السفارة في المدينة: القدس أم أورشليم؟ إنها قسمة ضيزى
محمود الصباغ
مازال معظمنا يذكر ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي الاسبق إسحق رابين ,عشية توقيعه على اتفاق "غزة-أريحا أولا" في واشنطن في العام 1993 ,إن "على ياسر عرفات أن ينسى موضوع القدس نهائيا ... فهي ستبقى موحدة تحت السيطرة إسرائيل و عاصمتنا إلى الأبد ".وبعد ذلك زاد شارون في الطنبور نغما حين استمع أثناء زيارته لواشنطن إلى الشرح الذي قدمه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، عن السياج الذي أقامته أمريكا على حدودها مع المكسيكي ويقارن ذلك بما تقوم به إسرائيل من بناء الجدار العازل في الضفة، فكان جوابه الساخر الذي يكاد يكون قاتلا" لو كان جيراننا من المكسيكيين، إذن لما أقمنا مثل هذا السور".
يقوم الخطاب الصهيوني المتجه نحو الآخر بأن أي حل للمسألة الفلسطينية-والقدس من صلبها بطبيعة الحال - لن يكون سوى الحل الذي تفرضه إسرائيل على الأرض من خلال القوة و القوة فقط ,وهذا يقابله خطاب فلسطيني رسمي ضعيف بقدر ما هو مرتبك ، فاتخاذ أي قرار بالنسبة للسلطة يعني لها بالدرجة الأولى الحفاظ على الذات ضمن هامش تسيطر عليه فعليا إسرائيل و تسيره كما تشاء و ترغب,و هي-أي إسرائيل- لا يساورها شك في أن الدول الحليفة و الصديقة لها ستتفهم أي قرار تتخذه إسرائيل كما حدث في حروبها على غزة و كما حدث في ضم الحرم الإبراهيمي لقائمة التراث الوطني اليهودي و كما يحدث و سيحدث في استكمال استيطان الأرض الفلسطينية كلها-سواء في القدس أم في الضفة المحتلة- بما يؤكد على المستوى الإسرائيلي بأن قوة إسرائيل لا تكمن فقط في القدرة "الدفاعية" الرادعة بل أيضا بما يبرر ارتباط الإسرائيليين في الأرض, و استمرار الطبقة السياسية الحاكمة الإسرائيليةالصهيونية المدعومة بالآلة العسكرية الفعالة وضع المستوطنين على فوهة المدفع لمواجهة الفلسطينيين, و أن مقتل مستوطن هنا و طعن آخر هناك له ما يبرره في حساب التكاليف الذي يتطلب أحيانا اهراق الدم الاسرائيلي " المقدس" .وسواء تعلق الأمر بالقدس أم بفلسطين فالموقف الإسرائيلي لا يخرج عموما عن الإطار الذي رسمه بن غوريون في لقاء له مع صحيفة يابانية في حزيران 1967 من أن "إسرائيل ستنسحب من شبه جزيرة سيناء بعد توقيع سلام مع مصر، والأمر ذاته سيحدث مع سوريا، أما في الضفة الغربية فسوف تقام دولة تتمتع بحكم ذاتي برعاية الأمم المتحدة - لكننا سنحتفظ بالقدس إلى الأبد - على الرغم من جميع القرارات التي ستتخذها الأمم المتحدة، فالقدس كانت عاصمة لإسرائيل على امتداد ثلاثة آلاف سنة وستبقى كذلك في المستقبل". ولذلك يقال في إسرائيل أن" الكفاح من أجل انتزاع فلسطين كان في جوهره كفاحا (جابوتينسكيا) ,لأن جابوتنسكي هو أفضل تعبير عن الصهيونية كحركة سياسية , وهو يعتبر من هذه الناحية رمزا معيارا عقائديا يجذب إليه بشكل فطري قدرا كبيرا من الميول الكامنة للصهيونية" . . وحيث أن السيطرة على الأرض هو جوهر الممارسة الاستعمارية الاستيطانية للصهيونية ،فقد تم معالجة الأمر بمقتضاه أي "الحفاظ على نقاء الأرض" ,بمعنى "إخراج العرب الفلسطينيين و توطينهم من جديد في البلاد التي يقال أن أسلافهم هاجروا منها الى فلسطين قبل قرون .