الاردني … من اصول فلسطينية!!!
يواجه الأردني من أصل فلسطيني أسئلة لحوحة في هذه الفترة الموسومة بالتوتر السياسي، والمفضية – فيما يبدو- إلى خيارات جوهرية، لكن السؤال الأكثر حُرقةً ومرارة الذي ظلّ يواجهه دائماً هو سؤال الهوية المُعلنة؛ فهو إن صاغ خطابه على أساس أنه “أردني” قوبل بالرفض من متشددين اتهموه مباشرة بالترويج لفكرة “الوطن البديل” وبأنه تنازل عن فلسطينيته طمعا في الهوية الأردنية، وهو أيضاً إن قال انه فلسطيني فهو إقليمي بغيض نسي خير الأردن عليه وتنكر للبلد الذي أطعمه وما يزال بجسده هنا وبأشواقه هناك، لذلك هو غير منتمٍ وغير مأمون الجانب!
وثمة ملاحظة هنا ضرورية جدا على فكرة “البلد الذي أطعمه”؛ إذ لا ينكر الفلسطيني الدور التاريخي العظيم للشعب الأردني في احتضانه ومشاركته البيت، ولا ينكر دور هذا البلد الذي فتح أبوابه واسعة له، لكنه يظلّ يتوقف عند كلمة “أطعمه” التي يستخدمها البعض بشكل مُهين، وفي غير محلّها، فهو على مدار الخمسين سنة الماضية كان يدفع فوا تير الماء والكهرباء وأجرة الباص من وإلى المخيم، وكان ويدفع مثل “الأردنيين الكاملين” كل أنواع الضرائب، ولا يتذكر مرة طيلة الخمسين سنة أن موظفا حكوميا ترك له مغلفا من المال، أو بقجة من الملابس، على باب بيته ! أو ان الحكومة تسامحت معه ولو مرة بقرش واحد لأنه فلسطيني !!
صار لزاماً أن تنتهي هذه المعزوفة المملّة عن “الطعام والشراب”، فالفلسطينيون في الأردن لم يكونوا يوما متسولين ولا جائعين ولم يتطلعوا إلى موائد أحد، وأنا كلاجىء في هذا البلد منذ صبيحة 5 حزيران 67، كل الذي استهلكته طيلة هذه السنوات من ماء وكهرباء وخبز وباصات نقل عام كنت أدفع ثمنه مباشرة ومثل أي مواطن في الأردن أو في أي دولةٍ أخرى. كما أن خدمة التعليم والعلاج بواسطة “كرت المؤن” التي دائما ما قُدمت في المخيمات مجاناً هي من وكالة الغوث وليس من الحكومة، والأرض التي أقيمت فوقها المخيمات هي أراض تستأجرها وكالة الغوث الدولية من ملّاكين أردنيين بشكل مباشر!
أنا لم أصادف في حياتي شخصاً قال لي إن الحكومة عاملته بشكل تفضيلي لأنه لاجىء، لكنني بالمناسبة صادفت الآلاف الذين قالوا العكس !!
وأنا كباقي الأردنيين (الأصليين) دفعتُ دائماً رسوم دعم الجامع ات، ورسوم كهربة الريف، ورسوم مشاهدة التلفزيون الأردني، ورسوم تعبيد الشوارع، ورسوم تصريف المياه، ولم يسألني أحد مرة عن بلدتي الأصلية وأنا ادفع كل هذه الرسوم، لكن الشرطي في المخفر بعد حادث سير بسيط سألني من أين أنت ليقرر كيف يعاملني !!
أسوق هذه المقدمة للرد على كثير من المتحدثين والمُنظّرين الذين نشطوا هذه الأيام يحملون سؤالين مُهمّين هما:
لماذا لا ينشط الفلسطيني في الأردن للدفاع عن فلسطينيته ورفض الوطن البديل ،
ولماذا يحجم الفلسطينيون عن المشاركة في الحراك الشعبي ؟!
وسأصوغ الحديث على شكل نقاط قليلة:
لم يكن مسموحاً يوماً للفلسطيني في الأردن أن يعبّر عن فلسطينيته ، بأي أداة من الادوات؛ لا كلاماً ولا تصرفا ولا كتابةً، ولا حتى تلميحاً، وكان أي خرق لهذه القوانين الأمنية غير المكتوبة يُعدّ تنكراً لأردنيته يُعاقب عليه، وبعض الأشقاء الأردنيين في القرى البعيدة لا يعرفون ذلك، لكن الأردنيين في العاصمة كانوا يعرفون بما عاناه الفلسطيني أمنياً، ويعرفون أنه واقعٌ في ورطة الهوية الملتبسة؛ حيث يمنع من القول إنه فلسطيني، ويُنبذ إن قال إنه أردني!
