"فرحانة" شيخة المجاهدين بسيناء.. 92 عامًا من النضال وكسرت أنف الصهاينة..
ولم تحظ بقرعة "حج"
فرحانه حسين سالم
فرحانه حسين سالم، 92 عامًا هو عمرها الآن، شيخة المجاهدين السيناويات كما يلقبها البدو، من قبيلة الريشات بمنطقة الشيخ زويد، لها من الأبناء 3 و7 من الأحفاد، لم تقبل علي مصريتها أن تعيش راضية بواقعها البدوي البدائي، بين الأغنام والصحراء، في بلاد محاصرة بالفرنجة والغزاة الشقر، انتفضت في نكسة 1967، وقررت تحويل المسار لتصبح المرأة المطلقة البدوية المغلوبة على أمرها بقرار من التقاليد الكسيحة، وتكون هي نفسها المناضلة التي ألحقت العار بـ "آلة الحرب الصهيونية" من خلال النقش على الرمل وجلباب يحوي الكثير من الأسرار.
تجارة الملابس كانت مهنتها، التي ساعدتها في نقل المعلومات، حيث كانت تنقل تلك الملابس للصليب الأحمر في عهد الاحتلال، وهو ما مكنها من التنقل بين ثكنات العدو ومخيماته بـ "بؤجة" تحمل بها بعض الأقمشة التي قررت أن تبتاعها للأعداء.
العادات والتقاليد الكسيحة كانت حجر عثرة أمام المرأة المجاهدة، خاصة بعد انفصالها عن زوجها الذي قرر أن يتزوج بأخرى ويتركها بـ 3 أطفال، لكنها رفضت كل الوصايا وانشغلت بتجارة الملابس التي كانت تدر لها ما يكفي الأبناء، حتى جاء عام النكسة، فقررت أن تنطلق بين صفوف المجاهدين، وتخرج من سيناء متوجه نحو القاهرة، لتبدأ في تلقي أولي التدريبات الخاصة بنقل معلومات عن العدو الصهيوني، وإرسالها للمخابرات المصرية.
تلقت تدريباتها علي يد "عطية سالم"، المجاهد الأشهر، الذي كان يعمل مهندس ري، في عام 1968، وبعد 6 أشهر من التدريبات المكثفة بالقاهرة، عادت المجاهدة لسيناء لتبدأ رحلة النضال.
كثر الحديث، وترددت الشائعات حول المرأة، التي تترك أولادها الصغار لفترات تتعدي الشهرين، ونالت الألسن من شرفها، لكنها لم تلتفت إلا لقضية التحرير.
كفرت بأعراف القبيلة التى حجبتها خلف برقع التقاليد الكسيحة التي حرمت عليها مصافحة الرجال، هربت من أهلها متجهة نحو عشيق أقسمت ألا تفارقه "الوطن"، تركت رعاية صغارها لشقيقتها الأكبر، وأوهمت الجميع أنها تسعي علي لقمة عيشها.. تقول "فرحانة": "كنت بسمع كلام قاسي وصعب، لكن هدفي كان أكبر من أي اتهام، أنا هدفي كان مصر، وكسر أنف الصهاينة، وتوصيل المعلومات للمخابرات".
العجوز التي انحنى ظهرها ورفعت رأس مصر، تقول:"كانت مهمتى اختراق المعسكرات الإسرائيلية، ومعرفة المعلومات، وتصوير الخرائط وتوصيلها لشريف بيه عزت، الضابط بالمخابرات بمكتب حلمية الزيتون، مهمة كانت صعبة لأسباب ياما بس أنا معرفش حاجه اسمها مستحيل، وربنا كان بيعين".
الأمية كانت أحد العقبات التي واجهت المرأة لنقل البيانات، فهي لا تقرأ ولا تكتب، لكنها تغلبت عليها بذكاء، حيث كانت تنقش البيانات والأرقام علي الرمل، ثم تقوم برسمها علي قطع من القماش بخيوط، وبعدها تقوم بوصلها بجلبابها البدوى، وساعدها فى ذلك طبيعة الزى السيناوي الذي تميز بكثرة ألوانه وزرقشاته.
الطريق من سيناء للقاهرة كان وعرًا، والتجول بالصحراء يحتاج دليلًا، فكانت "فرحانة" هي عين المخابرات، ودليل ضباطها، حيث كانت تستدل علي طريقها بالنجوم والأفلاك.
استطاعت الحصول علي خريطة مطار "الدورة" الذي خطط لبنائه اليهود، وقدمتها للمخابرات، وكانت من أكبر العمليات الاستخباراتية التي سطرتها مصر ضد الصهاينة.
"كنت أمشي بالعشر ساعات في الصحراء فى نقرة الأيالة عشان أتنقل من معسكر لمعسكر بـ "بؤجة قماش"، ومع كل قرية أو بلد اتخفي بلبسها وبلهجتها حتى لا يعرفني أحد" –حسبما روت الجدة المجاهدة.