و هذا بدوره يفسر المحاولات الصهيونية الحثيثة لخلق علاقة تاريخية بين يهود العالم وفلسطين بتبني أجندة "قومية" أحد ركائزها يقوم على تحويل التوراة من كتاب ديني إلى كتاب تاريخي ذو بعد سياسي يشرعن استعمار الأرض ويستغل النصوص لدينية و أساطير ورموزها للتشبث ولو وهما بأي أساس يعتقد أو يراد له أن يكون تاريخي يثبت أن هذه الارض كانت للعبرانيين واليهود , ولذلك واظب السلوك السياسي الصهيوني و من بعده الإسرائيلي في فلسطين على الممارسة المباشرة للوصول إلى أغلبية يهودية ستمهد بدورها في نهاية المطاف لاختفاء الفلسطينيين من الوجود ,فتطهير الأرض من الفلسطينيين هو معجزة بل" إنه التبسيط المعجز لمهمة إسرائيل" على حد قول حاييم وايزمان . غير أن ذلك أمر دونه خرط القتاد وقد لاحظ جابوتنسكي ذلك منذ بداية المشروع الصهيوني حين أقر بأن "إيجاد أغلبية يهودية في فلسطين لا بد أن يتم ضد رغبات الأغلبية العربية الموجودة حاليا في البلاد و لا بد من وجود جدار حديدي ,من القوات اليهودية المسلحة لحماية عملية تحقيق وجود الأغلبية اليهودية ".ولهذا, ومن أجل استكمال استعمار الأرض وتكوين أغلبية "إثنية يهودية" قامت الحركة الصهيونية بالاتكاء على نسق سياسي يقتات من الجو العام الذي كان سائدا في أوروبا بما يخالف بطريقة ما،الأنساق السياسية للجاليات اليهودية المنتشرة في أنحاء العالم حيث يسعى اليهود في أماكن عيشهم في بلدانهم للاندماج في تلك المجتمعات وفرض واقع جديد يعمد إلى تغيير الكثير من الجوانب و المظاهر الملازمة لليهودي كما عرفتها أوروبا حتى النصف الثاني من القرن العشرين .ولذلك توجهت الصهيونية نحو خلق علاقة تاريخية بين الجاليات اليهودية في العالم و فلسطين عن طريق الاستفادة من النص التوراتي و تكريسه كنص تاريخي شمولي خطي غير قابل للعكس يضمن ارتباط اليهودي بهذه الارض بوصفها أرض وعد مستمر إلهي للعبرانيين القدماء ومن بعدهم اليهود الحاليين –كورثة و أحفاد العبرانيين- ,فكان الإصرار الصهيوني إعادة رمزية الوطن اليهودي الذي يتجسد " في الأسس الرمزية للأمة الإسرائيلية (ولهذا) فإن إعادة كتابة الخارطة القومية في العبرية كان أكثر من مجرد عمل نسخ وترجمة. لقد كان بناء الخارطة القومية يعني كتابة نص عبري أكثر من كونه استخدام نص عبري موجود. وبهذا المعنى، فإن الخريطة العبرية كانت النص الأولي للتجديد الصهيوني. وأهميته في هذا السياق كانت في دمج لغة المشهد المكاني في فضاء الثقافة العبرية الناشئة ودمج الإيديولوجية الصهيونية في الممارسات المكانية في الحياة اليومية .وقد أبرزت عبرنة المشهد المكاني بوصفه جانبا من جوانب تشكيل الدولة رمزية إعادة الاستيلاء على الوطن اليهودي في الإطار العام للاستقلال القومي كما أكدت الخارطة العبرية القومية باعتبارها نصا رسميا على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل باعتبارها دمجا للجوانب الثقافية الإقليمية للسيادة الإسرائيلية .