مصراعيها،
أصبح من الضروري إعادة التفكير في كلّ شيء بناءً على المعطيات المُستجدِّة، ابتداءً من العنوان
القديم الجديد للحرب والمتمثّل بإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بعد تصفية ما كان
يعوقها في السابق، وفي الحاضر، وما يمكن أن يعوقها في المستقبل. خريطةٌ يتضّح أنّها تحاول
تحقيق مجال استفادة العدو وما يخدم مصالحه، ومصالح من خلفه، والذي تُعزِّزه التحليلاتُ كافّة،
التي تُظهِر محاولاته الشرهة الهادفة إلى احتلال مناطقَ جديدةٍ، ليس في لبنان وحده، بل في سورية،
وغيرها من دول متاخمة. تدلّنا المُؤشّرات اليوم على أنّنا أمام حرب تتخطَّى في مفاعيلها الاجتياح
الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وتتخطَّى التدمير الممنهج كلّه في غزّة، والعودة إلى ما قبل 7 أكتوبر
(2023)، لا بل تتخطَّى فكرة القضاء على "حماس" وحزب الله، وعلى مليشيات إيرانية، لتصل في
تداعياتها إلى تخطِّي حروب إسرائيل السابقة بأكملها. فما نحن فيه لا يقتصر على تصفية محور يبدأ
من غزّة وينتهي في طهران فحسب، بل وبكلام آخر، تصفية حالةٍ دامت ما يقارب قرناً، والعمل
لإحداث حالةٍ وتفعيل خريطة أخرى، كانت تنام في الأدراج منذ 1917.