كما أنها تمكنت من تصوير أحد أهم القواعد الإسرائيلية في كامب ياميت، وكانت من المهام الصعبة، حيث كانت المرأة الوحيدة التي استطاعت دخول القاعدة.
افتضح أمرها ووشي بها الواشون، وعلمت القوات الإسرائيلية بنشاطها، وتم القبض عليها، واحتجازها بمكتب مُظلم، وعرض عليها الضابط الإسرائيلي عرضًا مغريًا، تقول عنه "قالي ليكي 100 طلب مجاب مقابل معلومة واحدة عن مكان عطية سالم قائد المجموعة، وقتها قدرت أفهمهم بشطارتي إنى عبيطة، لا ليا في الطور ولا الطحين، ولو كانوا حطوا سيوف علي رقبتى ما كنت هنطق بحرف".
"امرأة مسنة لا تكتب ولا تقرأ، لكن هدفها كان أسمي، عقلها المتهم بالسطحية والجهل والبربرية في نظر البعض، استطاع أن يجبر الحكماء على الإنحناء احتراما لها" هكذا يحكي عنها أحفادها.
(عبدالمنعم 52 عامًا) مدرب تنمية بشرية، الابن الأوسط للحاجة فرحانة، يحكى أحد المواقف التي سجلت ذكاء أمه الشديد.. "كنت صغيرًا في الثالثة من عمري، وكنت أجلس بجوار أمى، وهى تحيك قطع القماش المنقوش عليها المعلومات في أطراف ثوبها، وفي الصباح حملتني أمي علي كتفها للذهاب لقرية مجاورة لتبيع هناك بضاعتها، وأثناء السير تعرضنا لكمين يهودي، وقامت فتاة إسرائيلية بتفتيش أمى، ولم تجد معها شيئًا، وقمت أنا ببراءة بإرشاد المجندة، وأشرت بإصبعي على طرف جلباب أمي".
ويتابع الابن بفخر: "شوفي بقا ذكاء البدوية العاقلة وسرعة البديهة، بسرعة أمى قرصتنى قرصة موت وفضلت أصرخ وأعيط، وهي تقول الأكل جاي.. جاي خلاص ماشين يا ولدي، وطبعًا المفتشة نسيت الموضوع ومرينا بسلام".
"لم نكن نعرف ما تفعله أمنا من بطولات، فهي كانت تغيب عنا لشهور، ثم تعود وتقول، إنها كانت تشتري قماشًا وتسافر لبيعه في سيناء لكي توفر لنا المصاريف" – قالها عبدالمنعم، مشيرًا إلي أنه لم يعلم بنبأ العمليات الفدائية التي قدمتها من 1968، وحتى 1973، إلا من خلال الأخبار التي تناقلتها الصحف العربية، بعد حرب أكتوبر.
"أمي لم تتركنا كما كان يردد الجيران، ولما تسلك الطريق الخطأ أمي ضحت بأبنائها، وتركتهم من من أجل تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي"- قالها الابن الأوسط بفخر، مؤكدًا، أن الحاجة فرحة لم تشملها قوائم القرعة لحجيج هذا العام أو أي عام مضي، رغم ما قامت به من بطولات كما لم يذكرها أي تكريم معنوي.
أما شيخة المجاهدين، فلم تنتظر أية تكريمات، فهي تجلس في حجرتها الخاصة، حياة بسيطة، قضت أكثر من نصفها فى نضال ضد آلة الحرب الصهيونية، تربت في مدرسة النضال والتضحيات، لذا لم تنتظر المقابل، وطلبت من ابنها أن ينقلها لمؤسسة "حياة" حيث فوجئ الابن بأمه، وهى تخلع خاتمها الذهبي تتبرع به لبناء مستشفي "حياة " للأورام بسيناء.
"لسنا مجرد حفنة من البدو الرحل، أو راعيات أغنام، لم نرض أن نعيش غجريات كما نحن فى نظر البعض، كنا مجاهدات وعيشناها بشرف ونافسنا الرجال" –لسان حال العجوز التي أعلنتها بصوت متهدج مبحوح "أنا انتصرت على العادات وعلي اليهود".
وعلي ما يبدو، أنه في الوقت الذي انهمكت وزارة التضامن بعقد المسابقات الفنية لأفضل مسلسل رمضاني، وصرف المعاشات المتأخرة، والتحقيق فى قضايا انتهاك دور الأيتام، سقط اسم الحاجة "فرحانة حسين سالم"، من قوائم القرعة للحجيج وقوائم المعاشات الاستثنائية، لتبقي المسنة التى قاربت علي المائة عام تجلس راضية مرضية علي سجادتها تحكي لأحفادها السبع بطولات الزمن الجميل وتاريخ طويل، يشهد بأن البدو بعيدون كل البعد عن وصمة الخيانة التي تلاحقهم من حين لآخر.