الوضع في الحجاز
واجهت إبن سعود ، بعد غزو الحجاز ، ضرورة إدارة بلد بلغ من التطور شأنا يفوق بكثير شأن نجد ، بل وحتى الإحساء . فقد تكون الجهاز الإداري البيروقراطي في الحجاز وفقا للمعايير العثمانية وكان أرقى الأجهزة في الجزيرة . وعلى عهد الملك حسين صدرت حتى ميزانية تتضمن شرحا للنفقات ، رغم أنه لم يجر التقيد بها ، بطبيعة الحال . كما ظهرت هناك النواة الأولى لجيش نظامي ، وافتتحت مدارس ثانوية . وصدرت صحيفة رسمية هي (القبلة) تنم كتاباتها عن دراية بالعالم الخارجي ، وغالبا ما كانت تولي اهتماما كبيرا للأحداث في أوروبا ، وتنشر أنباء عن الأشغال العمومية مثل توسيع شبكة الهاتف وتنظيف الشوارع . وقد استقر رأي عبدالعزيز على إبقاء الهيكل الإداري الذي أقامه الحسين وإبنه علي كما هو ، على أن يوظفه لخدمته .
وكان على إبن سعود أن يوفق بين علماء الدين في نجد والحجاز ويحمل علماء مكة على التنازل لعلماء الرياض . وفي محاولة لإزالة الإشكالات عقد علماء الرياض سلسلة من الاجتماعات مع زملائهم المكيين ، زعموا بعدها أنه لاتوجد خلافات جدية بين الطرفين . وقد استمرت بعض الأشغال العمومية التي تولتها شركات أجنبية وبدأت بتنفيذها على عهد الحسين .
عند غزو الحجاز كان إبن سعود يدرك أهمية التلفون والراديو لتعزيز سلطته ، وأهمية السيارات للأغراض الاقتصادية والعسكرية . غير أن البدو والعلماء السلفيين كانوا يعتبرون التلفون والراديو منكرا من عملا لشيطان . وقد حل هذا الإشكال بعد أن تليت عبر التلفون ، ثم من الراديو آيات من القرآن . كما اعتبر الإخوان السيارة من بدع المشركين ، إن لم تكن من عمل الشيطان . وقد أحرقت أول شاحنة ظهرت في مدينة الحوطة ، وكاد سائقها يلقى المصير ذاته . ولم تكن الطائرة أوفر حظا . إلا أن احتياجات المجتمع العملية كانت أقوى من الجهل والتحجر الذهني ، لذا فإن السيارة والراديو والتلفزيون أخذت تنتشر على نطاق متسع في مملكة إبن سعود . وبعد عقدين أو ثلاثة أخذ علماء الدين أنفسهم يمتطون الطائرات ، إلا أن الحظر ظل مفروضا على الحاكي والسينما ، ورغم منع استيراد هاتين الآلتين فإنهما انتشرتا في البيوت الخاصة .
أدرك الملك أن عليه إقامة اعتبار لمصالح وجهاء الحجاز . وعندما عين إبنه فيصل نائبا للملك في الحجاز (آب – أغسطس 1926) أصدر في الوقت ذاته (التعليمات الأساسية للملكة الحجازية) بمثابة دستور . وقد حددت وضع نائب الملك ومجلس الشورى والهيئات الإدارية .
كان مجلس الشورى المؤلف عقب إعلان الدستور يضم كلا من الأمير فيصل بوصفه نائبا للملك وأربعة مستشارين وستة من وجهاء الحجاز . ولا شك في أن كل أعضاء المجلس من ممثلي الأرستقراطية الحجازية لم يكونوا من قبل مناصرين للحسين أو إبنه علي ، وحتى إن كانوا قد محضوهما التأييد فقد تخلوا عنهما . وفي عامي 1924 و 1925 كانت توجد في مكة جمعيات لها وظائف استشارية تضم الوجهاء وعلماء الدين والتجار ، وكان بوسعها أن تطمح إلى الاستقلالية وترفع مطالب إلى الملك . ولكن أيا من أعضاء هذه الجمعيات لم يعين في مجلس الشورى عام 1926 ، لذا فمن المنطقي الافتراض بأن نشاطها قد أثار انزعاج إبن سعود . إن البون شاسع بين الجمعيات الأولى وبين مجلس الشورى المؤلف من أعضاء لا صوت لهم . لذا أحكم عبدالعزيز سيطرته على الحجاز دون منازع ، واعترف به ملكا على الحجاز داخل البلد وفي العالم الإسلامي كله ، لذا لم يكن بحاجة إلى مايجمل به واجهة حكمه . وعلاوة على ذلك يبدو أن عبدالعزيز أحس بأن دستور الحجاز قد يصبح قدوة يطمح إليها أهل نجد ، لذا قام (وأد الوليد) .
في الأعوام التالية صار لحكومة فيصل في الحجاز طابع حكومات الشرق الأوسط البيروقراطية بشكلها البدائي ، ولكنها كانت بعيدة عن الحكم الملكي الدستوري . واعتمدت هذه البيروقراطية على الحجازين المتفوقين على النجديين من حيث مستوى التطور ، رغم أنها عملت تحت إشراف الأمير فيصل ومستشاريه المقربين . في الوقت الذي حاول عبدالعزيز ومجموعة من مستشاريه المتنورين إلى هذا الحد أو ذاك توظيف الجهاز الإداري في الحجاز لمصلحته ، كان الإخوان قد عقدوا الهزم على تطهير الحجاز من البدع المنكرة وهدم القباب التي اعتبروها مخالفة للإسلام . ويذهب حافظ وهبة إلى أن حماس الإخوان الجهلة للوهابية كان أكبر ما ابتليت به هذه الدعوة الإصلاحية على حد قوله . وقد واجه الملك الإقطاعي عبدالعزيز ، إثرة غزوة الحجاز مشكلة التعامل مع الإخوان .
إذ أن الإخوان أزالوا في مكة الشاهد المقام عند موضع ولادة النبي وهدموا منزلي خديجة وأبي بكر . وأشار فيلبي الذي حضر موسم الحج عام 1931 إلى هدم كل الأضرحة والقباب في الحجاز وذكر أن ذلك سيجعل الأجيال القادمة تنسى الوقائع التاريخية المرتبطة بهذه الأماكن . وإلى جانب الدافع الأخلاقي الديني ، تأصل لدى الإخوان العداء البدوي لكل مايجعله ويستأنس به الحضر في مدن الحجاز الذين اعتبروهم متنكرين للإسلام . ولما احتل الإخوان الطائف ومكة أخذوا يهشمون المرايا ويستخدمون أطر الأبواب والنوافذ كوقود للنار . ورغم أن هذا واحد من طباع الغزاة المعتادة ، إلا أنه كان تعبيرا عن حقد البدو الدفين على ترف المدن . وقد اقترنت نزعة الإخوة لدى الإخوان بالتعصب الديني والعادات البدوية .
