آلام ألبانية
قال الرئيس الألباني السابق ألفريد مُوِيسِيُو، أثناء قراءته لورقة كتب عليها خطابه، عام 2005: "ليس الإسلام ديناً أصيلاً في ألبانيا، بل لقد تم جلبه إلى بلدنا عن طريق جيوش العثمانيين.. وليس صحيحاً أن المسلمين يشكِّلون أغلبية السكان في ألبانيا".
هذه الكلمات لطالما استحضرتني أثناء تجوالي بدول البلقان المختلفة، وخاصة عند مشاهدة المآذن والقباب التي صممت على الطراز العثماني، وقد استحضرتها بعد أن توجهت صوب الجنوب من مقدونيا باتجاه ألبانيا فقد كانت جولتي بدولة مقدونيا مثيرة حفرت مكاناً لها بقلبي وذاكرتي، واستقرت به، وتأبى أن تغادره لتفسح المجال لغيرها، تلك روايتي الجميلة الباسمة في مقدونيا كم تمنيت أن تبقى بمكانها لتزهر وتنمو، ولعل ثبات الحال من المحال، وتحديداً في بلدان البلقان الرائعة، فزيارتي لألبانيا زعزعت الاستقرار الذي أوده وتمنيت أن يستمر ويستقر.
فور دخولي لألبانيا وعبر الحدود المقدونية - الألبانية تبدلت التضاريس وظهرت المتاريس، وأي متاريس تلك.. إنها لا تزال تقبع في مكانها شاهدة على حقبة مظلمة وآلام أصابت هذا البلد، لم يؤذها تبدل الأحوال، فتلك المتاريس كانت مخصصة لمراقبة الناس ومراقبة تحركاتهم وأحوالهم بل وأفكارهم قدر المستطاع، لا بل انتصبت بالقرب من المتاريس محطات بث إلكترونية تقوم بالتشويش وقطع أي اتصال غير مصرح به، من قِبَل الحاكم الأوحد صاحب المعزوفة الفريدة والوحيدة، لا مكان لغير ما ينطقه ويردده أنور خوجة، الحاكم الأوحد لألبانيا الشيوعية.
- مهلاً ورفقاً بي وبقلبي.. فقد أخبرتني الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" أن ألبانيا دولة ديمقراطية يمتلك الفرد بها كماً لا بأس به من الحريات.
- عذراً إخالني أنني أخطأت الفهم وربما القراءة أيضاً.
لقد رأيت بلداً تطغى عليه الشيوعية أو ما شابه، يعيش في حقبة قديمة وعقوداً من الماضي، فالبِنى التحتية شبه معدومة ومن الصعب إيجاد طرق سريعة وسلسة بهذا البلد "الديمقراطي" فما زال النظام الشيوعي الشمولي "البائد" يملك حصة لا بأس بها من المنظر العام لألبانيا.
وعلى فرض أن الفئة الأكبر من الشعب الألباني مسلمة، فمن الطبيعي أن تجد المساجد في أحياء العاصمة وبين مدن وقرى هذا البلد، لا أدعي أن المساجد غير موجودة إلا أنها قليلة، وأحياناً لن تجدها إلا بصعوبة، تماماً كالطابع الإسلامي الألباني في العاصمة تيرانا؛ إنه معدوم أو يكاد، فوسط العاصمة يمر بأعمال صيانة وترميم وطبعاً أستثني من هذا الترميم مسجد أدهم بيه من القرن الثامن عشر، المسجد الجميل ذا اللوحات الفنية المرسومة على جدرانه الداخلية بما يشبه الكنائس؛ أعيد افتتاحه عام 1991 بعد إغلاق لعقود على يد السلطات الشيوعية.
ستجد في شوارع العاصمة وضواحيها الكثير من الناس الذين تم إقناعهم بالقوة والنار أن ثقافتهم غربية بحتة، ولا علاقة لهم بما عرفوه من قبل الآباء والأجداد، أجبروا على تبني ثقافة أخرى، والتنصل من الثقافة المتوارثة منذ قرون.
إنها ألبانيا التي لم تعانِ الحروب والقتال كجارتها المقدونية أو كتلك في البوسنة والهرسك، إنها ألبانيا التي سلب قرارها شخص بمفرده وجعلها أفقر البلدان وأكثرها تخلفاً، إنه أنور خوجة الذي أصاب ألبانيا، نبع الخير، بمقتل بعد أن أعلن حربه على الأديان، وأي أديان؟ إنها حرب على الإسلام، وأي إسلام إنها حرب ضد ثقافة الألبان وتاريخهم المشرف.
لقد أبقى حكام ألبانيا السابقون وراءهم حملاً ثقيلاً تنوء به الجبال، فعلى مدار عقود دارت حرب ضد العقول والنفوس، فأي ديمقراطية وحرية ستضمد هذه الجراح؟ وأي حريات ستعيد الفخر والاعتزاز لهذا الشعب بعد سنين الظلام والانكسار؟
ألبانيا اليوم تبحث وتتحسس طريقها، فالحروب الثقافية التي تعرضت لها لم تجعلها غربية الثقافة، ولم تبقها بثقافتها الألبانية الأصيلة، وجعلت منها بلداً ما زال يبحث عن ذاته وهويته التي حاول الشيوعيون أن يطمسوها عبر حربهم ضد المآذن ومساجد ألبانيا.
المساجد والقباب هي جزء من الثقافة الألبانية، إنها جزء أصيل لا أجد سبباً للتحسس منه، فالدين الإسلامي عماد رئيسي بالثقافة الألبانية، ولن يكون هناك نهوض ونفض لغبار الماضي إلا بالاعتراف بأن الماضي وإجبار الألبان على تبني ثقافة غير ثقافتهم كان سبباً للتخلف والفقر الذي ساد ألبانيا، وما زال يلقي بظلاله على هذا البلد البائس.
بكل الأحوال انطلقت شمالاً خارج العاصمة تيرانا مستكملاً ترحالي بألبانيا الجميلة لأجد نفسي أمام مسجد على ربوة تطل على البحر الأدرياتيكي في منظر لأجمل اللوحات الفنية، وفور اقترابي من المسجد وإذا بحجر مسطح ملتصق بجدار المسجد نقش عليه أن هذا المسجد رُمم وأعيد افتتاحه عام 2005 على نفقة الدولة التركية.
لمن الغلبة.. لحبر على ورق قرأه الرئيس السابق لألبانيا أمام مندوبي الاتحاد الأوروبي أم لنقش عثماني يشهد على الأصالة الألبانية وجذورها الثقافية؟