من سيقول للسعودية كفى؟
نزار بولحية
إن صدقنا ما كتبه علي الظفيري مذيع قناة الجزيرة القطرية السابق منذ أيام على حسابه الشخصي على تويتر، من أنه استقال من المحطة التلفزيونية التي صارت الهدف العسكري والاستراتيجي الاغلى والأهم للحلف المناهض لقطر «طاعة لله وولاة الأمر حفظهم الله وانحيازا للوطن، والتزاما بسياساته وقوانينه».
وقبلنا بأن كل ما قاله كان حقيقة محضة، ولم يكن أوهاما أو تخاريف خيال، وأقررنا بأن كلامه لم يصدر عن جهة اخرى غير عقله وقلبه، وأنه لم يكن مجبرا ولا مدفوعا للقبول به تحت الضغط والاكراه، لا سمح الله. فهل سنقتنع وسنصدق بسهولة ايضا وباسم تلك الطاعة المقدسة والعمياء، أنه يمكننا التنازل عن كياناتنا والتخلي دفعة واحدة ونهائيا عن أحلامنا وطموحاتنا الانسانية، وترك ارادتنا الفردية الحرة جانبا، ووضع مصائرنا وديعة أبدية ومطلقة بيد الحكام يفعلون بها ما يشاؤون، من دون ان نتحمل نحن اي قسط من المسؤولية عنها؟ وهل سنقبل بمثل تلك السهولة ايضا ان يبقى مثل ذلك الصنف من الصحافيين الذين «يخافون الله ويطيعون اولياء امورهم وينحازون لاوطانهم»، والذين ينصاعون بالكامل لقانون السمع والطاعة، وتبقى معهم باقي جيوش العلماء والمثقفين والفنانين، التي لا تظهر إلا في المناسبات والحفلات الرسمية، مشغولة كعادتها بما يدور في كواكب بعيدة خارج المدار الشمسي، ولا تملك لا صرفا ولا عدلا ولا ناقة ولا جملا في ما يجري الان على مرمى حجر منها داخل البيت الخليجي؟ والى متى سيستمر هؤلاء في لعب دور الطابور الخامس، الذي يستخدمه الحكام في الداخل ويجملون به صورتهم في الخارج، أو على النقيض مجرد ضحايا مهزومين للعنة السياسة التي تطاردهم حيثما حلوا، وتجعلهم يموتون قهرا ويأسا واختناقا من ضيق سماء الحريات؟
سوف لن نقسو على الظفيري ولا على باقي زملائه السابقين واللاحقين، ولن نحمله أو نحملهم ما لا يطيقون، ولن نقول إن خروجه الغامض والمفاجئ من قناة الجزيرة، وحتى خروج اخرين غيره، هو خيانة أو استسلام للباطل، ولكننا سنقول فقط، ألم يكن ممكنا ان تطبق تعليمات الخروج بالحد الادنى الضروري، أي بالصمت؟ وهل كنا ننتظر من المذيع المستقيل أن يقول لنا، إن طاعته لله وللحكام بالشكل الذي يفهمه هؤلاء بالطبع، تعلو وتسبق كل طاعة، بما فيها طاعته لضميره ولكل مبادئ الحق والعدل والحرية؟ قد تقولون إن تلك الفرضية كانت موجودة، وانه كان يمكن للظفيري ان يفعل حتى اكثر من ذلك ويعلن العصيان، ويرفض الدعوة من أصلها، ويصر على البقاء في القناة الفضائية، التي جعلت منه نجما من نجوم الاعلام التلفزيوني العربي.
ولكن هل كان بمقدوره ان يدفع الثمن الباهظ لقراره؟ هل كان يقدر على ان يقف بوجه حكام بلده وولاة أمره، ويقول لهم ايها الحكام مع حفظ المقامات، يؤسفني ان أقبل السير في ركابكم هذه المرة، ولن امنحكم صكا على بياض مادمتم قد اخترتم طريق الباطل، وخرقتم كل حرمات الدين والنسب والجيرة، واقدمتم في شهر رمضان المعظم على حصار اشقائكم والتضييق على حياتهم وحياة مئات الالاف من ضيوفهم، وافسدتم علينا وعليهم فرحة العيد. ولانني بالفعل اخاف لله واطيعه وانحاز للوطن فسأبقى بين الاشقاء، الذين رحبوا بي وفتحوا لي ابوابهم وصنعوا نجوميتي وشهرتي، ولن اغادرهم ساعة الضيق والعسرة، بل سأتقاسم معهم الايام بحلوها ومرها؟ وعلى فرض ان ذلك كان أمرا منطقيا ولم يكن عملا طوباويا، أو مغامرة مستحيلة التحقق، ألم يكن الافضل للمذيع المستقيل، لو انه مشى في حال سبيله من دون ان يبرر ما لا يبرر، ومن دون ان يغلف قراره بذلك الثالوث المقدس (طاعة الله وأولي الامر والانحياز للوطن)؟ ألم يكن هناك خيار وسط وهو ان يكتب مثلا على حسابه الشخصي على تويتر «لقد استقلت من قناة الجزيرة وانتهت بكل الاحترام والود والتقدير تجربتي فيها، وانا على اعتقاد بأن كل شيء يبقى بالنهاية قسمة ونصيب».
