أحلام الزميل الإيراني
منذ فترة طويلة وأنا أعجب لمفارقة غريبة في تاريخ الإسلام، فالعرب سيطروا على شمال إفريقيا بصعوبة وخلال فترة طويلة، ولكن لم تأتِ منه إلى مركز الخلافة فتنة واحدة كتلك الفتن المدمرة التي جاءته من إيران التي سيطروا عليها في فترة قياسية لا تزيد كثيراً عن تسع سنوات!
وكنت أُرجع ذلك لطبيعة الشخصية الثقافية الإيرانية، وهي شخصية ذات جذور ممتدة عبر التاريخ، وتحمل على أكتافها تراثاً موغلاً في القدم، وهي في المجمل لم تتغير عبر التاريخ إلا تغيرات قليلة أو طفيفة أو سطحية أو هامشية، إن شئتَ التعبير.
وأغلب ما تقدمه حتى الآن، حتى لو كان مصبوغاً بصبغة إسلامية، تعود جذوره في الغالب لفترة ما قبل الإسلام لديهم، ولديَّ انطباع أن الشخصية الإيرانية ربما لهذا تعيش نوعاً من الاغتراب الفلسفي عن محيطها المعاصر.
قبل ذلك كنت أظن أننا كمصريين ربما نكون الشعب الوحيد الذي يعيش حالة حزن حضاري وغربة فكرية لا تجعلنا نعرف إن كنا أقباطاً أسلموا أم عرباً تمصَّروا أم ماذا؟ حتى تعرفت على كل هؤلاء الإيرانيين وراقبتهم عن قرب، فوجدت أن لديهم إحساساً أكثر حدة بالانتكاسات الإيرانية عبر التاريخ حتى في فترة ما قبل الإسلام، وفهمت أنهم لا يخاصمون تاريخهم أبداً، ويرون أنهم لم يحققوا طوال تاريخهم الحلم الحقيقي الذي راودهم ويرون أنهم جديرون بتحقيقه وهو إقامة إمبراطورية إيرانية عالمية.
ومصدر حزنهم الجمعي هذا أنهم كلما حاولوا تحقيق هذا الحلم تتكالب عليهم العوامل المفسدة التي تمنعهم من تحقيقه.
وفي هذا السياق يمكن لو أردت أن تفهم بشكل أفضل إذا اعتبرت كراهيتهم للعرب، واغتيال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي دمر إمبراطوريتهم الأخيرة، واحتلال الأحواز العربية أيام الشاه، وما تفعله إيران منذ الثورة الإسلامية وحتى الآن مثل حلقات في سلسلة!
إذا فهمت هذا كله وكأنه مراحل متتالية في خطة واحدة ثابتة ومستقرة رغم اختلاف العصور والحكام ثم عدت لدراسة كل مرحلة على حدة ستراها ولا ريب بشكل آخر مختلف.
وأذكر أن أحد أقرب هؤلاء المعارف الإيرانيين كان زميلاً لي يكتب الدكتوراه في الدراسات الإيرانية في ألمانيا، وكنت أراه بشكل شبه يومي لمدة عامين طويلين، وكنا نتحدث كثيراً عن الثقافة الإيرانية والعربية، ومنه فهمت أشياء كثيرة بعضها طريف مثل ألوان العمائم في إيران والفرق بينها، ورفض علماء الدين الشيعة لأساتذة الجامعة مثل علي شريعتي واعتبارهم علمانيين.
ولكن كان بعضها الآخر خطيراً مثل: نظرية الإمامة وولاية الفقيه، والمراجع التسعة الذين يحق لهم الفتوى، ثم هذا السعي الدائب الذي لا يكل لتحقيق الإمبراطورية الإيرانية أو ما يسمونه بدولة العدل الإلهي التي يرون أنها ستظلل العالم كله قبل يوم القيامة ويحكمها الإمام المنتظر.
وأذكر أن هذا الزميل لم يدعني لمنزله إلا مرتين، ولسببين لا يتصلان بالصداقة التي كنت أظنها.
وفي أي من الزيارتين لم أرَ زوجته التي كانت تبقى في حجرة مجاورة، وفقط رأيت ابنته الصغيرة التي كانت في الثامنة من عمرها، وكانت تتقن الألمانية أفضل منّي ومن أبيها.
وأذكر مرة أنها انتهزت فرصة ذهاب أبيها إلى المطبخ وجاءت بهدوء وجلست أمامي، وقالت لي بعمق وهدوء غريب: كيف حالك اليوم يا سيدي؟ فابتسمت وقلت لها: كما ترين يا سيدتي. فقالت بالهدوء نفسه: "ولكن هذه ليست إجابة سيدي. أريد أن أعرف هل مزاجك اليوم رائق أم عكر؟ وهل.." وقبل أن تكمل أو أجيب أنا حضر والدها ونظر لها نظرة زاجرة فانصرفت بالهدوء نفسه ودون أن تفقد اتزانها!
والحقيقة وجدت شبهاً كبيراً بين طريقة البنت وطريقة أبيها؛ بل وطريقة أغلب الإيرانيين الذين عرفتهم، حتى بائع السجاد في الشارع المجاور هنا في بروكسل! وظننت أن هذه هي الطريقة الإيرانية في التعاطي مع الآخرين، هدوء يشبه الجليطة التي قد تصل لدرجة التعالي أو هكذا كنت أظن أحياناً.
وفي هذا اليوم قال لي وكأنه يشكو من تعليم ابنته: إن التعليم في إيران أفضل بمراحل من ألمانيا، الظريف أنني كنت أسجل هذه الحوارات بشكل يومي، وأخاف الآن من العودة إليها؛ لأنني عندما أنظر لما تفعله إيران الآن أجد أنهم -رغم الظروف العالمية المناوئة - حققوا خطوات كبيرة في طريق حلمهم بالإمبراطورية العالمية، فما بالك عندما تختفي هذه الظروف المناوئة وتحصل على مباركة الدول الكبرى لخطواتها المتتالية!