بعد إجراءات الرئيس العقابية وتفاهمات دحلان: هل الانفصال لا رجعة عنه؟
هاني المصري
مقدمة
منذ نيسان الماضي، وإثر تشكيل حركة حماس للجنة الإدارية، بدأ الرئيس وبمصادقة اللجنة المركزية لحركة فتح اتخاذ الخطوات "المؤلمة وغير المسبوقة" التي سبق أن هدد بها، والتي يمكن تلخيصها بأن السلطة لن تموّل الانقلاب/الحسم العسكري بعد الآن، وأنّ على "حماس" أن تختار بين تحمّل المسؤولية عما سيحدث إثر ذلك، أو توافق على خطة الرئيس لإنهاء الانقسام التي تتضمن تشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني، وتمكينها من العمل في قطاع غزة، على أن تلتزم ببرنامج الرئيس السياسي، وبالتزامات منظمة التحرير، والذهاب إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
راهن الرئيس عند إقدامه على تنفيذ إجراءاته العقابية على أن "حماس" ليس أمامها، بعد اشتداد مأزقها العام، وخصوصًا بعد حصوله على ضوء أخضر من أمير قطر تعبيرًا عن غضبه من انتخاب يحيى السنوار قائدًا لـ"حماس" في قطاع غزة نظرًا "لمواقفه المتشددة"، سوى أن توافق على خطته، أو تواجه احتمال ثورة شعبية ضدها يمكن أن تؤدي إلى الفوضى، ما يساعد على إسقاط سلطتها، أو فتح الباب لمواجهة عسكرية مع إسرائيل بشروط غير مواتية لـها.
إن الإجراءات العقابية ضد الشعب لا يمكن أن تحقق الوحدة، بل أسوأ وصفة ممكنة لأنها تكرس الانقسام، وإذا كانت الوحدة ممكنة عبر هذا الطريق فلا حاجة إليها. فالوحدة ضرورة وطنية لأنها طريق لتحقيق الحقوق والأهداف، ولتحسين شروط الحياة للفلسطينيين وتلبية الحقوق المدنية.
بعد أقل من ثلاثة أشهر حدث ما لم يكن في الحسبان، فعلى الرغم من إعلان دونالد ترامب أن "حماس" منظمة إرهابية، وتبني ذلك من أطراف عربية، وبعد يوم واحد من تفجّر الأزمة الخليجية؛ قام وفد من "حماس" برئاسة السنوار بزيارة ناجحة إلى مصر انتهت إلى الاتفاق على فتح صفحة جديدة في العلاقات المصرية الحمساوية، على أساس اتخاذ "حماس" إجراءات أمنية على الحدود وفي داخل غزة تساعد على توفير الأمن القومي المصري، مقابل بيع مصر للوقود وسماحه بالعبور إلى غزة، وفتح معبر رفح في موعد أقصاه عيد الأضحى القادم، والسماح بمرور البضائع عبره من وإلى القطاع.
وفي نفس الزيارة، التقى وفد "حماس" بوفد برئاسة محمد دحلان، وتم الاتفاق على جملة من التفاهمات سيجري تنفيذها تباعًا. وهذا ما كان ليتم على الأرض المصرية من دون رعاية النظام لها كتعبير عن الغضب المصري من تطبيق الإجراءات العقابية ضد القطاع، رغم تحذير مصر من أن تطبيقها يعتبر مساسًا بالأمن القومي المصري.
فماذا تضمنت التفاهمات، وإلى أين يمكن أن تقود الوضع الفلسطيني: إلى تعميق الانقسام وتحويله إلى انفصال، أم إلى إحياء الجهود الرامية إلى إنهائه وبدء السير نحو استعادة الوحدة؟
تفاهمات دحلان – "حماس
وفق ما رشح عن هذه التفاهمات من أصحابها، ووفق ما أفادت به مصادر متعددة، فإنها تستهدف إنقاذ المشروع الوطني، وإحباط فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية أو فصلها عن القطاع.