في عام 1924 أمر خالد بن لؤي بإحراق كمية كبيرة من التبوغ العائدة ملكيتها لمستوردين مكيين أثرياء ، فشكوه لعبدالعزيز الذي ألغى الأمر الصادر عن إبن لؤي ولكنه حرم استيراد التبغ مستقبلا . وفيما بعد سمح ثانية باستيراد التبغ . ولكن استمر إيقاع العقوبة بالمدخن . حينما أقصى خالد بن لؤي عن منصب حاكم مكة ، عقب سقوط جدة في كانون الأول (ديسمبر) 1925 ، كان هذا يعني تصميم عبدالعزيز على عدم إبقاء المناصب الإدارية في الحجاز بيد قادة الإخوان وقبل ذلك ، في أيلول (سبتمبر) من العام ذاته ، حظر رسميا في مكة حمل الأسلحة النارية لتقييد تحركات الإخوان . كان عبدالعزيز يخشى تعدي الإخوان على الحجاج المسلمين وبالفعل فقد جرحوا عددا من الحجاج مما أثار احتجاج القناصل الأجانب ، وحاولوا قتل عدد من المسلمين العاملين في القنصليات الأجنبية . وسعى الملك لتوجيه طاقة الإخوان نحو غزو المدن والموانئ الواقعة بين جدة وخليج العقبة ، ولكن سرعان ما أصبح الحجاز كله تحت سيطرته فلم يعد لجنوده عمل يؤدونه .
في مطلع موسم الحج صيف عام 1926 وصل مكة المحمل المصري تصحبه الموسيقى ، وعند اقترابه سمع الإخوان الذين كانوا بدون سلاح وليس عليهم سوى الإحرام ، الموسيقى لأول مرة فاعتبروا ذلك ضربا من الزندقة واستبد بهم الغذب فهبوا ليمنعوا تقدم الجمل الذي يقل المحمل . وهنا أعطى ضابط مصري أمرا بإطلاق النار فقتل زهاء 25 شخصا . وعلى الفور أرسل عبدالعزيز الذي كان قريبا من المكان ولديه فيصل وسعود لتهدئة ثائرة الإخوان . وأمر الملك باحتجاز الضابط المصري ومنعه من مرافقة الحجاج علاوة على منع المحمل من دخول مكة ، ولكنه لم يقدم على إيقاع عقوبة شديدة نظرا لانعقاد المؤتمر الإسلامي في مكة آنذاك . وقد انقطعت العلاقات مع مصر إثر ذلك . غير أن الإخوان ظلوا أمدا طويلا يلومون عبدالعزيز لأنه لم يعاقب (المشركين) المصريين على قتلهم 25 من الإخوان ، وفيما بعد تذرع كل من فيصل الدويش وسلطان بن بجاد بهذا الحادث معتبرينه السبب الأول للخلاف مع الملك ، وأكدا على أن إبن سعود لم يسمح للإخوان بهدم المحمل بل وبسط حمايته على (الصنم) .
شرع الملك بتطبيق مايدعو إليه المذهب الوهابي بصرامة ، وذلك لغرضين أولهما كسب رضا الإخوان وثانيهما تعزيز هيبته وسلطته . فإن المنقطع عن الصلاة يعاقب بالحبس مدة تتراوح 24 ساعة إلى عشرة أيام وبغرامة ، وإذا ماعادوها فيحبس لمدة قد تصل إلى سنتين . والعقاب الصارم يطال كل من يصنع الخمر أو يبيعها . وقد حظر التدخين ولكن لم يرد ذكر للمتاجرة به . واقترن هذا التقيد الصارم بالوهابية بممارسة العنف والتنكيل بالخصوم السياسيين لآل سعود . ويتعرض كل من يشارك في اجتماع الغرض منه نشر الأفكار المنكرة والأخبار الكاذبة والأراجيف وكل من يشارك في اجتماعات مناوئة لسياسة الحكومة ، لعقوبة الحبس لمدة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات ، أو الطرد من مملكة الحجاز . وكان ينبغي استحصال رخصة من السلطات لعقد أي اجتماع حتى وإن كان لأغراض حيرية. غير أن التقيد الشديد بالأحكام الشرعية لم يدم أمدا طويلا . فبعد مغادرة الإخوان الحجاز خففت القيود المفروضة على المدخنين وصار بوسع الراغبين الحصول حتى على الخمر ، ولم يعد أحد يهتم بطول الشارب.
أراد عبدالعزيز أن يؤكد حرصه على نقاء الدين ، ويحد في الوقت نفسه من تعسف الإخوان ، فأسس صيف 1926 جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت إشراف عالمين من آل الشيخ . وأمر إبن سعود الإخوان بأن يبلغوا الجماعة بكل منكر يرونه على ألا ينزلوا العقاب بالناس وفق هواهم .
وبالتدريج تحولت الجماعة إلى مايشبه الشرطة الدينية ، وفيما بعد وضعت هيئات الأمر بالمعروف التابعة للجماعة تحت إشراف مديرية الشرطة . وعهدت إلى الهيئات القضايا المتعلقة بالغش والخداع في الأعمال التجارية والامتناع عن إخراج الزكاة والإفطار العلني والخروج عن أصول الحج وسفك الدماء وتعاطي أو بيع الخمر . وعند صيف 1928 كانت الهيئات تساهم بنشاط في اجتماعات الحكومة وتشدد من رقابتها على أهالي الحجاز . وقد وجد عبدالعزيز هذه التجربة جديرة بأن تشمل سائل أنحاء البلاد ، فأسس في الرياض مديرية الأمر بالمعروف صيف عام 1929 ، حينما بلغت انتفاضة الإخوان ذروتها .
