بين دولة التنويلند ودولة إسرائيل
لم يكن هرتسل ولا بن غوريون مصممين على شكل واحد ووحيد لتقرير المصير اليهودي
ديمتري تشومسكي
يعتقد البروفيسور شلومو أفينري بأنه يتضح من «التنويلند» ـ الرواية الخيالية ذات الرسالة السياسية التي نشرها ثيودور هرتسل في العام 1902، ان بلاد إسرائيل التي تخيلها هرتسل ليست مجرد «محافظة اخرى في الامبراطورية العثمانية» («هآرتس» 10/4). ولكن مراجعة دقيقة للكتاب الذي بسط فيه مؤسس الصهيونية السياسية رؤياه عن صورة بلاد إسرائيل بعد تحقيق تقرير المصير اليهودي فيها، تبين أن العكس هو الصحيح.
في ثلاثة مواقع على الاقل في الرواية، يتبين بشكل واضح جداً بان تعريف «التنويلند» كجزء من حكم ذاتي في الامبراطوية العثمانية، يتطابق بالتأكيد مع الفكر الهرتسلي بالنسبة للمستقبل السياسي لبلاد إسرائيل. في احد المواقع، الذي يروي فيه المؤسس و«المدير العام» لـ «التنويلند» يوسف (جو) ليفي، قصة إقامة وتثبيت الاستيطان الصهيوني واسع النطاق في البلاد يقول: «تلقينا الحق بإدارة المناطق المخصصة للاستيطان، ولكن سيادة جلالة السلطان التركي باقٍ فيها».
بعد أن يكون الامتياز للاستيطان قد اخذ من الامبراطورية العثمانية، وكانت الهجرة وبناء البلاد في ذروتهما، يروي جو ليفي اياه بانه استدعي إلى القشطة كي «يستوضح على عجل موضوعاً مهماً مع الحكومة التركية». يشير مثل هذا القول بوضوح إلى أن تلك «السيادة لجلالة السلطان» على اراضي «التنويلند» التي ذكرت من قبل، ليست رسمية صرفة، بل حقيقية.
ولعل الدليل الاوضح على الوجود الملموس للدولة العثمانية في حياة قسم من سكان بلاد إسرائيل الخيالية توفره الشخصية العربية لدى هرتسل إلا وهو البطل المسلم في الرواية، رشيد بيك. رشيد، مهندس عربي من مواليد الجليل، يتحدث التركية كلغته اليومية الاساسية، مثلما يمكن أن نتعرف على ذلك من دافيد ليتبك ـ صديقه اليهودي الصهيوني ومن المناسبات المركزية في حياة الجمهور في الكتاب ـ يتوجه اليه بالتركية عند ظهور رشيد الاول على صفحات الرواية.
مما يعني انه في نظر هرتسل، فان المستقبل الثقافي لابناء البلاد العرب ـ وبالتأكيد المثقفين منهم، مثل رشيد بيك ـ كان ينطوي على مسيرة أتركة. وهذا بالمناسب يشبه رؤيا المثقفين والموظفين الاكثر تنوراً في تركيا العثمانية اللاحقة في عهد هرتسل، والتي مثلما تفيد آخر البحوث في هذا الموضوع، رأوا في الانخراط في الثقافة واللغة التركية السبيل الافضل بالنسبة للجماعات العرقية الإسلامية غير التركية في الشرق الاوسط العثماني.
ومع أن هرتسل لا يصف بالتفصيل صلة الدولة اليهودية الخيالية بتركيا العثمانية، ولكن من شبه المؤكد انه هكذا تصرف لان هذا كان من ناحيته أمراً مسلماً به لدرجة انه غني عن البيان البحث فيه. فقد كان واثقاً من أن تنفيذ تقرير المصير القومي لليهود سيتم في إطار سياسي أعلى لامبراطورية قائمة، هي الامبراطوية التركية.
في هذا الشأن، لم يكن هرتسل مختلفاً عن كثير من زعماء الحركات القومية للشعوب غير اليهودية التي كانت تابعة للامبراطورية الاكبر في نهاية القرن التاسع عشر. وبخاصة اولئك الشعوب التي في جوارهم الفوري وفي محيطهم السياسي القريب في وطنه النمساوي الهنغاري، بل مواقفه القومية الصهيونية. التشيكيون، الكروات، البولنديون، الاوكرانيون، الغليتشيون، الرومانيون، الالبان والسلاف ـ فهم ايضاً تطلعوا، احيانا حتى المراحل المتأخرة من اندلاع الحرب العالمية الاولى، إلى حكم ذاتي قومي اقليمي في داخل الكيان الامبراطوري النمساوي الهنغاري، الذين كانت اوطانهم القومية خاضعة لسيطرته.
هذه التطلعات المتواضعة لما يسمى في العلوم السياسية الراهنة «تقرير مصير دون دولة» لم تنبع من تخوف ما من اغضاب الامبراطورية والكشف عن الرغبة الحقيقية في دولة قومية منفصلة ومستقلة (فالامبراطوريات في ذاك الزمن على أي حال لم تنظر إلى تلك التطلعات كالمتواضعة على الاطلاق). فهذه الشعوب قررت مسبقاً تطلعات واهداف متواضعة، انطلاقاً من القناعة بان الانحلال التام للامبراطورية القائمة لا يحسن بالضرورة للمصالح القومية الحيوية للجماعات القومية الصغيرة.