وتتضمن إعادة تفعيل المجلس التشريعي من خلال عقد جلسة للمجلس في غزة وعبر الفيديو كونفرنس مع نواب الضفة الذين يمكن أن يوافقوا على المشاركة، على أن يدعو المجلس عند انعقاده الرئيس لحل حكومة الحمد الله، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ترأسها شخصية وطنية وموثوقة ومحل إجماع وطني تعرض على المجلس بكامل أعضائه، وفي نفس الوقت يدعو "حماس" إلى حل اللجنة الإدارية، ويتم إمهال الطرفين مدة أسبوعين لتنفيذ ذلك، وفي حالة عدم الاستجابة يقوم المجلس بحجب الثقة عن حكومة الحمد الله، ويتوافق على تشكيل لجنة وطنية مؤقتة لمعالجة الأزمة من كفاءات ومستقلين، تكلف بحل المشاكل الأساسية التي يعانيها القطاع، وتعرض على المجلس التشريعي للإشراف والرقابة على عملها، ويتزامن ذلك مع اتصالات سياسية مع سائر الجهات العربية والدولية من أجل تجنيد مساندة إقليمية ودولية تضمن لها مقومات النجاح (على أن توكل رئاسة المجلس لشخصية وطنية توافقية).
كما تضمنت التفاهمات تشكيل لجنة تحضيرية مشتركة للإعداد لمؤتمر وطني مهمته وضع خطة للإنقاذ الوطني على أن يتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتفعيل جمعية التكافل الاجتماعي، وملف المصالحة المجتمعية، وبرامج لمساعدة الشباب، والعمل على حل المشكلات الإنسانية الكارثية التي يعيشها قطاع غزة.
حول دلالات ونتائج التفاهمات
إن تطبيق هذه التفاهمات إذا تجاوز حل المشاكل المعيشية والإنسانية التي يمر بها القطاع إلى عقد أحادي للمجلس التشريعي من دون توافق وطني، وعقد مؤتمر للإنقاذ الوطني بمشاركة فريق ومقاطعة آخر، سيؤدي على الأرجح، شاء أصحاب التفاهمات أم أبوا، إلى تكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال، ومده ليشمل أيضًا مناطق وتجمعات أخرى، بما يهدد بإمكانية إنشاء جسم سياسي موازٍ لمنظمة التحرير.
إن المدخل لإنهاء الانقسام يكون من خلال الشروع في حوار وطني شامل لبلورة رؤية وطنية جامعة، تنبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية تجسد القواسم المشتركة، يتم على أساسها إعادة بناء مؤسسات المنظمة بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وإعادة النظر في شكل السلطة وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها وعلاقتها بالمنظمة لتكون أداة من أدواتها، ولا يكون المدخل بعقد المجلس التشريعي، لأنه مجلس منتخب منذ 11 عامًا، وتحظى "حماس" فيه بأغلبية ليس من الضروري أن تحظى بمثلها إذا جرت انتخابات الآن، ويشكل أعضاء كتلتها وأنصار دحلان في المجلس أغلبية ساحقة، ما يجعل من المستحيل أن يوافق الرئيس و"فتح" على عقد المجلس، وخصوصا أن الحكمة – وليس الحق - تقتضي التوصل إلى حل توافقي يخرج منه الجميع منتصرًا من دون غالب أو مغلوب.
ومن أخطر النتائج المترتبة على كل ما تقدم، أن الانفصال المرشح للتحقق إذا تم تطبيق هذه التفاهمات سيجد دعمًا عربيًا وإقليميًا، وربما دوليًا، في ظل تكاثر الحديث عن صفقة تاريخية لتصفية القضية الفلسطينية، وتدهور الوضع العربي، وانشغاله بأزمات وصراعات داخلية وإقليمية، خصوصًا بعد تفجر الأزمة الخليجية، وسعي كل طرف من أطرافها للحصول على الدعم الفلسطيني الذي إذا لم يتوفر عبر بوابة السلطة والمنظمة يمكن توفيره من خلال دعم طرف فلسطيني لمحور ودعم الطرف الآخر للمحور الثاني، ولعل استقبال مصر لوفد يمثل عمليًا اللجنة الإدارية التي تدير قطاع غزة مجرد دليل لما يمكن أن يحدث، وربما يكون "أول الغيث قطرة".