وقد ندد القيمون على الجماعة بالرئيس التركي مصطفى كمال (أتاتورك) والملك الأفغاني أمان الله بسبب ما أجرياه من إصلاحات . وقال تورباكولوف القنصل العام السوفييتي في جدة : (يصعب على المرء أن يتوقع موقفا آخر إزاء كمال باشا وأمان الله من بلد يقوم وجوده ذاته على حساب الحرمين ويشكل كل ابتداع خطرا يهدد المصالح المادية للأغلبية) .
صارت هيئات الأمر بالمعروف أداة انتزع بواسطتها من الإخوان حق مراقبة تمسك الناس بأصول الدين . وقدمت الديمقراطية العشائرية ، بشكلها لديني المتعصب ، قربانا لجهاز الحكم في دولة إقطاعية مركزية . كانت تصرفات الإخوان تبدو للوافدين الأوروبيين وللمتعلمين من مستشاري الملك نوعا من الغلو في التعصب وحتى الوحشية ، غير أنها مع ذلك كانت تنم عن سعي الجماهير الواسعة من عرب الجزيرة إلى الحياة البسيطة التي دعت إليها الوهابية . وتمسكت الجماهير بالدعوة إلى المساواة التي تضمنتها الوهابية ، وحاولت تحقيق مثلها عمليا وفق ماترتئيه . وقد اصطدمت طموحات الإخوان وممارساتهم بالمصالح الفعلية لعلية الإقطاعيين . لذا فإن تسمية هبات الإخوان بأنها رجعية سافرة تبدو مغالاة في إبراز جانب واحد ، بل وحتى غير صائبة ، فقد كانوا رجعيين بنفس القدر الذي كانت عليه رجعية المشاركين في الانتفاضات الفلاحية في عصر الإقطاع بأوروبا ، بكل ماشهدته من بطش وبأس . وعندما خابت آمال الإخوان وعادوا من الحجاز إلى هجرهم وقبائلهم في وسط الجزيرة ، غدا واضحا أن اشتباكهم مع دولة إبن سعود الإقطاعية المركزية بات وشيكا .
المرحلة الأولى لانتفاضة الإخوان
المقالة الرئيسية:
انتفاضة الإخوانبلغت العلاقات بين السلطة الإقطاعية المركزية والإخوان درجة الغليان بسبب تعاون عبدالعزيز مع الإنجليز عند رسم الحدود مع الكويت والعراق والأردن ، وبسبب سياسته في الحجاز . فقد اعتبر الإخوان إن غبنا أصابهم عند توزيع الغنائم في الحجاز ، كما أن موافقة عبدالعزيز على منع الغزوات على أراضي الكويت والعراق والأردن حرمهم من إمكانية تحسين أوضاعهم المادية عن طريق سلب المشركين . وفي ظروف تعمق أزمة تربية الإبل وتخلف الزراعة في الهجر ، كان الغزو المتستر بذرائع دينية يبدو للإخوان مخرجا طبيعيا يدفع عنهم غائلة الفقر والجوع . وأدى تسامح عبدالعزيز مع الشيعة في الإحساء والقطيف إلى زيادة الطين بلة .
من تناقضات حركة الإخوان أن قادتها كانوا من شيوخ العشائر الإقطاعيين الطامحين إلى أن يصبحوا حكاما إقطاعيين مستقلين . وبذا صارت حركة الإخوان الديمقراطية من حيث تركيبها وعدد من مطالبها ، أداة لخدمة النزعة الإنفصالية الإقطاعية العشائرية . وكان من أبرز قادة الإخوان القائد العسكري والمقاتل الجسور ، شيخ قبيلة مطير فيصل الدويش الذي عاد بعد سقوط جدة في أواخر عام 1925 إلى مقره في الأرطاوية مستاءا استياءا شديدا من عبدالعزيز ، إذ أنه لم ينصب حاكما للمدينة المنورة كما كان يأمل . وأضيف إلى ذلك التناحر بين مطير وآل سعود الذي خفت بعض الشيء قبل عام 1925 . يقول المؤرخ خالد الفرج : (إذا راجعنا تاريخ نجد وجدنا قبائل مطير دائما في صفوف أعداء آل سعود . وهم أول من تلقى طوسون باشا في الحجاز ، ونقل حملته إلى القصيم . وانضموا إلى حملة إبراهيم باشا على الدرعية ، وقاتلوا في صفوفه ... وهم الذين هللوا لمقدم خورشيد باشا ، وجاؤوا معه إلى الخرج محاربين . وكانوا أخيرا في صفوف إبن رشيد ، إلى أن ضربهم إبن سعود في وقعة جولبن فكسر شوكتهم) . وحتى بعد انضمام فيصل الدويش إلى إبن سعود ، فإن 150 رجلا مسلحا كانوا يصحبونه كلما يقدم الرياض . وكان الملك ، كما يقول حافظ وهبة ، (يعتبره صديقا قديما وقائدا من عظام قوادة . وإذا جلس لايجلس إلا في جوار الملك ... وإذا استأذن في الرجوع إلى الأرطاوية قدم للملك قائمة تبتدئ من حبال الآبار .. إلى السلاح والجوادي ، ومابين ذلك من ملابس له ولأولاده وزوجاته) .
وكان من المعارضين لأبن سعود ضيدان بن حثلين شيخ العجمان وهم من أشد وأقدم خصوم آل سعود ولم يقهروا وينضموا إلى حركة الإخوان إلا منذ عهد قصير ، وكذلك شيخ عتيبة سلطان بن حميد بن بجاد رغم أن عبدالعزيز بن سعود هو الذي ساعده على أن يكون شيخا . وقد آمل إبن بجاد أن ينصب حاكما للطائف ولكن كان للملك رأي أخر . وقد كانت عتيبة أقوى وأكبر قبائل وسط الجزيرة بعد عنزة . وفيما بعد انضم إلى الحركة المناوئة لإبن سعود واحد من مشايخ الدولة . وبذا فإن القبائل القاطنة إلى الشرق والشمال والغرب والجنوب الغربي من الرياض صارت معادية للسلطة المركزية . ومن المهم الإشارة ‘لى أننا لا نجد في معسكر المعادين لعبدالعزيز ممثلي القبيلة الأكثر بأسا وقوة وهي عنزة (باستثناء فخذ الرولة) وكذلك آل حرب ، والقسم الأكبر من شمر . أي أن انتفاضة البدو لم تكن شاملة الأمر الذي أنقذ النظام الملكي .
