عن القضية الفلسطينية من دون اعتذار
حسن شامي
هناك شعور متزايد، أو انطباع، بأننا وصلنا إلى الحدّ الذي يجعل مجرد التطرق إلى القضية الفلسطينية أو التحدّث عن أحوالها يحتاج إلى نوع خاص من الاعتذار. لا ينطبق هذا على حال التعامل مع إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام فحسب، بل على كل ما يتصل بالموضوع. يبدو إذاً أنّ مساحة تلقي الحديث عن المسألة هزلت وتقلصت بحيث صار طرح الموضوع يعتبر إقحاماً أرعن لشبح ضيف ثقيل وانتهاكاً للياقة السياسية، بل حتى المعنوية والأخلاقية.
وسواء كان المرء في معسكر الممانعة أو ضده بات الحديث عن المسألة يستدعي ما يشبه العناد والصياح وشدّ القمصان من دُبُر، أي قمصان الدائرين ظهورهم، للفت النظر إلى عملية الوأد الجارية وسط صلافة زاحفة.
لقد شاخت القضية الفلسطينية وأدخلتها شيخوختها في غيبوبة. ويستحسن تركها لموتها الرحيم، بأقل الخسائر الممكنة. يبقى بالطبع لكل واحد أن يجد طريقته في الترك، إذ يمكن أن يكون ذلك من طريق التجاهل أو اللامبالاة أو النسيان القسري أو الكتم، طوعاً أو كرهاً، وضرب الكف بالكف تحسراً بسبب قلة الحيلة وقصر اليد. هذا ما يدعونا إليه، بطرق وعبارات مختلفة ومرجعيات قيمية متباينة، دعاة وعي مستجد وزائف. لنقل ببساطة إن الحديث عن المسألة الفلسطينية صار مزعجاً بطريقة قدرية و «بلا كيف». إذاً، سنزعجكم وبلا اعتذار.
إنها مفارقة كبرى إن لم تكن أم المفارقات التي حفل بها، أو تكشّف عنها لا فرق، حراك «الربيع العربي» المتواصل منذ ست سنوات. إذ كيف نفسّر اندلاع حراك وانتفاض احتجاجيين كبيرين من أجل الحرية والكرامة والعدالة من دون أن يصاحبه، من اللاعبين البارزين في الأقل، التفات إلى موقع المسألة الفلسطينية والنزاع العربي - الإسرائيلي في الترسيمة الإقليمية والعالمية للمبادئ والقيم المنسوبة لربيع الشعوب؟ لسنا سذجاً كي نعتقد أن ما ظهر على السطح يترجم بدقة هيجان الأعماق والقيعان. كان مطلوباً كتم الموضوع ووضعه، مثل الكثير من الأشياء في تاريخنا القديم والحديث، في باب المسكوت عنه. في بؤرة الصمت القسري أو المراوغ هذا يكمن جزء بارز من تاريخ الحراك وأدوار اللاعبين من كل الأحجام، بمن في ذلك الرعاة الكبار والإقليميون، في فرض معادلاتهم وحساباتهم على وجهة الحراك وحمولته. أي سردية تاريخية للحراك لا تلتقط وجه المراوغة أو المصانعة في هذا الشأن ستكون بلا قيمة.
نعلم أن لهذه المراوغة اسماً في علم الحرب وخوض الصراعات والنزاعات هو «التكتيك». غير أن هذا يصحّ تحديداً على الخائضين في الصراع حتى وهم يرتكبون الأخطاء ويتراجعون تدريجياً إلى أن يصلوا إلى المربّع الأخير. يصحّ هذا مثلاً على الزعيم الفلسطيني المقتول ياسر عرفات وبدرجة أقل على محمود عباس وسلطته الوطنية، وعلى حركة «حماس» وغيرها. لكنه لا يصحّ على من يعتبر المسألة عبئاً ينبغي التخفف منه. فهذا الأخير لا «يتكتك» ولا يحتاج أصلاً إلى التكتكة. وهو لا يعدم التذرّع بواقعية مبتذلة مفادها أن الإصرار على خوض الصراع هو ضرب من مناطحة الجبال وتربيع الدوائر. ويسعه أن يستدل على ذلك من لائحة الهزائم والكوارث والنكسات التي تسببت بها الحروب العربية - الإسرائيلية.