لا يكفي أن يردد الرئيس ومعسكره أنهم يستهدفون استعادة الوحدة في إطار الشرعية والمنظمة والاحتكام إلى الشعب، لأن ما يجري على الأرض بغض النظر عن الأهداف المعلنة يسرع التحول إلى الانفصال، وشاهدنا كيف أن خطة الإجراءات العقابية لم تؤد إلى تقريب الوحدة أو إسقاط "حماس"، وإنما أدت إلى عكس ذلك، إلى تخفيف المأزق الذي تمر به بعد تفاهماتها مع دحلان، مع العلم أن هناك طريقًا آخر كان بمقدورها السير فيه يتطلب الجرأة وتغليب المصالح الوطنية عبر الإقدام على حل أو تجميد اللجنة الإدارية كبادرة حسن نية، وإبداء الاستعداد للتخلي عن السيطرة الانفرادية على قطاع غزة مقابل قبولها كشريك كامل في المنظمة والسلطة من دون هيمنة ولا تفرد من "فتح" ولا من غيرها، على أساس ميثاق وطني يتم الاتفاق على قواعده وأهدافه وقيمه.
نتيجة كل ما سبق، لم يعد أمام "حماس" في ظل قيادتها الجديدة من أجل البقاء سوى تجرع مرارة التحالف مع "عدوها" دحلان، وتوفير المتطلبات الأمنية لمصر، مع أن ذلك يحمل احتمالات تؤدي إلى تردي علاقتها مع المحور القطري التركي، وضياع فرصة استعادة علاقتها السابقة مع إيران. فمن المفترض أن تدرك "حماس" أنها لا يمكن أن تجمع طويلًا بين التحالف مع المحاور المتصارعة، وعليها أن تختار بينهما، وخصوصًا أن قطر يمكن أن تضحي بـها إذا رأت إمكانية للحفاظ على الحكم إذا فعلت ذلك.
ولا يكفي أن تحدد التفاهمات رفض الانفصال والتمسك بهدف الدولة والمنظمة، لأن ما يجري عمليًا يؤدي إلى خلاف ذلك، فمن سيشارك في اجتماع المجلس التشريعي هم أعضاء المجلس من كتلة "التغيير والإصلاح" وجناح دحلان، مع احتمال مرجح جدًا بمقاطعة نواب الكتل الأخرى إضافة إلى كتلة فتح، الأمر الذي سيؤدي إذا طبقت التفاهمات إلى "حل محلي" يكرس الانقسام ويسرع تحوله إلى انفصال.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: أمن مقابل تخفيف أزمات القطاع
يقوم هذا السيناريو على عدم حدوث تغيير دراماتيكي على الوضع القائم بانتظار ما يمكن أن يحدث في الأزمة الخليجية، وفي قطر والسعودية وغيرهما من البلدان، في ظل عوامل عدم الاستقرار والتغييرات المتلاحقة، وهذا يعني أن تبقى العلاقة المصرية الحمساوية في حدود "أمن مقابل تخفيف الأزمات المعيشية في القطاع"، لا سيما في ظل مخاوف كل من مصر وإسرائيل من إمكانية انفجار الوضع أو حدوث حرب جديدة، مما يعزز مقاربة الأمن مقابل تخفيف الأزمات، من دون أن تصل العلاقة بين "حماس" والقاهرة إلى تغيير أو تغيير كامل للمقاربة المصرية السابقة، التي كان محورها العمل من أجل إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967، ومنع تحقيق الهدف الإسرائيلي برمي قطاع غزة في حضن مصر ورفض انفصاله عن الضفة، على أساس المعادلة المعروفة "لا دولة في غزة ولا دولة من دون غزة".
ويعزز هذا السيناريو أن مصر لا يمكن أن تعطي بسهولة بعدًا سياسيًا أكبر من ذلك لاتفاقها الأمني مع "حماس"، في ظل الدعوة الأميركية لاعتبار "حماس" منظمة إرهابية والمتساوق معها من بعض الأوساط العربية.
ويكبر هذا السيناريو إذا أصرت "حماس" على تطبيق ما تعلنه بأن علاقتها الجديدة مع مصر ودحلان لن تمس علاقتها مع قطر وتركيا وسعيها لاستعادة علاقتها السابقة مع إيران. وبالتالي لن يكون هناك - في ظل تحقق هذا السيناريو - تغيير كبير على عمل معبر رفح، وخصوصًا أن الاعتبار الأمني يتحكم بهذا الأمر أكثر من أي شيء آخر. أي إذا تراجعت العمليات الإرهابية في سيناء يفتح معبر رفح بمعدلات أكبر، وإِذا استمر الحال على ما هو عليه فلن يطرأ جديد يذكر، وإذا تدهور فسيزداد الأمر سوءًا.