في مطلع عام 1926 اجتمع فيصل الدويش وإبن حثلين وإبن بجاد في الغطغط وأعدوا قائمة بمآخذهم على عبدالعزيز ، وصارت هذه القائمة أساسا للتهم التي وجهت للملك في الاجتماع العام الذي عقده زعماء الإخوان من مطير وعتيبة والعجمان في تشرين الثاني – كانون الأول (نوفمبر – ديسمبر) 1926 في الأرطاوية . وقد وجهت للملك سبع تهم: - سفرة إبنه سعود إلى مصر (إثر حادث المحمل) .
- سفرة إبنه فيصل إلى لندن في (آب أغسطس) 1926 للتفاوض مع الإنجليز) ، الأمر الذي يعني التعاون مع بلد الشرك.
- استخدام التلغراف والتلفون والسيارة في أراضي إسلامية . وكانت هذه النقطة خليطا من الاحتجاج الشعبي على تعزيز السلطة المركزية والعصبية البدوية .
- فرض رسوم جمركية على مسلمي نجد ، وكان هذا في الواقع احتجاجا على تشديد استغلال السكان عن طريق الضرائب التي تجبي مركزيا .
- منح قبائل الأردن والعراق حق الرعي في أراضي المسلمين – وهذا انعكاس للصراع بين القبائل في سبيل الحصول على المراعي .
- حظر المتجارة مع الكويت . فلو كان سكانالكويت كفارا فإن على عبدالعزيز إعلان الجهاد ضدهم ، وإن كانوا مسلمين فلا يجدر به الوقوف ضد المتاجرة معهم . - التسامح مع الخوارج (الشيعة) في الإحساء والقطيف . فقد أراد الإخوان لعدبالعزيز إما أن يهديهم إلى الإسلام أو يقتلهم .
شعر عبدالعزيز أن استياء الإخوان قد يتخذ طابع انتفاضة صريحة ، فغادر الحجاز على عجل وعاد إلى الرياض في كانون الثاني (يناير) 1927 . وفي أواخر هذا الشهر دعا إلى العاصمة زهاء ثلاثة آلاف من الإخوان ، وفي هذا الاجتماع قدم فيصل الدويش وإبن بجاد وغيرهما من زعماء الإخوان المنشقين بنودهم السبعة . لم تكن الانتفاضة قد اتخذت طابعا صريحا بعد ، لذا أخذ إبن سعود يبحث عن حل وسط فوافق على تقليص الضرائب ولكنه رفض نبذ اللاسلكي والسيارة . بل أنه أقنع الحاضرين بمبايعته ملكا لنجد والحجاز فأصبح لقبه (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها) .
في شباط (فبراير) 1927 أصدر علماء الرياض الذين أقلقتهم مطالب الإخوان فتوى اشتهرت فيما بعد . وقد وقعها 15 عالما الأمر الذي يدل على مدى تعقد الوضع . وتظاهر العلماء بأن موقفهم محايد إزاء التلغراف ، ولكنهم نصحوا الإمام بهدم مسجد الحمزة وإرغام الشيعة على دخول الإسلام أو طردهم من البلد . (نذكر بأن الوهابيين لايعتبرون الشيعة مسلمين) . وطالب العلماء الملك بمنع شيعة العراق من الرعي في أراضي المسلمين . وطالب العلماء بأن يعيد الملك الضرائب المستوفاة خلافا للشرع ، ولكنهم أشاروا في الوقت ذاته إلى أن فرض ضرائب غير شرعية ليس ببا كافيا لتصديع وحدة المسلمين . كما أكدوا على أن الإمام هو الشخص الوحيد الذي يمكنه إعلان الجهاد .
في مطلع نيسان (إبريل) 1927 قرر عبدالعزيز أن يعقد اجتماعا آخر لشيوخ القبائل وزعماء الإخوان ، فوفد إلى الرياض مايزيد على ثلاثة آلاف من الإخوان ، ولم يحضر إبن بجا . وفي هذه المرة حاول عبدالعزيز عزل فيصل الدويش الذي اعتبره خصمه الرئيسي . ويبدو أن عبدالعزيز تمكن في هذا اللقاء من استمالة فخذ من مطير وجعله معاديا لفيصل . لكن الحركة المعارضة لإبن سعود لم تقتصر على الإخوان . ففي صيف 1927 اكتشفت مؤامرة تهدف إلى اغتيال سعود بن عبدالعزيز في الرياض وعبدالله بن جلوى في الإحساء . وزعم أن بين المتآمرين شقيق عبدالعزيز محمد وإبنه (إبن محمد) خالد .
لم يجرؤ فيصل على تحدي الملك جهارا ، فأخذ يستعد لشن غزوات على العراق . وكان يأمل من وراء ذلك توزيع الغنائم على أتباعه وحمل الملك على مساندته أو ، بخلاف ذلك ، البرهنة على أنه لم يعد مجاهدا في سبيل الله . ظل الملك يترقب ، إذ أن (الحذر كان دوما السمة المميزة لعبدالعزيز بن سعود – كما يقول غلوب – وكان واثقا من قدرته على هزيمة خصومه من أمراء الجزيرة ، ولكنه لم يكن مستعدا لخوض معارك حربية ضد بريطانيا . أما الإخوان فقد كانوا مستعدين لإيراد أقوال عبدالعزيز السابقة كحجة ضده . واعتبروا العراقيين خوارج وأعداء الله وقالوا بأن أرواحهم وممتلكاتهم مباحة للإخوان باعتبارهم مؤمنين بالدين الحق . غير أن عبدالعزيز كان مثالا للحذر والتبصر . ولئن أيد العصبية فقد كان ذلك لغرض وحيد وهو استخدامها كأداة لبلوغ مآربه ، بينما لم يكن هو ذاته متعصبا ابدا) .
رغم أن وضع إبن سعود في المملكة صار مهزوزا فإن الدبلوماسية البريطانية ظلت ترى فيه القوة الفعلية الوحيدة في الجزيرة ، القوة التي تعتزم التعاون معها . وتخلت بريطانيا عن آمالها في فرض أو إبقاء الحماية على الحجاز ونجد وملحقاتها . وكانت مملكة الجزيرة المترامية الأطراف والقليلة السكان محاطة بمستعمرات أو محميات أو بلدان تابعة للندن . وقدر الإنجليز أن المملكة ، حتى وإن ظلت مستقلة ، ليس بوسعها اتخاذ أية خطوات تضر بالمصالح البريطانية .