فعمدت الصهيونية -أثناء سعيها لإنجاز مشروعها القومي-إلى مصادرة الحاضر فضلا عن الاستيلاء على الماضي من خلال نفي " وعي النفي اليهودي" عن الجماعات اليهودية الأوروبية في صهينة هذه الجماعات ، وأسرلتها تاليا وذلك في فضاء يعج بأفكار ولغة و مفاهيم استشراقيه عن فلسطين ركزت على وحدة وأصالة اليهودي الأوروبي الذي لن تكتمل يهوديته إلا بالهجرة إلى" فلسطين /إسرائيل ".وليس صعبا الاستدلال ,هنا, على حقيقة رجعية الأفكار الصهيونية و ما تمثلها فواقع الأمر عالميا يبرهن أنه على الرغم من أن الصفات الإثنية للناس هي صفات حقيقية و واقع الانتماء الإثني هو واقع حقيقي وهو أكثر وضوحا في عالمنا المعاصر بسبب الصراعات التي تتولد عنه منه فإنه مع ذلك لا توجد صفة واحدة ووحيدة و لا مجموعة صفات محصورة أو مقتصرة على جماعة من الناس دون غيرهم مثل لون الجلد أو اللغة أو التقاليد . وهنا يتداخل رجل العصابات مع المؤرخ والآثاري وعالم الاجتماع ورجل السياسة في إسرائيل ويتفق جميعهم على عبارة "إسرائيل عبر العصور" و التي تضعها السطات الإسرائيلية على بوابات متاحفها.
مثل هذا الخطاب شديد الإيحاء هو خطاب غير منقطع بحيث يمكن لوليم طومسون كبير اساقفة يورك أن يقول في الجلسة الافتتاحية لجمعية صندوق اكتشاف فلسطين التي عقدت في الثاني من أيار عام 1856" إن السبب الكامن وراء توجهنا نحو فلسطين هو أن فلسطين هذه بلادنا" .ويتابع بهدوء وراحة يحسد عليها :" إن هذا البلد فلسطين عائد لكم ولي، إنه لنا أساسا. فقد منحت فلسطين لأبي إسرائيل بالعبارات التالية: “هيا امش في الأرض طولا وعرضا، لأني سأعطيك إياها" ونحن عازمون على المشي عبر فلسطين، بالطول والعرض لأن الأرض منحت لنا، إنها الأرض التي تأتي أنباء خلاصنا منها. إنها الأرض التي نتوجه إليها بوصفها منبعا لجميع آمالنا، إنها التي نتطلع إليها بوطنية صادقة تضاهي حماسنا لدى النظر إلى إنجلترا القديمة العزيزة هذه" . وإذا كان المثل يقول" احفر في رأس الأمريكي ستجد الإنكليزي حتما" فهذا ينطبق على ما عبر عنه
نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل غور حين يقول مخاطبا الإسرائيليين “يشعر الأمريكيون أن روابطنا بإسرائيل أبدية. لقد قام مؤسسونا ,كمؤسسيكم, برحلة في البرية بحثا عن صهيون جديد و كان نضالنا , كنضالكم , إلهيا كما كان بشريا, لقد أخبرنا أنبياؤنا و انبياؤكم , أن لديهم حلما و قد جمعونا بحلمهم لخوض هذا النضال من أجل العدالة و السلام" . وهذا ما يجسد رغبة محمومة مشتركة بين الفكرين الاصوليين الصهيوني و المسيحي في إعادة كتابة تاريخ فلسطين و المنطقة لتثبيت المزاعم و الادعاءات الصهيونية في فلسطين و ترسيخ وعي لدى الأجيال الإسرائيلية التالية بأنه " حين عدنا إلى هذا البلد لم نجد فيه أمة أخرى كانت قد عاشت هنا لمئات السنين .فالعرب الذين وجدناهم هنا وصلوا قبل عقود قليلة من وصولنا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر و أربعينياته كلاجئين فروا من القمع الذي مارسه محمد علي في مصر" . فالفلسطينيون لا وجود لهم (هكذا بكل بساطة) وهذا ما أكده بلفور في مذكرة سرية وجهها إلى حكومته تتعلق بميثاق عصبة الأمم المتحدة وتبنيها لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها: " هل نعني في حالة سورية مثلا أن نستمزج بالدرجة الأولى رغبات سكانها؟ إننا لا نعني شيئا من هذا القبيل. إن التناقض بين نص الميثاق [يقصد ميثاق عصبة الأمم المتحدة] وسياسة الحلفاء أشد وضوحا في حالة (دولة فلسطين المستقلة) منه في حالة (دولة سورية المستقلة) فنحن في فلسطين لا نعتزم القيام حتى بشكليات استمزاج رغبات أهالي تلك البلاد الحاليين.. إن الدول الأربع الكبرى ملتزمة بتأييد الصهيونية. فالصهيونية على حق كانت أم على ضلال، خيرة كانت أم شريرة، ذات جذور ضاربة في التقاليد التاريخية والحاجات الراهنة وآمال المستقبل هي ذات مغزى أعمق من رغبات ومشاعر سبعمائة ألف عربي يسكنون تلك البلاد حاليا. " .وهذا يتطابق مع التصور الصهيوني في رسم و إعادة رسم الحدث التاريخي للمنطقة ،فتم تحقيب تاريخ فلسطين القديم والحديث على أنه تاريخ إسرائيل المستمر و التواصل منذ نحو 5000 عام حتى يوما هذه من خلال استغلال الرموز الدينية التوراتية على وجه الخصوص و المسيحية المبكرة بشكل عام لتأمين أوسع جبهة ممكنة داخليا و خارجيا لهذا الغرض من جهة ، وإنكار أي وجود سابق لأي شعب في فلسطين من جهة أخرى، و هو أمر تتداخل فيه عوامل عدة بصورة يصعب فصلها، مما ينتج في نهاية المطاف المزيد من التصورات العنصرية الشوفينية الضيقة التي تلتف حول مقولات إثنية ضبابية غير محددة الملامح ملتحفة ذاتيا بمزيج أسطوري أريد له أن يكون تاريخا يبدو حقيقيا بوصفه معطى وليس منتجا .و يتجدد هذا المزيج الأسطوري و يتبدل بمنطق دائري سقفه اللاهوت و أرضيته القوة و البطش لمصلحة استعمار الأرض" فيهوذا سقطت بالدم و النار , و ستنهض مرة أخرى بالدم و النار " و ،"الطريقة الوحيدة لتحرير البلاد هي السيف"
إن الصراع المضمر على القدس – وهو بخطورة الصراع العلني المكشوف –يؤكد بأنه في حين تستطيع إسرائيل الاحتفاظ في القدس فمن المشكوك فيه أن تكون قادرة على تحقيق سيطرتها على المدينة. ومن ناحية أخرى يتمتع الفلسطينيون بقدرة هائلة على تحدي الهيمنة الإسرائيلية، بيد أنهم سيجدون صعوبات جمة في انتزاعها من إسرائيل. وبناء على ذلك ترى بعض الدوائر السياسية الغربية وصناع السياسات بأنه على كلا الطرفين م التغلب على المواقف العاطفية و الشحن النفسي التبادل و التفكير عوضا عن ذلك بصورة جدية وواقعية براغماتية بترتيب سياسات تحظى بالقبول العام لتحقيق شرط السلام الاساس وهو اعتراف كل طرف بحق الآخر في الوجود على أساس الوضع الحالي ودون شروط مسبقة. و بموازاة لا تكف إسرائيل عن القيام و بشكل منهجي بتغيير معالم القدس , فإذا كان الحديث عربيا عن القدس كاملة –بشقيها الغربي و الشرقي -قد انتهى عمليا منذ العام 1948 فهذا لا يتساوق مع الموقف الإسرائيلي ,فالقدس هي العاصمة الموحدة لإسرائيل منذ العام 1980 و قبل ذلك أصدر الكنيست قرارا تشريعيا في 27967 " أي بعد أسبوعين من احتلال القدس الشرقية " يقضي بتوحيدها بقسميها الشرقي و الغربي ,ليبدأ سيل الاستيطان الذي لم يتوقف مترافقا مع خطط البنى التحتية و هو تعبير يشير إلى تبديل التوزع السكاني في المدينة و تثبيت أغلبية يهودية فيها و عزلها عن بقية مناطق الضفة الغربية المحتلة.