ويعزز هذا السيناريو إدراك "حماس" أن دحلان له مشروعه الخاص، وبرنامجه السياسي الذي لا يلتقي كثيرًا مع برنامجها، وارتباطاته الخارجية مع الحلف الذي يكن العداء للإخوان المسلمين و"حماس"، وهذا يعني أن بناء التحالف بينها وبين دحلان لن يكون بالسهولة والبساطة والسرعة التي يتصورها البعض، مع أن نقاط التلاقي بينهما لا يمكن الاستهانة بها أيضًا.
ما سبق يعني أن صراعًا على النفوذ والسيطرة والدور سينشأ بينهما في ظل أن "حماس" لا تستطيع، على الأقل، بسرعة أن تتجاهل كثيرًا أو كليًا بُعدها ومرجعيتها الإخوانية، أو تمس كليًا ببعدها الوطني بالتركيز على تحولها لحركة غزية أكثر من أي شيء آخر، خصوصًا في ظل عدم وجود أفق حقيقي بإقامة دولة في غزة، وإنما الممكن وأقصى الممكنات في ظل المعطيات الراهنة تعزيز وجود كيان مستقل في قطاع غزة سيبقى محاصرًا وتحت السيطرة والتهديد الدائم من إسرائيل، التي ستبقى تنظر لـ"حماس" باعتبارها تهديدًا أمنيًا ما دامت لم تعترف بإسرائيل، ولم تهدم الأنفاق الهجومية، ولم توقف عمليات الحصول على السلاح وتطويره، ولم تتخل عن المقاومة وتنبذها وتحاربها (بحجة أنها إرهابًا) ضدها في ومن غزة والضفة وأي مكان آخر، فمعادلة تشجيع المقاومة في الضفة واستمرار التهدئة في غزة التي تلوح بها ليست جدية بالضرورة، لأن "حماس" إذا مارستها فعلًا ستواجه عدوانًا إسرائيليًا جديدًا ضد القطاع كما حصل في العدوان الأخير، ولا يبدو أنها تريد تكراره على الأقل في هذه الظروف غير المواتية.
السيناريو الثاني: تعميق الانقسام باتجاه الانفصال
يقوم هذا السيناريو، وهو الأخطر، على مضي الرئيس بعيدًا في إجراءاته العقابية، ومضي "حماس" بعيدًا في تطبيق اتفاقها مع مصر وتفاهماتها مع دحلان، مراهنة على أن هذا هو خيار الضرورة و"الضرورات تبيح المحذورات"، مع ما يمكن أن يؤدي إليه من تحول الانقسام إلى انفصال، خصوصًا إذا لم يغير الرئيس من موقفه.
وما يعزز هذا السيناريو أن العرب بلا مشروع عربي ومنساقين وراء المشروع الأميركي الإسرائيلي نظرًا لاعتبار بعضهم أن الخطر الإيراني هو الخطر الأساسي، كما أن فرص انتهاء الأزمة الخليجية لصالح المحور السعودي الإماراتي المصري البحريني أكبر من المحور الآخر.
إن وقوع هذا السيناريو يزيد كثيرًا من فرص نجاح المشروع الأميركي الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية.
السيناريو الثالث: وحدة تدير الانقسام
يقوم هذا السيناريو على أن الوقائع الجديدة والمفاجآت التي حدثت والصدمات التي خلفتها والتغييرات المحتملة والمخاطر والمخاوف من تداعيات ما حدث على "فتح" والرئيس من جهة، و"حماس" من جهة أخرى، يمكن أن يفتح باب الوحدة ولو على طريقة إعادة إنتاج التجارب الوحدوية السابقة، مع وجود فرصة لدمج دحلان وجماعته، إما من خلال مصالحة فتحاوية – فتحاوية، أو من خلال الاعتراف به بعد تشكيله حزبًا سياسيًا جديدًا.