في آيار (مايو) 1927 أجرى المندوب البريطاني كلايتون مفاوضات مع عبدالعزيز في جدة ، وفي العشرين من الشهر عقدت (معاهدة صداقة وحسن تفاهم) وقد ألغت هذه المعاهدة النافذة لمدة سبعة أعوام ، اتفاقية عام 1915 واعترفت (بالاستقلال التام والمطلق) لممتلكات إبن سعود . ومن الناحية الشكلية لم تنص المعاهدة على أية امتيازات خاصة لبريطانيا ، ولكن إبن سعود التزم بالاعتراف بأن لها (أي لبريطانيا) علاقات خاصة مع إمارات الخليج ومحميات عدن . ولم يعترف الملك بإلحاق العقبة ومعان بشرق الأردن ، إلا أنه التزم بمراعاة الأمر الواقع لحين رسم الحدود بين الحجاز وشرق الأردن بشكل نهائي . وكانت المعاهدة نجاحا هاما للدبلوماسية السعودية وقننت استقلال الدولة الجديدة .
سرعان ما أعطى الإنجليز الإخوان ذريعة لغزو أراضي العراق . ففي أيلول (سبتمبر) 1927 أرسلت مجموعة من الشرطة العراقية إلى آبار البضية الواقعة على الأراضي العراقية على مقربة من الحدود لبناء مخفر هناك . وقد احتج عبدالعزيز استنادا إلى اتفاقية المحمرة والبروتوكول رقم واحد الموقع في العقير . وردت الحكومة العراقية بأن البضية تقع داخل العراق على بعد 80 ميلا عن الحدود ، وأن المخفر للشرطة وليس للجيش ، في حين أن النجديين لم يكونوا يفرقون بين الشرطي والجندي . ولم يأبه الإنجليز باحتياجات إبن سعود الذي طالب بإزالة المخفر ، وذلك تحت ضغط الإخوان .
في ليلة السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) 1927 أباد مطير كل رجال الشرطة العراقيين باستثناء واحد . وتدخلت إلى جانب العراق الطائرات البريطانية التي ألقت قنابلها على البدو . وفي مطلع كانون الأول (ديسمبر) هاجم 300 من مطير أراضي الكويت إلى الشمال الشرقي من الجهراء . وفي 13 من الشهر طلب إبن الصباح مساندة الطائرات البريطانية لمجابهة الغزوات . ولكن إبن سعود كان قبل ذلك قد أبلغ الحكومتين العراقية والكويتية بأن هذه الغزوات تجري خلافا لأوامره . وفي 16 كانون الأول أعيد بناء مخفر البضية ورابطت فيه فصيلة من الجيش العراقي . ومن كانون الأول (ديسمبر) 1927 استخدمت الطائرات البريطانية على نطاق واسع ضد الإخوان ، ولكن كان من الصعب في الصحراء تمييز الإخوان عن غيرهم ، فادت الغارات إلى مصرع سكان مسالمين . وقد استمرت غزوات الإخوان حتى شباط (فبراير) .
وقد قال غلوب الذي عاصر تلك الأحداث وشارك فيها : (عام 1927 لم يعد إبن سعوند مسيطرا على الوضع سيطرة تامة . فقد اغتر الإخوان ، إثر انتصاراتهم في الحجاز ، بقوتهم وزعموا أن سيوفهم هي التي أعلنت كلمة إبن سعود . وأدرك الإخوان أنهم عماد جيش الملك الذي لم يكن لديه قوات نظامية لضبطهم . وكانت الإنتفاضة الصريحة ضد إبن سعود صعبة ، فهو الإمام ويحظى بتعاطف أهل نجد . ولكنهم اعتبروا أن من الواجب المقدس محاربة الشيعة العراقيين ، لإنهم خوارج ولكونهم تحت حماية الإنجليز . واتهم إبن سعود بالتسامح في الدين ورفض محاربة أعداء الله . ولم يكن النجديون ، رغم مساندتهم لإبن سعود ، مستعدين لاستخدام القوة بهدف منع الإخوان من شن الغزوات على العراق التي تعني الاصطدام ببريطانيا . ولم يكن بوسع إبن سعود أن يعترف للدول الأخرى بأنه سيطر تماما عليهم كان ليعني تحمل مسئولية غزوات الإخوان . وقد أعطاه بناء مخفر البضية ذريعة لاتهام العراق والإخوان) . وفي هذا الظرف آثر ملك الحجاز نجد الاستمرار في ترينه . وفي آذار (مارس) 1928 عاد مطير إلى هجرهم بعد غزوات موفقة .
في كانون الثاني (يناير) 1928 التقى حافظ وهبة بالمندوب البريطاني هنري دوبس في الكويت ، بعد أن حذر الإنجليز إبن سعود من أن الطيران سوف يستخم بكل ضراوة ضد الإخوان إذا لم يوقف الملك الغزوات . ولكن الإنجليز استمروا في تزويد الملك بالذخائر . وفي آذار (مارس) 1928 أعلن ناطق باسم الحكومة البريطانية في مجلس العموم أن بلاده أعطت خلال الأشهر الأخيرة ثلاث مرات ترخيصا بتصدير الذخيرة إلى إبن سعود . في مطلع نيسان (إبريل) 1928 عقد في بريدة لقاء آخر مع الإخوان ، ولكن فيصل الدويش وابن بجاد لم يحضرا إلى المدينة ، بينما رفض عبدالعمزيز الالتقاء بهما في البادية . ووعد الملك الإخوان بأنه سيجري مفاوضات مع الإنجليز ويحتج على إقامة المخفر .
في آيار (مايو) 1928 جرت مفاوضات بين عبدالعزيز والمندوب البريطاني كلايتون ، ولكنها لم تسفر عن شيء ، كما لم يتمخض عن نتيجة اللقاء الآخر الذي عقد في آب (أغسطس) من العام نفسه . وقد أحس الإنجليز بأن بعدالعزيز أخذ يفقد السيطرة التامة على البلد . وأدرك الطرفان أنه لم يتبق لديهما سوى ستة أشهر يحل بعدها موسم الرعي الجديد الذي تعود فيه مناطق الحدود إىل حالة الفوضى . أمضى عبدالعزيز صيف عام 1928 كله في مكة يشن هجمات إعلامية ضد العراق ، يبدو أن الغرض منه إقناع الإخوان بتمسكه بأسول الدين . ويقول فيلبي (إن ابن سعود شعر بالحاجة إلى الحد من تعصب أتباعه . وكان يعرف أن الحرب مع العراق . مع القوات البريطانية تعني كارثة ، فقرر تحاشيها بأي ثمن . ولكنه كان يحس أيضا أن الغليان في البادية بلغ حد تحديه لتسامحه مع المشركين) .