إن مركزية القدس في الفكر الصهيوني الإسرائيلي وعبر كل مراحل عمله لجهة استكمال مشروعه القومي يجعل منها أداة حاسمة في سياق الصراع من غير الممكن التنازل عنها للفلسطينيين لذلك تلعب القدس، وستظل، دورا ناظما لتثبيت هذا المشروع والحيلولة دون تفككه أو ذوبانه في المستقبل. وتبدو القدس اليوم بالذات أكثر من أي وقت مضى، عرضة للهدم و التلاشي بمجمل سياقاتها الاجتماعية و السياسية وقيمها الحضارية التي تمثلها عبر حقب التاريخ .وتظهر القدس في الخطاب السياسي الإسرائيلي بوصفها كائنا عضويا في علاقتها مع البشر ليتحدد بذلك وبشكل مسبق الانتماء "لشعب الرب "واللتأكيد على الارتباط الديني العميق بالمدينة المقدسة، أورشليم، التي هي المآل النهائي للخلاص، فالحفريات الآثارية في القدس أنما تخدم -إسرائيليا صهيونيا" التعرف على تاريخ هذه المدينة منذ بدايتها حتى أيامنا هذه كما هو مذكور في التوراة على حد تعبير يوسف أبيرام عالم الآثار الإسرائيلي والعضو في جمعية أبحاث إسرائيل، حيث الهدف هو بحث "في التوراة في أرض التوراة". لذلك ستكون القدس وفي أي مخطط صهيوني مستقبلي قوة جذب للمهاجرين اليهود ومركز استقطاب عبر مراحل الاستيطان لاستكمال بناء الوطن القومي. الأمر الذي سيقود المدينة بطبيعة الحال لأن تكون محور صراع يلعب دور الاسمنت اللاصق أو الديناميت المفجر لكلا المعسكرين الفلسطيني و الإسرائيلي، -بمعنى الفهم اليهودي /الإسرائيلي للقدس/أورشليم بالتوازي مع الفهم عينه الذي يراه العرب والفلسطينيين -,فالقدس/أورشليم بوصفها محور إجماع سياسات وطنيةقومية لهما، يجعل أي خلاف سواها ثانويا مقارنة بأهميتها و تشكل القدس حلما صهيونيا يعبر عنه قول هرتزل " إذا حصلنا يوماً على القدس، وكنت ما ازال حياً وقادراً على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها سوف احرق الآثار التي مرت عليها قرون." كما أنها مسرى النبي محمد ومعراجه ومهبط البراق والأنبياء وقبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين وهي تحظى برمزية هامة للفلسطينيين لا تضاهيها أي مدينة أخرى ,وإن كان هناك تحديا من نوع آخر لكلا الفهمين على الصعيد الآثاري على الاقل، ونظرا لأن مثل هذا الصدام لا يمكن الحؤول دون إنهائه راهنا ولو حتى بتقريب وجهات النظر ،فإن الجميع سيبقى متمسكا بموقفه و فهمه كما يراه هو و كما يتخيله ويحاول شرعنته .فمع آخر المخططات الإسرائيلية بشأن القدس الرامية إلى قرار هدم 30 % من البيوت " غير الشرعية" في الجزء الشرقي من المدينة على حد قول رئيس بلدية القدس "نير بركات" سيتم منح الـ70 % وضعا قانونيا جديدا بحيث سيؤدي مثل هذا المخطط إلى هدم حوالي 6000 منزل و ذلك ضمن " المناطق الخضراء اي المخصصة للحدائق العامة ,دون أن يشير إلى أن ذلك سيؤدي حتما إلى هدم منازل في مناطق تعتبر حيوية تسعى إسرائيل لضمها في اي حل سياسي مقبل و تشمل تلك المناطق حي البستان في سلوان و منطقة راس العمود و الشيخ جراح و البلدة القديمة و غيرها, و سيتكفل جدار القدس و الذي تفضل إسرائيل تسميته " غلاف القدس" بالبقية حيث ستقوم إسرائيل بموجبه بضم حقيقي بطول 22 كم لمساحة تزيد عن 400 كم 2 , أي نحو 7% من مساحة الضفة المحتلة يقيم فيها ما يزيد عن 270000 مستوطن و يعيش فيها حوالي 280000 فلسطيني و سيؤدي إلى عزل القدس الشرقية عن بقية مناطق الضفة .