ويعزز هذا السيناريو شعور جميع الأطراف بخطورة ما أقدمت عليه، وما يمكن أن يحدث من عواقب جسيمة جرّاء ذلك، ويقوم كل طرف بالتراجع خطوة إلى الوراء، بحيث تقوم "حماس" بحل اللجنة الإدارية، لأن المطلوب منها في السيناريوهين السابقين ثمن باهظ جدًا، مقابل تراجع الرئيس عن خطة الإجراءات العقابية، والاتفاق على قيام حكومة الحمد الله بعد تعديلها أو تشكيل حكومة جديدة شبيهة بها بعملها في الضفة والقطاع، والتحضير لإجراء الانتخابات على أن يتم الحوار للاتفاق على القضايا العالقة (البرنامج السياسي، المنظمة وكيفية التعامل مع التزاماتها، الموظفين، الأجهزة الأمنية، الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة).
ويعتبر هذا السيناريو إذا تحقق إعادة إنتاج للحلول التي شهدناها منذ وقوع الانقسام وحتى الآن، ما يعني أنه سيكون مؤقتًا ولن يدوم.
ويزيد من فرص هذا السيناريو أن عواقب انفصال غزة كبيرة جدًا، ولا تقتصر على الأضرار التي ستلحق بالشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني وقضيته، وإنما ستعزز من قدرة إسرائيل على فرض مشروعها التصفوي للقضية الفلسطينية، الذي يقوم على استمرار السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وضم معظم الضفة مقابل كيان ذاتي في معازل مقطعة الأوصال ترتبط أو لا ترتبط بعلاقات مع الأردن، وكيان ذاتي لا يرتقي إلى دولة في غزة، يرتبط أو لا يرتبط بعلاقات مع مصر. كما أن الدعم الذي تحصل عليه السلطة من الدول العربية والأجنبية سيقل بشكل ملموس، وسيوزع على السلطتين وفق علاقاتهما مع الدول المانحة.
وما يعزز هذا السيناريو "أن السكرة راحت وبدأت الفكرة تعمل عملها". فرهان الرئيس على صفقة ترامب التاريخية وترحيبه الحار به أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن مفترض أنه تبدد، وأن تحل محله مخاوف متزايدة من الإصرّار الأميركي على عدم وضع هدف إقامة الدولة الفلسطينية كأساس أو هدف للمفاوضات، واعتماد الإدارة الأميركية على الحل الإقليمي رغم الإيحاء بأنها قد تتخلى عن ذلك، وقلب مبادرة السلام العربية رأسًا على عقب من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وتشجيع انفصال غزة، ومطالبة السلطة بوقف دفع رواتب عَائلات الشهداء والأسرى، ووقف التحريض في وسائل الإعلام ومناهج التعليم، وعدم انتقاد إسرائيل، بل تشجيعها على ما تقوم به وما تخطط للقيام به، خصوصًا من خلال إطلاق أكبر مخططات هادفة لتوسيع الاستعمار الاستيطاني، والمضي في الضم الزاحف، وتمهيد الأجواء لضم قانوني لمناطق واسعة بالضفة إلى إسرائيل، ومواصلة الانتقادات الإسرائيلية للسلطة للضغط عليها لتقديم المزيد من التنازلات.
وهذا كله قد (أضع تحت كلمة قد الكثير من الخطوط) يدفع الرئيس إلى تغيير سياسته، ووقف خطته العقابية للقطاع، خصوصًا أنها تكاد تجعل القطاع كله، بما في ذلك أعضاء "فتح"، خارج نفوذه، إضافة إلى أنها ساهمت في تردي شعبيته في الأوساط الفلسطينية كافة. أما "حماس" فمطلوب منها أن تتحول إلى حركة غزية تتخلى عن فلسطين وتغض النظر عن ابتلاع الضفة، أي أن تغيّر جلدها وتحالفاتها وعقيدتها مقابل كيان مستقل وليس دولة في غزة. كل ذلك قد يفتح باب البحث عن المصالحة الوطنية، ولو بأشكال محدودة ولفترة مؤقتة، لكسب الوقت وضمان البقاء.
ويمكن أن يتزايد هذا الاحتمال إذا تحركت القوى والأطراف والأفراد والمؤسسات الحريصة على الوحدة الوطنية؛ للضغط على طرفي الانقسام ووقف التدهور الذي ينذر استمراره بكارثة محدقة.