لم نفهم ما المطلوب منا، وما هي هويتي التي يتعين عليّ إشهارها ليرضى عني ضابط الأمن؟!
فأنا ممنوع من رفع علم فلسطين، بحكم القانون الذي منع الطائرات الورقية لأنها تخرّب أسلاك أعمدة الكهرباء (!!) ثم بحكم قانون آخر أكثر صراحة هذه المرة يمنع رفع أي علم غير الأردني، لكنه يسمح لي برفع علم إيطاليا او البرازيل او ألمانيا على سيارتي وطيلة العام !
كان الفلسطيني دائماً محاصراً في إعلان رموز وتفاصيل وملامح هويته، وهو الآن مُلام لأنه لم يتمسك بها !!
ثم لدي سؤال: إذا كنت أنا من مكونات هذا الشعب الأردني، فهل يُسمح لي عندما أذهب لتشجيع منتخبي الأردني في مباراته أمام الصين أن أرتدي شماغي الأسود مثلا، أو أرفعه في المدرجات؟؟ كما يفعل شقيقي المكوّن الآخر وهو يرفع شماغه الأحمر؟!
هل تتجزأ الهوية، وهل ينبغي عليّ حملها من دون إشاراتها وعلاماتها؟ أم أن المثقف الأردني يريدني كما أرادتني الحكومة دائماً: فلسطينيا حين يحتاج أن يستخدمني لدعم أطروحاته، وأردنياً حين يريد ؟!
فالإعلام الأردني دائما ما أصابنا بالفصام وهو يجعلنا أردنيين وفلسطينيين في ذات النشرة الإخبارية الواحدة !
بالمناسبة أنا لا أتحدث هنا عن حقوق منقوصة، فأنا ضد هذه النغمة الانتهازية، وكنتُ سنة 1998 كتبتُ مقا لا في صحيفة “العرب اليوم” عندما راجت قصة “الحقوق المنقوصة” قلت فيه إن عدنان ابو عودة وجواد العناني ليسا من يمثلني في الأردن ليتحدثا عن “حقوقي”، ففي الأردن ليس ثمة انقسام عمودي بين الناس على قاعدة أردني وفلسطيني ؛ إنما هناك انقسام أفقي بين طبقتين: الأولى طبقة المنتفعين والسرّاقين والفاسدين وهي من الأردنيين والفلسطينيين، والثانية طبقة الفقراء من المخيمات وقرى الشمال والجنوب.
فالحقوق المنقوصة هي حقوق أردنيين وفلسطينيين على السواء، يتساوى في ذلك ابن البقعة مع ابن معان، كلاهما له حقوق، اغتصبها فاسدون لا يتذكرون هم أنفسهم مكان ولادتهم ولا يعنيهم أصلهم!
لكنني أتحدث عن انتقاص الهوية؛ وأريد أن أفهم؛ بجدّ ، ما المطلوب مني أن أعرّف بنفسي ؟!!
إذا قلنا نحن فلسطينيون قامت قيامة البعض، واتهمنا بالانتماء للخارج، وبأننا نتعامل مع البلد كممر لا مستقر، وإذا قلنا أردنيون نهض في وجهنا المرعوبون من الوطن البديل!!
النقطة الثانية هي الحراك السياسي في الشارع الأردني، وهناك نوعان من الكُتّاب في الأردن: الأول يقول إنه حراك سياسي طاهر ونظيف لأنه لم يحدث سوى في المحافظات ولم يتلوث بأيد فلسطينية!! ويجب أن يظلّ كذلك! وأن لا يتورط مع أهل عمّان الغرباء!! والنوع الثاني يتساءل: لماذا يتورع أهل عمان ومخيماتها عن المشاركة بهذا الحراك ؟!!
سأعلّق هنا على النقطة الثانية حيث الأولى لا تستحق حتى التعليق:
لم يكن الحراك الشبابي في عمان شرق أردني خالصاً، ونقيّ العِرق، فقد شاركت فيه مجموعات مختلطة من الشباب لم تتوقف كثيرا عند اسم الجد الرابع، لكن الأكثرية والأغلبية الفلسطينية لم تشارك به حقا، لكنها بالطبع معنيّة تماما بما يحدث وقلقة تجاهه.