ربما لم تكن خطوة الاستقالة الجافة، أي الخالية من التبريرات لترضي وزارة الاعلام والثقافة السعودية، التي دعت منذ اليوم الاول لحصار قطر كل السعوديين العاملين في قناة الجزيرة لتركها والعودة الى بلادهم، ووعدتهم بفرص عمل بديلة في مؤسساتها الاعلامية المحلية. فقد كانت بحاجة للكثير من البروبغاندا التي لم تكن ممكنة، إلا في حال ما اذا كشف الصحافيون المستقيلون من الجزيرة بالتحديد ولو بشكل ضمني أو غير مباشر عن ان الدافع الاول والاخير من وراء استقالتهم، هو انهم يوافقون قادتهم بالطول والعرض في كل تلك القرارات المجنونة التي يقصفون بها منذ الخامس من يونيو جارتهم قطر. والإشكال الحقيقي هنا هو ليس فيما اذا كان السعوديون، وحتى الامارتيون ايضا قادرين في المطلق على ان يعارضوا حكامهم أم لا، بل في قدرة نخبهم الاعلامية والدينية، ومن قد يوصفون بالحكماء والعقلاء فيهم، على ان يقفوا مرة واحدة بوجه الظلم الذي يلحق جيرانهم ويقولوا بالصوت العالي: لا.. يكفي هذه المهزلة التي جعلتنا اضحوكة في العالم ولنعد بسرعة الى رشدنا، ونميز جيدا بين عدونا وشقيقنا، والى متى تستمرون في تغييب كل صوت يدعو الى الهدوء والعقلانية، ويذكر الخليجيين بأنهم بالفعل كما وصفهم ترامب نفسه عائلة واحدة وتفتحون بالمقابل وسائل اعلامكم لباقي الاصوات، التي تحشد للحرب والقطيعة وتدعو ليل نهار الى صب مزيد من الزيت على النار والى التصعيد والفراق والطلاق؟
وعلى فرض أن هناك نوعا من الخصوصية في السعودية وفي الامارات، بل حتى في باقي دول الخليج، وانها هي وحدها التي جعلت من انتقاد قرارات الحكام، أو مناقشتها امرا بالغ الحساسية والتعقيد، فان التنشئة الاجتماعية والتربية، وحتى عدم تعود الحكام على ان ينتقد فرد أو افراد «طاعة لله» و»انحيازا للوطن» قرارتهم، ويقولوا لهم عفوا لقد اخطأتم هذه المرة، وعليكم ان تراجعوا انفسكم ثم انشغال النخب التي اعماها السعي لتأمين مصالحها الشخصية بقضايا هامشية وثانوية، جعلتها لا تتكلم الا لتؤيد وتبارك وتهلل، أي قرارات بغض النظر عن موقفها الحقيقي منها، قد تكون كلها هي التي صنعت بالنهاية كل ذلك.
بقي هل المطلوب الآن ان يراجع كل ذلك الموروث القديم ويرمى بالكامل؟ قطعا لا ليس ذلك هو الحل مثلما ان تقويض الانظمة وهدمها بثورات مصطنعة ومغشوشة لن يكون الخيار الاسلم، وحده الوصول لاقناع اصحاب القرار بأنهم لن يكونوا مستفيدين ابدا في حال اشتعلت نار الحرب في جوارهم، وان انهيار السقف سوف يعني سقوطه فوق رؤوس الجميع، من دون استثناء، سيكون الخطوة الضرورية في هذا الوقت. بقي من سيملك المواصفات والجرأة المطلوبة لقول كفى؟
ذلك هو السؤال المعلق الذي لا يستطيع معظم الذين يعلنون طاعتهم لله ولاولياء الامر وانحيازهم للوطن ان يجيبوا عنه الان وغدا.
كاتب وصحافي من تونس