السيناريو الرابع: الوحدة على أسس وطنية وديمقراطية ومشاركة كاملة
هذا السيناريو بعيد الاحتمال، مع أنه الخيار الأفضل، كونه يعبر عن المصلحة الحقيقية لأغلبية الشعب الفلسطيني، والسبب في ذلك أن الروافع التي يمكن أن تحمله، محليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، ضعيفة، ولا يمكن أن تُحدث التغييرات الجوهرية الضروري حصولها حتى يمكن حدوثه. ومع ذلك، لا خلاص من المأزق العام الذي تعيشه القضية الفلسطينية وأداة تجسيدها الحركة الوطنية إلا من خلال عملية تاريخية تستهدف بناء الروافع الضرورية لتحقيقه، على أمل أن الشعب الفلسطيني صاحب المعجزات سيتحرك في النهاية لفرض إرادته على الجميع، وأن الأوضاع العربية لا يمكن أن تبقى إلى الأبد في الحال الذي تعيشه الآن.
التوصيات
· إعطاء الأولوية لمعالجة المشكلات المعيشية الإنسانية الكارثية التي يعيشها قطاع غزة، الذي لا يستطيع أن ينتظر إلى حين إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، أو أي شيء آخر.
· وقف التدهور وعدم اتخاذ إجراءات جديدة تكرّس الانقسام، مثل الدعوة إلى عقد المجلس الوطني أو المجلس التشريعي للانعقاد من دون اتفاق وطني، أو توسيع أو تعديل حكومة الحمد الله، أو تشكيل حكومة جديدة، أو توسيع وإعادة تشكيل اللجنة الإدارية من دون توافق وطني أيضًا، أو عقد مؤتمرات تقسيمية تحت يافطات وطنية وحدوية.
· حل اللجنة الإدارية ووقف الإجراءات العقابية، والشروع في حوار وطني شامل لتطبيق الاتفاقات الموقعة وتطويرها بما يعالج التحديات والمخاطر والحقائق الجديدة، وبما يمكن من توظيف الفرص المتاحة.
· عقد مؤتمر وطني وحدوي يعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني في الحفاظ على قضيته، من خلال وقف التدهور وتوفير مقومات الصمود والتواجد الفلسطيني على أرض فلسطين، واستعادة الوحدة الوطنية على اعتبار أنها ضرورة وطنية وليست مجرد خيار من الخيارات.
خاتمة
تأسيسًا على ما سبق، مفترض مسارعة كل الحريصين والعقلاء والوطنيين الفلسطينيين في كل مكان، والحريصين على بقاء القضية الفلسطينية حية على امتداد العالم العربي وفِي العالم كله، على التحرك العاجل لمنع استمرار تقدم ونجاح المخططات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر أشكال وأطراف عدة، بما في ذلك على أيدي الفلسطينيين أنفسهم، من خلال مساعدتهم على وقوع الانقسام وتحوله رويدًا رويدًا إلى انفصال بين الضفة والقطاع، الذي سيؤدي إلى تشرذم وتفتيت الفلسطينيين بلا مشروع وطني جامع، ولا مؤسسة وقيادة واحدة، ما يجعلهم لقمة سائغة في فم إسرائيل.
فأسوأ ما يحدث أن الخلافات والتنافسات والصراعات الفلسطينية - الفلسطينية والعربية - العربية لا تدور في الأساس ضمن مشاريع وبرامج مختلفة جوهريًا تستهدف تحقيق الأهداف والقضايا العربية، وإنما تتركز على سعي كل طرف على أخذ دور هامشي في إطار مخططات الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة، بحيث يتم التكيف مع الوقائع التي تفرضها هذه المخططات بدلًا من العمل من أجل فتح أفق جديد قادر على إسقاطها. فجميع الأطراف المتنازعة ترتبط بعلاقات جيدة أو مرشحة للتطور أو لإقامة هذه العلاقات مع الإدارة الأميركية وإسرائيل، بالرغم من أنهما تستهدفان نهب ثروات المنطقة العربية وإبقاءها أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة والصراعات الإثنية والطائفية، وتقسيم البلدان العربية فوق تقسيمها الأصلي حتى لا تقوم لها قائمة لا الآن ولا في المستقبل.