الألقـــــــاب .. البحث عن مكانة اجتماعية
هناك ألقاب نتوارثها ، وألقاب نسعى للحصول عليها ، وألقاب تلصق بنا بغير إرادتنا ؛ إلا اننا لا نستحبها ولانسعى إليها ، وهناك ألقاب تفرض علينا اجتماعياً ، ونقبلها على مضض ، أو نرفضها باستحياء ، في حياة الشباب يطلق الفتيان ألقاب مرحة على زملائهم أحياناً تلتصق بهم إلى آخر يوم من أعمارهم ، أو يسبغ الفتيان الألقاب الناعمة والرومانسية على بعض الفتيات،
وهناك الألقاب الاجتماعية المحصورة بفئة معينة من الناس توارثتها عبر أجيال وأجيال بحكم التراتبية الطبقية أو التراتبية الدينية .
وفي العصر الحديث أضيفت الألقاب العلمية ، وتلك الألقاب يحملها صاحب العلم بعد كد وجهد وعمل دؤوب ، واليوم في عصر الوفرة الاقتصادية ومن ثمَ تنامي النشاطات البدنية وغيرها ودخولها إلى عالم المال من أوسع أبواب شِباك الأهداف الكروية على سبيل المثال ، أو من أكثر مبيعات الأغاني ، أو الأفلام السينمائية العالمية وأحياناً العربية وسماعنا عن تلك الأرباح ؛ كل ما سبق استدعى من الإعلام المرئي والمكتوب استحداث ألقاب تساير وتوازي تلك النجاحات ؛ للفنانين والفنانات ألقاب ، للرياضيين والمطربين والراقصات ألقاب .
أما السياسيين على مدى الزمان فهؤلاء لهم قصص وروايات مع الألقاب بحيث لم تخلُ فترة زمنية ما من تجاهلهم أو ابتعادهم عن أضواء الألقاب كالشعراء والأدباء والموسيقيين والتشكيليين ، ففي التاريخ العربي ألقاب للعديد من الشعراء كالملك الضليل (أمرؤ القيس) ورهين المحبسين (أبو العلاء المعري) ، وفي مطلع القرن العشرين أمير الشعراء(أحمد شوقي) وشاعر القطرين(خليل مطران) وفي منتصف القرن أبو الفرات(محمد مهدي الجواهري) والأخطل الصغير(بشارة الخوري) وعميد الأدب العربي(طه حسين)وشاعر الحب والمرأة(نزار قباني) وشعراء الأرض المحتلة (محمود درويش ، سميح القاسم ،توفيق زيّاد) وشاعر الشباب(أحمد رامي) وعرار(مصطفى وهبة التل) .
ومنذ ستينات القرن العشرين إلى يومنا هذا من النادر أن نسمع عن لقب معين لشاعر عرفناه وأحببناه وهم كثر كأمل دنقل وبدر شاكر السياب وغيرهما ، بل إن أصحاب الصوت الصحفي الفاقع اتجهوا كالصاعقة نحو أرباب الشهرة الأخرى السريعة والمتوالية بحثاً عن وجوه تأتي وتغيب سريعاً وسط كمٍ من الإنتاج لم يعد يجاريه حتى مُحبي هذا النوع من الفنون .
الإنسان بطبعه يحتاج إلى حافز وأحياناً تكون الصفة الجيدة واللقب المحبب بخاصة لتلاميذ المدارس أو المتدربين على بعض الهوايات الفنية داعماً نفسياً واجتماعياً ، أما إطلاق الألقاب جُزافاً وبلا تقدير لمعنى اللقب كإطلاق الألقاب العلمية على من هب ودب ( دكتور ، مهندس وغيرها) والرياضية (كابتن) . أو إطلاق الألقاب التي تشبه الإعلانات أفضل أُم، أحسن لاعب، أشطر طبيب، أحلى ممثل، أجمل ممثلة، أقوى مطربة تعطي انطباع سوء التقييم المبني على الجهل بالأشياء ، وأحادية النظرة ، والمجاملة الزائفة في بعض الأحوال .
بداية ظهور الألقاب
في العالم القديم تعرفنا على ألقاب الحكام في حضارتي مصر ووادي الرافدين،وارتبطت الألقاب بعلاقة الحاكم بالآلهة حامية المدن والبلاد فكان لقب الملك حامي أور إله مدينة بابل ، أما في القصر والمعبد والمدينة تمتع الكتاب (كاتب الملك،أو كاتب أي تنظيم إداري بمكانة اجتماعية رفيعة وكان لقب كاتب يعد لقباً اجتماعياً مرموقاً ، وكان كاتب القصر بالغ الثراء).
وقد اشتهرت حكمة(الكتبة المتفوقون مضيئون كالشمس)، وفي مصر بعد توحيد شمالها وجنوبها على يد الملك مينا ( موحد القطرين) أو حور الذهبي المنتصر على الشر ، أو الفرعون ثم بدأت الألقاب ترتبط بالآلهة مسبوقة بكلمة(رع) ، أما الملكات فكانت ألقابهن (أم الملك ، عظيمة المديح ، سيدة الكون ، وكان لقب الملكة نفرتاري زوجة رعمسيس الثاني إبنة حور) ، بينما اختلفت ألقاب سيدات كبار رجال الدولة إذ اتخذت ألقاب واقعية مثل(سديدة الرأي أو المشورة ، سيدة رعاياها ، سيدة السيدات ) وأظن أن بعض تلك الألقاب لازالت تطلق في المناطق الشعبية على بعض السيدات إلى اليوم(ست الستات).