تقوم الاستراتيجية الإسرائيلية منذ أوسلو وحتى الآن على إدارة " عملية المفاوضات" و "عملية السلام" و ليس السلام بحد ذاته , فإذا كان العرب بحاجة للسلام مثل سعي إسرائيل له ,فليحصلوا عليه إذن و لكن دون أرض, كما عبر مناحيم بيغن عن ذلك ذات يوم بمقولته المشهورة (السلام مقابل السلام ).و إذا كانت حرب 1948,كما قال بن غوريون غير كافية لإقناع العرب و اقتناعهم بوجود إسرائيل فإن حروبا أخرى (,82 67, 56) واجتياحات متلاحقة كفيلة بإقناعهم إذا كان القتل الممنهج للفلسطيني غير كاف لإقناعهم بعدم جدوى مقاومة إسرائيل فإن حربا من نوع آخر طويلة الأمد مرهقة و قاسية و متواصلة تدمر المجتمع الفلسطيني وشل إمكانياته و تحول الشعب إلى مجموعة سكان بلا عمل تعيش على مساعدة المنظمات غير الحكومية ستكون كافية لهم للقبول بالحل الاسرائيلي على الطريقة الصهيونية بحيث تشكل ضغطا على المواطنين تدفعهم للتنصل من قيادتهم ,فإذا ما أخذنا في الحسبان عمق أزمة الحركة لوطنية الفلسطينية وجديتها فإن مثل هذا الحل الذي تمارسه اسرائيل لن يكون مكلفا لها من الناحية العسكرية , في ظل سلطة التنسيق الأمني المقدس والتي تخلت عن أهدافها الوطنية و بدلت نوعيا صيغ المقاومة المسلحة التي كانت محل إجماع فلسطيني في مراحل سابقة من نضاله الوطني لتشكل بذلك غطاء لاحتلال" سوبر ديلوكس". وعلى هذا فإن إسرائيل, وباعتبارها الطرف الأقوى لن يضيرها الرأي العام العالمي إلى حد إجبارها التخلي عن "مناطق محتلة " أو" أراض متنازع عليها" .و في الحقيقة فإن مسألة الراي العام يمكن أن تثار من زاوية أخرى فالكثير من التصرفات الإسرائيلية تعتبر من وجهة نظر صناع الرأي العام الغربي بالذات جريمة بشعة بحق الإنسانية لدرجة أنه لا يجرؤ أحد على عدم الظهور بمظهر معادات الممارسات الوحشية تلك ,ومع ذلك فإن هذه الجريمة مستمرة و بقوة و يقيم هذا الكيان علاقة عضوية و تعاون وثيق مع الدول الغربية و لديه أسبابه القوية ليستمر في سلوك ذات النهج المتوحش ،إذا ليس صحيحا على الإطلاق أن كسب الرأي العام يعني كسب معارك ضد أعداء على شاكلة إسرائيل ،علاوة على أن الإعلام الغربي المصدوم بإسرائيل و ببشاعة سلوكها العنصري هو في نهاية المطاف إعلام منحاز لإسرائيل.