وضع كبار زعماء الإنتفاضة الإخوانية خطط اقتسام ممتلكات إبن سعود . فقد استقر الرأي على أن يكون فيصل الدويش حاكما لنجد وإبن بجاد حاكما للحجاز وتعطى الإحساء لإبن حثلين . ووعد نداء بن نهير ، وهو من أبناء أحد أفخاذ شمر ، بتنصيبه حاكما للحائل إذا ما انضم إلى قادة الإخوان ولكنه آثر التريث وظل وفيا لإبن سعود .
في أيلول (سبتمبر) 1928 عاد الملك إلى الرياض ووجد أن بعضا من أفخاذ العجمان قد اتحد مع فيصل وإبن بجاد . أخذ الملك يعمل على عقد الجمعية العمومية للحضر والإخوان وحدد شهر تشرين الأول (أكتوبر) موعدا لها ولكن الجمعية لم تنعقد إلا في 6 كانون الأول (ديسمبر) 1928 . حضر الجمعية العمومية زعماء الإخوان وشيوخ العشائر وأشراف المدن وعلماء الدين ، وتجاوز العدد الإجمالي للحاضرين ومرافقيهم 800 شخص ، وتغيب عن الجمعية فيصل الديش وسلطان بن بجاد وإبن حثلين ، ولكن فيصل أوفد إبنه عزيز لحضورها . تحدث عبدالعزيز في الحاضرين طويلا وعدد منجزاته ومنها توحيد الجزيرة وإقامة صرح السلام .ثم لجأ إلى حركة مسرحية باقتراحه التنازل عن العرش شريطة أن يبايع المجتمعون واحدا من آل سعود ملكا ، وقال أنه سوف يساعد من يختارونه . وتحدث عبدالعزيز عن مفاوضاته مع الإنجليز وقال أن غزوات فيصل الدويش هي سبب تعنتهم .
فعلت الحركة المسرحية فعلها في الحاضرين ، وخاصة سكان الحواضر وواحات نجد ، الركيزة التقليدية لآل سعود ، والذين كانوا يعرفون حق المعرف ما قد يعنيه بالنسبة لهم غياب عبدالعزيز وانتصار فيصل الدويش وبان بجاد . ووسط صياح : (لانريد بك بديلا) أعرب كل الحاضرين عمليا عن تأييدهم لسياسته و (إنكارهم) لزعماء الإخوان الثلاثة . ومن الواضح أن المجتمعين كانوا يدركون أن ابن سعود لايتنازل عن العرش طائعا ، وأنه كان قد بلغمن القوة والذكاء حدا كبيرا وأصبح مستعدا لمحاربة الإخوان . وتيقن أعيان الحواضر من ضرورة محاربة الإخوان ، وقد لعب دورا في ذلك السعي لحماية المصالح الطبقية في مواجهة البدو الثائرين ، إلى جانب نفور الحضر من البدو . غير أن الصعوبة تمثلت في أن حركة الإخوان اتخذت طابعا دينيا وزعم قادتها الثلاثة أنهم حماة الدين الحقيقيون وأن عبدالعزيز يقدم مصالحه الشخصية على مصالح الإسلام ويتعاون مع الإنجليز الكفار .
مع بداية موسم الرعي غدا واضحا أن الحرب الأهلية قائمة لامحالة ، رغم أن قبائل كثيرة اتخذت موقف متريث . وعوضا عن الوقوف جهارا ضد عبدالعزيز آثر زعماء الإخوان الثلاثة شن غزوات على العراق ، لكن لايتهموا بالعصيان . هاجم بن بجاد قرية الجميمة على الحدود مع العراق ، وقتل كثيرا من التجار بينهم عدد من أهالي نجد ، ثم هاجم شمر . وقد جعل الإخوان أكبر القبائل وهي عنزة وقبيلة حرب الحجازية تتألبان ضدهم . وحصل إبن سعود الذي كان قبل شهر فحسب مهتز الثقة بنفسه ، على دعم من البدو والحضر في نجد . وأبدى فيصل الدويش كياسة سياسية أكثر من ابن بجاد فاقتصر على مهاجمة العراقيين متظاهرا بأنه من رعايا الملك الأوفياء ولم يقطع الأواصر معه بشكل لارجعة فيه ، كما أن الخلافات بينه وبين ابن بجاد تزايدت . وبعد مذبحة الجميمة وصل ابن سعود إلى القصيم حيث جهز حملة من المتطوعين النجديين الذين التحقوا بقواته عن طيب خاطر لأن المزارعين والتجار لم يشعروا بالأمان طالما استمر الإخوان البدو في نهبهم وتقتيلهم . وسار في ركب ابن سعود فخذ من العتيبة على رأسه عبدالرحمن بن ربيعان منافس ابن بجاد ، ومشاري بن بصيص من مطير ودليم بن براك من هتيم وعدد كبير من قبيلة حرب وكل شمر ونجد تقريبا وجزء كبير من قبيلة الظفير وجزء من عنزة الحجاز ، وكذلك ولد سليمان وغيرهم . وصار حضر نجد العمود الفقري لقوات الملك. في مطلع آذار (مارس) 1929 بدأ ابن سعود حملته ، وكان ابن بجاد وفيصل عند آبار السبلة .
جرت سلسلة من المفاوضات ، وزار فيصل الدويش معسكر عبدالعزيز ثم عاد إلى جماعته . وفي اليوم الثاني ، في 31 آذار (مارس) 1929 نشبت معركة السبلة . حشد ابن سعود في الوسط مشاة من أهالي نجد ، وجعل إخوانه وأبناءه على رأس مجموعات وبدأ الهجوم ، وكان المتطوعون من البدو على الميمنة والميسرة . خسر الإخوان المعركة وأصيب فيصل الدويش بجرح بالغ في بطنه ، وتقدم سعود بن عبدالعزيز على رأس مجموعة من أهالي الرياض وحرس الملك ، ليكمل الانتصارات . وتحمل حضر نجد العبء الأساسي في المعركة . هرب فيصل الجريح إلى الأرطاوية وأوفد نساءه إلى الملك لكي يطلبن منه الرأفة والعفو . وحينما علم عبدالعزيز بأن فيصل أصيب بجرح شديد لان وعفا . وبعث بطبيبه الخاص إلى فيصل . ويبدو أن الغرض لم يكن المداواة فقط ، بل معرفة مدى خطورة الإصابة . وعلى أية حال فقد أدرك عبدالعزيز أن فيصل لم يعد له وجود كمنافس له .