أما العرب في اليمن فكانوا يغدقون على ملوكهم شتى الصفات النبيلة والتي تحمل طابع السعد لأنهم اهتموا كثيراً بفكرة الطالع الحسن والحظ ، بينما في شبه الجزيرة العربية لم يعرف العرب سوى لقب شيخ القبيلة وهذا اللقب كان حصرياً لكبير القوم صاحب المكانة والوقار والحكمة ؛ لكن بعد أن نمت المدن التجارية الصغيرة في مكة والمدينة تحوّل لقب الشيخ بالذات لدى القبائل ذات النفوذ التجاري إلى لقب الشريف وأصبح اللقب فيما بعد يورث للأبناء والأحفاد وأخص أشراف مكة .
وفي الهند كان رجال الدين هم أصحاب السلطان الفعلي للأرض الزراعية وغيرها من الموارد ؛ فأطلق لقب البراهمية المقدس عليهم ، والساموراي في اليابان ، وفي أثينا الإغريق تشكلت البذرة الأولى للطبقة الأرستقراطية وتعني حسب أرسطو وأفلاطون حكم أفضل المواطنين لجميع الشعب " في ظل ديموقراطية أثينا الوليدة " وحكم الأفضلية أطلق كلقب على حكام تلك الفترة وهو الأرستقراطية المساوي للشرف ؛ لكن مع بوادر ترهل المنظومة الحاكمة في أثينا علا صوت أفلاطون قائلاً:" إذا انحرفت الأرستقراطية وتحوّل أبناؤها إلى إيثار الثروة على الشرف تحوّلت إلى الأوليغارشية أي(حكم القلة) المساوي للفساد .
أما في إسبارطة فقد نشأت العسكرية الإقطاعية وتحولت الألقاب إلى معانٍ مرتبطة بفكرة النصر والقوة والسيطرة العنيفة . استمرت تلك الحالة مع بزوغ الامبراطورية الرومانية والتي أسست بحق نظام الألقاب بشقيه المدني والعسكري وعن ذلك النظام أخذت الممالك الأوروبية الوليدة في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وروسيا تلك الألقاب مع بعض التعديلات الطفيفة ، الملوك يحظون بالجلالة ورجال الدين بالنيافة والقداسة ، وهناك طبقة النبلاء ولقب النبيل والفارس النبيل واستحدث الجرمان لقب بارون وأدخلوه إلى بعض أراضي أوروبا أثناء غزواتهم ، وقد عرفت فرنسا الكثير من الألقاب إن في عهد الملكية أو الامبراطورية ولازالت بعض اللغات الأوروبية كالفرنسية والروسية تحمل خطابين الأول بصيغة التفخيم والثاني بصيغة الخطاب الفردي كما كان الحال مع اللغة التركية أثناء وجود العثمانيين في الحكم .
وكان لدى الألمان ألقاب كدوقات الامبراطورية المقدسة والكونتات والمرغريفات أما في بريطانيا فإن أهم الألقاب هو الدوق والدوقة وفي المرتبة الثانية الماركيز أما الثالثة الكونت ويظل لقب البارون أدنى مراتب الالقاب باعتباره لقب وافد وتشترك إسبانيا مع بريطانيا في الكثير من الألقاب .
تأثر المنطقة العربية بالألقاب
في العهد الراشدي لقب الحاكم بالخليفة ، وبعد وصول ومعاوية بن أبي سفيان إلى الحكم أسبغ على نفسه لقب أمير المؤمنين بحكم انتمائه للأرستقراطية العربية ، واحتكاكه بممالك عصره أما قائد العسكر فلقب بأمير الجيش . ظل الأمر على هذا الحال حتى حظي العباسيون بالسلطة وبدأوا بتلقيب كل أمير بصفة يختارها هو كالرشيد وهكذا ؛ لكن عمال الخليفة في الأمصار لم يحملوا ألقاب سوى الوالي ؛ إلى أن أتى يوم تمدد فيه نفوذ السلاجقة ففرض ملك شاه أحد قادتهم على الخليفة أن يلقبه بالسلطان ، ومنذ ذلك اليوم شاعت الألقاب في جسم الدولة الإسلامية بلا حساب ، واستخدمت كل الصفات الدينية وبالذات أسماء الله الحُسنى على الحكام الأيوبيين ومن بعدهم المماليك (الأشرف ، الظافر ، الجليل ، الكامل، الأوحد، المظفر، المعز، الغالب،القاهر ...).
إلى مجيء العثمانيين الذين استخدموا الألقاب بإسراف شديد لعهود وكانت ألقابهم طويلة الجمل وكثيرة العدد للفرد الواحد فالسلطان هو الباب العالي وسلطان البرين والبحرين وحامي الحرمين الشريفين ، والصدر الأعظم ، وهناك الدفتر دار والشاويش باشا ، أما لقب أفندي فهو السيد باللغة اليونانية وهو من ألقاب الشرف والتعظيم وقد أخذها الأتراك عن البيزنطيين وأطلقت فقط على أبناء السلطان وحاشيته من الذكور وانتقلت إلى مصر وأصبحت حكراً لقب الخديوي .
أما أصحاب الحظوة والموظفين الكبار فقد اطلق عليهم لقبي باشا وبك وفي بعض المناطق آغا وانتقلت كل تلك الألقاب إلى المجتمعات العربية ، بينما أطلق المماليك لقب خاتون على المرأة صاحبة الحظوة ؛ استبدلها العثمانيون بلقب خانم وخففه المصريون بلفظ هانم . واليوم ما زالت بعض المجتمعات تشدد على الألقاب وتتمسك بها ،وهناك مجتمعات ألغتها قانونياً ؛ لكنها تخاطب اصحاب المناصب بذات الألقاب التي ألغتها ، بينما هناك مجتمعات تتندر على الألقاب ولم تعد تستخدمها على الإطلاق .