إذن ليس لدى إسرائيل ما يمكن أن تتنازل عنه للرأي العام ،فإسرائيل التي تحكمها عقدة الوجود كدولة تعرف نفسها بأنها يهودية لا تستطيع أن تقدم تنازلات هامة على مستوى الأرض دون تعريض هذا الوجود ذاته لخطر داهم ،وإذا كان هذه الدولة قد بات لمعظم الأنظمة العربية غير قابل للنقاش فإن هذا الوجود بالنسبة لإسرائيل ذاتها هو وجود تحميه الحراب و تطوقه الكراهية ،وبالنسبة لمعظم العالم فإن إسرائيل ما زالت و ستبقى في إطار علامة استفهام كبيرة ،إن مستقبلها كدولة يبقى موضع شك ولهذا فإن أي عاقل من خارج دائرة الصراع لابد أنه سيرى في الحل الصهيوني في فلسطين نموذجا أميبيا غريبا من غير نسيج محيطه يرتكز على مزاعم إقليمية ذات طابع قومي ،تسعى لشرعنة استعمار الأرض والتركيز على أحقية اليهود في فلسطين بطريقة لا تقبل التأويل أو التعديل, ولذلك و في ظل الغياب العربي الرسمي من معادلة الفعل العسكري فإن العنصر الفلسطيني هو الوحيد الذي يقبل بمخاطر مواصلة الصراع مع إسرائيل, مثل هذا الصراع الذي تحكمه فكرة الوجود الاصطناعي غير الآمن للمجمع الاستعماري الإسرائيلي هو ما يحول دون تقديم تنازلات هامة ،فالسياسي الصهيوني الذي يدرك و يعي التاريخ و قادر على استقراء تاريخ هذه المنطقة ، لا يتولد لديه الوهم بإمكانية بقاء كيان غريب و مصطنع دون الاعتماد على قوة متفوقة ،إن لديهم إدراكا كافيا بأن هذا الكيان الذي قام معتمدا على أبشع أساليب الاستعمار من قتل و ذبح و اقتلاع للإنسان ، لا يمكن أن يصبح مقبولا بمرور الزمن و تقادم الايام و تعاقب السنين ،لذلك لن يوافق العقل الصهيوني المحكوم بعقد توراتية على اختصار هذا الكيان ليصبح بحجم قبضة الكف و معرضا لضربات شعب لديه كل الإحساس الغامر بأحقيته في وطنه ,وهذا يعني أن الهيمنة الإسرائيلية ستظل طاغية في أي مفاوضات مقبلة و بالتالي فإن تحقيق تسوية في ظل تناسب القوى الراهنة يعني أن إسرائيل ستحصل على نفس المكاسب التي يحققها الاحتلال المباشر مع تجنب مواجهة شعب احتلت أرضه .علما بأنه أيضا في حال حصول أي تسوية فسوف تكون الرغبة المقررة فيها هي الرغبة الإسرائيلية بلا شك لأنها الأكثر حسما على أرض الصراع المباشر .و لسوف تضع إسرائيل من العراقيل ما يدهش الكثيرين ممن سيوقعون أي اتفاقية مقبلة و ستكون مراهنة إسرائيل على المؤقت هائلة للغاية ،فخلال هذا المؤقت بالإمكان انفجار تعارضات جديدة كامنة بين الجسد الفلسطيني أو بين الفلسطينيين و الأردن من ناحية أخرى ،ولعل إسرائيل متأكدة بأنه سيتم تحكيمها في هذه الصراعات .