قد لا يكون الحديث عن شيخوخة القضية الفلسطينية كاذباً. فإذا اعتبرنا صدور قرار التقسيم عام 1947 بداية تبلّر الوضع الفلسطيني كمسألة وقضية وطنيتين، في المعنى السياسي الحديث، يكون عمر القضية قد بلغ السبعين عاماً. هناك من يرى، في الغرب والشرق، أن مثل هذا العمر، معطوفاً على دزينة من الحروب المتعددة الأحجام، يكفي لتشخيص الشيخوخة وإعلان السأم من العيش طوال سبعين حولاً وسط جعجعة بلا طحين. بالمناسبة، قرار التقسيم، على إجحافه وملابسات استصداره الحافلة بالضغوط والتهديدات الصريحة وفق ما رأى بحق المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، هو القرار الدولي الوحيد الذي يشكل مرجعية قانونية لرسم حدود الدولتين. الباقي، بمقتضى القرار نفسه، غنائم حرب توسعية وعدوانية تستند إلى ميزان القوة لا غير.
في بداية الحراك الذي اندلع في تونس ثم انتقل بسرعة إلى مصر وليبيا لاحظ عدد من متابعيه غياب الشعارات القومية عموماً وانغماساً أكبر في الهموم الداخلية الرافضة للتسلط والفساد والبلطجة. وافترضوا، بتفاؤل متسرّع وأبله، أنّ شعوب هذه المجتمعات اهتدت إلى كياناتها الوطنية وأدارت ظهرها لأي قضية «مركزية» تتعدى الإطار الوطني في المعنى الترابي الضيق للصفة الوطنية. ولا نستبعد أن يكون هذا هو ما حمل المتحمسين في الغرب على إطلاق صفة «الربيع العربي» المأخوذة من قاموس التجارب الأوروبية على انتفاضات تضرب بجذورها في ترسيمة تاريخية مختلفة ومضطربة إجمالاً. سنضع جانباً هذه المفارقة الأولى التي تجعل من انتفاضة ذات سماكة داخلية ووطنية تتلقى تسميتها وتمثيلها من خارج تجربتها وقاموس عباراتها. هؤلاء المتفائلون فاتهم أن ما يصح على تونس ومصر لجهة قوة الشعور التاريخي بالانتماء إلى بلد ووطن واحد، على رغم الحساسيات الجهوية، لا يصح على بلدان كليبيا واليمن وسورية، ناهيك بالعراق ولبنان.
الوعي الزائف يعتمد عموماً على مقولة مفادها أن الأنظمة التسلطية التي نسبت إلى القضية الفلسطينية صفة مركزية فعلت ذلك لتبرير إحكام قبضتها الأمنية على المجتمع وإعطاء شرعية لتغوّلها. تستند هذه المقولة إلى تظلّم حقيقي من العسف الأمني لتبني عليه خرافة تأسيسية. يكفي أن نقابل المركزية القومية المزعومة بمركزية داخلية حتى تسقط شرعية النظام وتنفتح الأبواب أمام الديموقراطية والحرية والدولة المدنية والتمثيل العادل. لو كان ذلك صحيحاً لكان من المفترض أن تتحول الدول التي وقّعت معاهدة سلام مع «العدو المركزي»، ناهيك بالدول غير المعنية بالقضية المركزية، إلى نماذج تحتذى. والحق أن أنظمة المنطقة كلها تسبح في فوضى شرعيات متنافسة بما في ذلك الشرعية الخارجية القائمة على علاقات السيطرة والتبعية. تتوازى هذه الفوضى مع فوضى دلالية ترقى إلى عصر النهضة وتتصل باضطراب لغتنا وتعبيراتنا واختلال العلاقة بين الدال والمدلول. ينطبق هذا على كلمات كبيرة مثل الشعب والأمة والثورة والحرية والديموقراطية والحزب والدولة المدنية والإسلام... باختصار، المفاضلة المعروضة هي امتثال العاجز.
عن الحياة اللندنية