أما ابن بجاد فقد عاد بعد المعركة إلى الغطغط . وبعث إليه الملك رسالة يطلب منه فيها أن يستسلم هو وشيوخ القبائل الذين شاركوا في الانتفاضة . وقد انصاع ابن بجاد فحبس وسواه من زعماء الانتفاضة في سجن بالإحساء وهناك قضوا نحبهم . وأمر عبدالعزيز بتجريد هجرة الغطغطمن السلاح وهدم بيوتها . وما زالت أنقاضها قائمة حتى اليوم . اعتقد الملك أن انتفاضة الإخوان قد قمعت ، فقصد المدينة ثم مكة للحج في آيار – حزيران (مايو – يونيو) 1929 .
المرحلة الثانية من الانتفاضة
غير أن فيصل الدويش ظل على قيد الحياة ولم تحبط عزائمه ، فعاد إلى تدبير غزوات ضد العراق . ورغم عدم اشتراك ضيدان بن حثلين وقبيلته في معركة سبلة ، إلا أن ابن جلوى اعتبر تصرفات العجمان السابقة حجة كافية لضربهم . وأوفد عبدالله بن جلوى إبنه فهد لأسر ضيدان بن حثلين بالقرب من هجرته في الصرار . وقام فهد باستدراج ضيدان إلى لقاء في البادية حيث أسره . وحينما اكتشف الإخوان من جماعة ابن حثلين أن زعيمهم لم يعد ، طوقوا فورا معسكر فهد الذي أمر بقتل ضيدان وخمسة من صحبه . وتلت ذلك معركة قتل إبانها فهد ، بينما انضم إلى المتمردين نايف بن حثلين وهو من أقارب ضيدان وكان سابقا من المعارضين للإخوان . وأدرك زعماء هجرة الصرار أن عبدالله بن جلوى سيعمل فور سماعه بمقتل إبنه على مهاجمتهم ، لذا لموا ماشيتهم وحوائجهم ونزحوا إلى الشمال . ويقول ديكسون أن الغدر بضيدان ألب بدو المناطق الشمالية الشرقية من الجزيرة ضد عبدالعزيز رغم أنه لم يكن مسئولا عن ذلك . وعاد جمع كبير من العجمان الذين هجروا أراضي الكويت بضغط من الإنجليز ، إلى الإحساء وانضموا إلى أفراد قبيلتهم .
بيد أن حلول الصيف وضع حدا للمعارك الكبرى ، وكان العجمان قد تمكنوا من الحصول على بعض العون من الكويت حيث اشتروا مؤنا وذخائر في أسواقها . واحتج عبدالعزيز فيما بعد لأن الإنجليز تغاضوا عن هذه المشتريات . ولكن كان في العراق والكويت من يتعاطف مع الثائرين لذا لم يكن بوسع افنجليز السيطرة على كل الأمور . وازدادت قناعة الإنجليز من أن تحقيق أهدافهم في الكويت والعراق والأردن يتطلب منهم أن يساعدوا ابن سعود في قمع انتفاضة الإخوان وتوطيد نظامه .
انضم فيصل الدويش الذي قرر أن يرفع راية الانتفاضة مجددا ، إلى العجمان ، وفي منتصف تموز (يوليو) عمل وإياهم على قطع الطريق بين الرياض والهفوف . وقطعت عتيبة سبل الاتصال بين الحجاز ونجد . وفي البدء كان العجمان يرومون مهاجمة القطيف والمدن الساحلية في الإحساء ولكن العوازم اعترضوا طريقهم . هاجم العجمان العوازم لسلبهم ولكنهم ردوا على أعقابهم . وكانت تلك هزيمة نكراء مني بها العجمان ومطير لأن العوازم يعتبرون من (مجهولي النسب) أوالهتمان . دارت في البلد رحى حرب أهلية ، وصار جامعوا الخراج عرضة للقتل في كل مكان . ولم تعد طرق القوافل في الحجاز ونجد والإحساء آمنة .
عاد الملك إلى الرياض في تموز (يوليو) 1929 ومعه 200 سيارة لاستخدامها ضد المنتفضين . واتفق في الحجاز على شراء أربع طائرات وخطط لإقامة شبكة من محطات الإذاعة في البلد . ولم يرس طلب إقامة الإذاعات على شركة ماركوني إلا في أواخر عام 1930 ، أما الطائرات فقد وصلت سواحل الإحساء في نهاية عام 1929 حيث انتفت الحاجة لاستخدامها ضد البدو . في أيلول (سبتمبر) قرر ابن سعود القضاء على الثائرين ، ودعا أمراء القطيف والإحساء والقصيم وحائل إلى تزويده بالرجال والمال والسلاح ، واستنفر أهالي نجد من بدو وحضر ، كما حصل على مؤازرة الهجر التي لم تنضم إلى فيصل الدويش .
أنزلت ضربة قوية بفيصل الدويش في أيلول (سبتمبر) ، حينما ألحقت قوة يترأسها ابن مساعد ، الهزيمة بقواتمطير بقيادة الشاب عزيز بن فيصل الدويش الذي قتل هو ونخبة من مطير في المعركة . وبعد بضعة أيام مني بالدويش بهزيمة أخرى ، إذ أن فخذا من عتيبة له علاقة بالإخوان هزم من قبل فخذ آخر من نفس القبيلة ظل مخلصا لعبدالعزيز وساندته وحدة بقيادة إبن لؤي من الخرمة . انتهى أمر الانتفاضة . وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1929 هرب فيصل إلى الكويت أملا في الحصول على حق اللجوء له ولرجاله ولإبقاء أفراد عائلته هناك وأخذ وعد من الإنجليز بعدم قصف مطير . ولكن الإنجليز ظلوا يسوفون ولم يعطوا أية ضمانات . منظمة هربا من ابن سعود . وكانت القوات العراقية محشدة إلى الشمال من الكويت ، وقامت المصفحات البريطانية بطرد الإخوان ليعودوا إلى الأراضي السعودية . وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1929 أعلن عبدالعزيز أن كل من اشترك في الفتنة يؤخذ ماله وجميع مالديه من إبل وخيل وسلاح ، وأن كل من مالأ المنتفضين تؤخذ منه الذلول والفرس والبنادق ، على أن يقسم كل ماينتزع من المنتفضين على المشاركين في المعارك إلى جانب الملك . وأمر بأن كل هجرة غلب الفساد على أهلها يطردون منها ... ولايسمح لفريق منهم بالاجتماع في مكان واحد .