ما من شك بأن تسوية كهذه ستكون على حساب الشعب الفلسطيني ومحيطه العربي و ما من صيغة يمكن طرحها في الشروط الراهنة يمكن أن تبلغ حد سيادة و دولة فلسطينية فهذا إنجاز شديد البعد انطلاقا من التوازن القائم الآن و يمكن الافتراض ايضا بأن تسوية ما ليست أمرا محتوما في الوقت الراهن إلا ضمن التحرك الأمريكي حيث أن تناقضات أطراف الصراع ليست بيسيرة .وستتركز البروباغاندة الإسرائيلية على مقولة "عدم وجود شريك حقيقي فلسطيني للسلام" متسلحة بتضامن غربي علني وعربي رسمي خجول قليلا وصريحا قليلا لجهة "مكافحة الإرهاب" والقضاء على "التطرف الجهادي" وهذا سيسهل عليها الوصول للهدف المركزي و الأغلى لها و المتمثل في تفتيت و إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية وهي مسالة حياة أو موت لها ، فالمنظمة ,كإطار سياسي جامع للفلسطينيين, هي بداية النهاية لها ،وهي مقلوب إسرائيل التي ترى في البديل الفلسطيني "المنظم و المسيس" نقيضا تاريخيا لها و مقلوبا وجوديا لكيانها وهو اعتراف و إقرار من جانبها بأن نهايتها كدولة صهيونية قد بدأت وهذا ما يجعلها تتعبد استراتيجيا في صومعة الخيار الأردني و تشاركها أو تضطر لمشاركتها هذا الراي الولايات المتحدة, حيث يمكن من وجهة نظر أمريكية أن يشكل النظام الأردني لاحقا الطرف المهيمن في أي علاقة بينه و بين الفلسطينيين في كنف فيدرالية متوقعة مستقبلا .و في الواقع فإن المرحلة الراهنة هي امتداد للاتجاه الساداتي في معالجة المسالة الفلسطينية على المستوى الرسمي ،فهناك إجماع رسمي عربي على القبول بفتات المائدة الإسرائيلية ، إن التخلي عن عروبة فلسطين و التسليم التام بالدولة الصهيونية على أرضها بات بالنسبة لهذه الأنظمة منطلق تسوية و ما من أحد على هذا المستوى الرسمي يناقش اكثر من رفع السياط من على الظهر الفلسطيني .ونظرا لسعي الأطراف الدولية و العربية الرسمية إلى صياغة "حل نهائي" للمسالة الفلسطينية فإن قضية الشعب و الأمة ستتعرض لأفدح المخاطر إذ تتجلى الرغبة الجامحة و المحمومة عند معظم الاطراف بقبر هذه القضية نهائيا . وهكذا يتضح أهمية الخبرات النضالية للشعب الفلسطيني و كيفية قيادته و توجيهه ، فبقدر ما يبدو هذا التاريخ النضالي كبطولة خارقة و مجد يتسامى للشعب الفلسطيني فلن تمانع الولايات المتحدة الأمريكية لممارسة الضغط على إسرائيل نظرا لأن إسرائيل لا يمكن أن تستجيب إلا للضغط الأمريكي بغية فرض تسوية تلائم بين رغبات الأطراف الثلاث : امريكا و إسرائيل و الأنظمة العربية الرسمية القريبة من واشنطن ، حيث قد تسعى الأخيرة إلى أن تفرض بمرونة تسوية ما على إسرائيل مدفوعة برؤيتها القاتمة لمستقبل إسرائيل و لمستقبل عدد من الدول الصديقة لها في المنطقة.
إن أخطر ما في الصراع الدائر منذ أكثر من قرن هو التاريخ بتعريفه الإسرائيلي الذي يركز على ثقافة النسيان والاستبدال، فمن المعقول واقعيا بالنسبة للإسرائيليين أن يقبل الفلسطينيون بعاصمة بديلة عن القدس/أورشليم. وربما لن يكون بعيدا اليوم الذي سيقول فيه كل عربي: كان هنا فيما مضى مدينة اسمها القدس. وإذا كان ما تبقى من سكان أمريكا الاصليين هو أسماء لماركات سيارات وأدوات كهربائية وحتى صواريخ عابرة للقارات، فإن ما تبقى من قرى ومدن فلسطين هو أسماء أزقة و ساحات في مخيمات اللجوء.