وهي لم تشارك فيه، لأن كثيرا من بدايات الحراك كان مبتدأها وشعارها (وما يزال) إقليميا ويحمل خطابا مريبا، ( من قبيل تطهير عمان، الزحف باتجاه عمان، تخليص عمان) وهو ما ورد في بيانات وخطابات قسّمت الفساد إلى أصول ومنابت، وتعاملت مع الموضوع على قاعدة (وحدات وفيصلي) وتجرأت على مقامات عالية لمجرد كونها من أصل دون آخر، وهو ما وضع هذا الحراك رهن علامات استفهام كثيرة.
فمن المفارقات التي بدأت تتعامل مع “عمان” كمدينة فلسطينية مثلاً أن تتحدث “نائبة” في البرلمان بصوت جهوري تحت القبة فتقول بصيغة الشتم “إن في عمان مليون بيت دعارة”، ولا تلام ولا يحاسبها أحد. .. ترى لو كان الحديث هنا عن أي محافظة أردنية أخرى، هل كان سيسكت أهل المحافظة المذكورة ؟!!
كما أن الفلسطيني في الأردن لطالما أحس أنه غير مرغوب فيه كطرف في العملية السياسية، ولطالما وصلته رسائل وتلميحات بأن يظل محتفظاً بآداب الضيف، لذلك زهد دائماً في المشاركة بالانتخابات والاحزاب والتظاهرات، لأنه يعلم أن اعتقاله أسهل من غيره، وأن سريان القوانين عليه أيسر بكثير أيضاً!
ولم يشارك فلسطينيون كثيرون في هذا الحراك بل قالوا “هذه ليس معركتنا” ويقولون أيضا بصراحة: الذين استفادوا دائما من عطايا النظام يريدون أن ينقلبوا عليه، لأن العهد الجديد لم يسرف في العطايا لهم كسابقه، فما شأننا نحن؟!
والأهم من كل ذلك أن الفلسطينيين في الأردن لم تصلهم أي رسائل تطمينات من المحافظات بخصوص هذا الحراك، بل أحسوا ضمنيا أنهم محسوبون على “القصر”، وأن من يستهدفه سيستهدفهم بالضرورة، لذلك فضّل الكثيرون منهم، بل أغلبيتهم، أن لا يدخلوا هذه المعركة، فهم على الأقل توصلوا بعد مرور أكثر من أربعين عاما على “أحداث السبعين” إلى مصالحة مع هذا النظام، وليس بينهم وبين الملك الجديد أي ثارات جديدة، ولا يرغبون بمناهضته، ويشعرون دائماً بأنهم “جالية” عليها احترام مضيفها، فضلاً عن أنهم لا يشعرون بالاطمئنان تجاه أي بديل آخر، ولا يضمنون مستقبلهم في حال تعرض “العرش” لأي هزة، ولديهم إحساس ما خفي بأن ثمة من يتربّص بهم!
…
الخلاصة في الأمر أن فلسطينيي الأردن ليسوا بحاجة مواجهة مع النظام، فهم في النهاية لاجئون في هذا البلد، ينتظرون تقرير مصيرهم، وهم بحاجة مساندة النظام لهم في الإسراع بتقرير هذا المصير، ولا تنقصهم معارك تعيدهم مرة أخرى إلى المربع الأول من سوء الفهم، وهم بكل “آداب الضيافة” يعتبرون الأمر شأناً أردنياً بحتاً، رغم انعكاساته المباشرة عليهم، لكن من العقل أن لا يكونوا طرفاً فيه، لأن مجرد الشروع في ذلك هو تكريس لهم كشريك في الحكم، وتكريس لفكرة “الوطن البديل”!
وربما ، بعد خطاب الملك الأخير الذي التقى فيه كُتّابا ومثقفين، سيحسم الفلسطينيون أو من كان متردداً منهم، موقفه، فقد كان الملك واضحاً وصارماً وحادّاً في خطاب تضمن تطمينات كثيرة للفلسطينيين، ولم يكن ليّناً تجاه من يخرج، كل عام أو ستة أشهر، ليلوّح لفلسطينيي الأردن مُهدّداً ومُتّهِماً ومُشكّكاً .. وقال إن فزّاعة “الوطن البديل” ليست موجودة سوى في رؤوس هؤلاء “المرعوبين” .
ونتمنى أن تكون قد وصلتهم الرسالة!