في كانون الأول (ديسمبر) عام 1929 جمع عبدالعزيز قوة من حضر العارض والوشم والقصيم وبعض الأفخاذ الموالية له من مطير وعتيبة وحرب ووحدات من قبائل سبيع وقحطان والدواسر . وبدأ بمطاردة فيصل . وجرت اشتباكات أدت إلى هزيمة الإخوان . وفي أواخر الشهر ذاته بعث فيصل الدويش رسالة إلى عبدالعزيز يطلب فيها العفو والأمان . ورد الملك بأن فيصل لمي عد له الحق في العفو . غير أن المكاتبات استمرت بين الجانبين . وفي الوقت ذاته بعث فيصل رسالتين إلى ملك العراق المخلصين . ولكن الإنجليز كانوا يميلون إلى القضاء على الإخوان . وفي نهاية كانون الأول أصبحت فلول قوات الدويش محصورة بين قوات عبدالعزيز والقوات البريطانية على الحدود بين نجد والعراق والكويت . وكانت قوات عبدالعزيز ومدرعاته أكثر بكثير من المتمردين .
في إحدى المعارك هزم آل حرب نفرا من مطير ففر هؤلاء إلى الكويت . وحينما نما الخبر إلى فيصل عبر مطلع كانون الثاني 1930 حدود إمارة الكويت . وحالما علم عبدالعزيز بذلك كتب إلى المقيم البريطاني في الكويت ديكسون يحتج على السماح للإخوان بالالتجاء إلى الكويت والعراق والأردن . وفي اليوم التالي تلقى تعهدا بأن المتمردين سوف يطردون . ولكن لايستبعد أن السلطات البريطانية والعراقية والكويتية كانت تريد الإبقاء على زعماء الإخوان كأداة في يدها للضغط على ابن سعود .
استسلم فيصل الدويش وسواه من زعماء الإخوان إلىالسلطات البريطانية في العاشر من كانون الثاني (يناير) 1930 ، فنقلوا بالطائرات إلى البصرة حيث وضعوا على متن بارجة بريطانية في شط العرب . وبعد يومين طالب عبدالعزيز بتسليم زعماء الإخوان . وكان ملك العراق فيصل يدعو إلى منح حق اللجوء للإخوان ولكن البريطانيين لم يتفقوا معه في الرأي . وصل إلى معسكر ابن سعود وفد بريطاني وجرت مفاوضات تم بعدها التوصل إلى اتفاق حول تسليم زعماء الإخوان للملك . ووعد الملك بالإبقاء على حياتهم ، ومنع الغزوات على العراق والكويت . كما أن عبدالعزيز تعهد بتعويض العراق والكويت عما ألحق بهما من أضرار ودفع عشرة آلاف جنيه تعويضا عن الخسائر التي سببتها غزوات الإخوان ، وأن يعين في أي وقت مندوبين إلى المحكمة المشتركة وفقا لاتفاقية بحرة .
في 27 كانون الثاني (يناير) نقل زعماء الإخوان الثلاثة إلى مخيم عبدالعزيز حيث استقبل الملك عدوه اللدود المهزوم باللوم . ورفض فيصل الاعتراف بأنه ارتكب معصية أو خطأ . وقد نقل المعتقلون إلى سجن الرياض ، وتوفي فيصل في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) 1931 في السجن . وظل حتى الرمق الأخير ثابت الجنان ومات وهو يقسم بمحاسبة عبدالعزيز في يوم القيامة . وهكذا آخر وأكبر ممثلي عهد انصرم . وسرعان ماتوفي الباقون من زعماء الإخوان في السجن ، ولعل السجانين قد أعانوهم في ذلك . في كانون الثاني (يناير) 1930 انتهت انتفاضة الإخوان عمليا . وبذا انهزمت وتلاشت حركتهم التي لعبت دورا هاما في تعزيز سلطة ابن سعود وغزواته . وتوقفت حتى عملية تحضر البدو وانتقالهم إلى الزراعة . وكانت للدولة الإقطاعية المركزية الغلبة على الحركة الشعبية للبدو الذين قاموا ، بشكل غريزي ، تشديد الاضطهاد ووقفوا ضد التطلعات الإقطاعية الانفصالية لزعمائهم .
أصبح بدو الجزيرة ولعقود طويلة تحت رحمة الماكنة العسكرية البيروقراطية . ولكن لايستطيع أحد أن يجزم ويحدد بثقة الجانب الذي يسلتزمه البدو في حالة الصراعات المحتملة مستقبلا . في 20 شباط (فبراير) 1930 وصل عبدالعزيز إلى رأس تنوره ، واستقبل على متن بارجة بريطانية حيث التقى بالمندوب السامي البريطاني في العراق همفرز والملك فيصل . وخلال اللقاء الذي دام ثلاثة أيام تبادل العاهلان العتاب ، ولكن المصالح المشتركة كانت لها الغلبة في آخر الأمر ، فاتفقتا على عقد معاهدة للصداقة وحسن الجوار وقعت بعد أسابيع بإلحاح من البريطانيين . وإلى بضع سنوات خلت كانت الأسرتان المالكتان تتحاربان في الحجاز الذي اعتبره الهاشميون ملكا متوارثا لهم . ولم تنس أسرة الشريف قط فقدانها مكة والمدينة والهزائم المنكرة التي ألحقها بها ابن سعود . بيد أن متطلبات السياسة الواقعية كانت الأقوى . وقرر العاهلان تبادل الاعتراف بينهما كملكين للدولتين وتبادل المبعوثين الدبلوماسيين واحترام كل طرف لحقوق العشائر والأراضي المشمولة بسيادة الطرف الآخر . بدا أن النظام السعودي قد أنجز بنجاح حل مشاكله الخارجية والداخلية ، وصار بوسعه الخلود إلى عهد من الاستقرار النسبي . ولكن كان على ابن سعود أن يمر ، قبل حلول هذا العهد ، باختبارين جديدين هما الحركات المسلحة في الحجاز وعسير والحرب مع اليمن ، وإن لم يشكل خطرا جديا على سلطته .