وفي الوقت نفسه، فان فرضية هرتسل في «التنويلند» بان بلاد إسرائيل المستقبلية ستبقى تابعة للسيادة العثمانية لم تأتِ لارضاء السلطان التركي.
فمن الصعب ان نتخيل انه في روايته سعى إلى تحقيق هذا الهدف وذلك لان وصف بلاد إسرائيل العثمانية في ذاك الزمن كان يمكنه أن يثير حفيظة السلطان فقط وليس العكس.
تفسير اكثر اقناعاً يمكن اعطاؤه لاستمرار صلة «التنويلند» للامبراطورية العثمانية يكمن في حقيقة أساسية تتعلق بشخصية هرتسل التي تنشأ من يومياته أو من «دولة اليهود» و«التنويلند»: بينما كان ثورياً متطرفاً في فهم التجربة الاجتماعية والسياسية المستقبلية للشعب اليهودي، بقي هرتسل ـ مثل كثيرين من بين زعماء الحركات القومية في عصره ـ محافظاً جداً في كل ما يتعلق بالاطر والاشكال السياسية الامبريالية التي كانت قائمة في عهده.
«الجبناء والمترددون وحدهم يمكنهم ان يصدقوا الدمار التام للعالم»، يقول بصوت هرتسل، فريدرخ لفنبرغ، من أبطال «التنويلند» الاوائل في مناجاة انفعالية تشكل بمفاهيم عديدة احدى ذرى الرواية. وهو يضيف: «القديم غير ملزم بان يختفي دفعة واحدة كي يظهر الجديد». وهذا المنطق للتداخل بين القديم والجديد كان ساري المفعول ايضا بالنسبة للوجود المتزامن ـ المرغوب فيه في نظر هرتسل ـ لـ «دولة» التنويلند والامبراطوية العثمانية. واضح أنه لا يمكن أن نستنتج من ذلك بان هرتسل كان سيحزن على انهيار الامبراطورية العثمانية، او ما كان ليسعد في ضوء تحقق تصريح بلفور واقامة دولة إسرائيل.
عشية الحرب العالمية الاولى، بل وفي قسم من أيام الحرب، كان دافيد بن غوريون من المؤيدين المتحمسين لرؤيا الحكم الذاتي اللوائي لبلاد إسرائيل في إطار «دولة القوميات» العثمانية المتساوية، التي لم تقم أبداً (زئيف جابوتنسكي ترك هذه الفكرة قبل بضع سنوات من ذلك). ولكن مع سقوط تركيا، غير بطبيعة الاحوال فكرته بالنسبة للشكل المرغوب فيه لتحقق تقرير المصير القومي اليهودي، وهكذا سيتم غير مرة في سياق حياته السياسية.
لم يطل عمل هرتسل كي يرى التحولات الكبرى التي وقعت في المجال الاوروبي ـ الاسيوي في اثناء القرن العشرين. ولهذا السبب من المفضل ان ندرس ونفهم الفكر دولة الدولة لهرتسل من خلال الربط التاريخي ابن الزمن.
لا معنى لان يستخلص بشكل تعسفي فكرة الدولة القومية المتأخرة لعصرنا نحن حتى وان كان مثل هذا الاستنتاج يمكن أن يكون مريحاً لنا اليوم لهذه الاسباب أو تلك.
يمكن أن نفهم من كل هذا أمرين مهمين: اولًا، كما يجدر بالظاهرة التاريخية السياسية الدينامية، لم تكن الصهيونية ابداً مستعبدة لفكرة واحدة ووحيدة من حيث شكل تقرير المصير القومي. فقد كيفت فكرها (في كل مرة من جديد) في هذا الشأن وفي مواضيع اخرى ايضاً مع الخطاب والواقع السياسي ـ القومي في كل لحظة تاريخية معطاة. ومثلما قال بن غوريون في رده على ملاحظات مندوبي المؤتمر الصهيوني الـ 22 في كانون الأول/ديسمبر 1946، «هكذا فقط» هو «فكر مناهض للصهيونية».
ثانياً، واضح أن القيادات القومية المسيحانية لدولة إسرائيل اليوم، يركلون، لاول مرة في تاريخ الصهيونية، وبغرور اجرامي، ذاك المبدأ المتعلق بالصلة اليقظة والعميقة للواقع السياسي والدولي، والذي بفضل التمسك به حققت الصهيونية اهدافها السياسية.
وبدلاً من ذلك، فانهم يتمسكون بشكل دوغماتي ومتزمت بفكر جامد لتقرير المصير اليهودي، الذي يرفض الحقوق القومية للفلسطينيين ويتعارض جوهرياً مع المبدأ الكوني لحق تقرير المصير القومي. وهكذا ـ وهنا محق البروفيسور أفينري ـ فانهم يعرضون للخطر بشكل جسيم الاساس الوجودي للمشروع الصهيوني.
هآرتس 16/4/2017