مناسف للعزاء مخلوطة بدماء الاردنيين ومطهية على غاز إسرائيلي
بسام البدارين
سأل بنيامين نتنياهو حارس سفارته القاتل في عمان عبر الهاتف بعد دقيقتين من عبوره الجسر الفاصل بين ضفتي نهر الاردن: قل لي يا «زيف»، هل تواعدت مع صديقتك الليلة؟ يرد القاتل زيف: سيدي رئيس الوزراء هناك متسع من الوقت، وشكرا لك لأنك وعدتني الليلة بان اعود إلى بيتي.
هكذا وببساطة ووضوح من وراء ظهر الحكومة الاردنية عاد الحارس القاتل إلى تل ابيب دون حتى تصريح رسمي يفيد بانه قدم افادته في الجريمة خلافا لما نراه في الأخبار المحلية بين الحين والآخر، لم يستدع القاتل للمركز الامني ولم يقم بتمثيل جريمته في مسرحها ولم يضبط سلاح الجريمة. تعودنا كأردنيين ان يحصل كل ذلك عندما يتعلق الأمر بجريمة جنائية على الأرض الأردنية.
ضربت حكومة الاردن عرض الحائط بكل آمال وشوق شعبها وحتى قصة الحد الادنى من المسؤولية في الوجدان الشعبي على الاقل لم يتحقق ولا توجد قرائن عليه.
اراقب الرأي العام واعيش في عمقه منذ نصف قرن ولم اشهد بصراحة حالة احباط كتلك التي زرعها في المناخ العام بنيامين نتنياهو ليس فقط عندما اوفى بعهده ورفض امتثال موظفه القاتل للقانون في الاردن، بل لأنه استفز مشاعر الناس ووضع في جرحهم وجرح الدولة الاردنية ملحا بكمية كبيرة.
هو ملح لا يصلح لأي تبرير من اي نوع، فقلة الحيلة واضحة وما كنا نتصدى له في النقاشات والحوارات المغلقة حول وجود خبرة اردنية في ملاعبة الاسرائيلي وعمق في مناجزته بعض الاحيان، ثبت في الوجه القاطع انه مجرد اوهام فالمجموعة التي تبرر في ادارة السياسة الاردنية حالة الضعف الشديد امام اسرائيل اكبر بكثير من المجموعة التي تؤمن بإسرائيل.
عموما غادر القاتل بعد نحو 24 ساعة من ارتكاب جريمته على الارض الاردنية بدم بارد دون ان نعرف حتى ما إذا كان سيخضع للقانون والمحاكمة في كيانه كما حصل مع الجندي احمد الدقامسة، ودون ان نعرف ما اذا كان الاتفاق السري مع نتنياهو يتضمن مثلا حق التعويض المالي لذوي الضحايا وبالصورة نفسها التي تفاوض فيها عمان اهالي ثلاثة امريكيين في واشنطن قتلهم جندي اردني، ويطالبون حسب المعلومات بمليار دولار لكل منهم على الأقل.
غادر القاتل زيف عمان، وسط الحراسة وبقرار سياسي عابر للحكومة وبدون إجابة على كل تلك الاسئلة المعلقة وحتى بدون بيان رسمي او شروحات تخديرية، من طراز تلك التي تدفع بها الحكومات إلى السوق لتبرير ضعفها او صفقاتها باستثناء تسريبات هنا وهناك تحاول مرة الاحتفال بمقايضة خاسرة مع ازمة المسجد الاقصى وترعب الاردنيين مرة اخرى بالحديث عن تدخل قوى عظمى.اشك شخصيا بان قوى عظمى تتدخل لتأمين مغادرة قاتل جنائي لا يحمل الصفة الدبلوماسية بعد اقل من 24 ساعة على ارتكاب جريمته.
هي طبعا قلة الحيلة وتجبر الموقع الجيوسياسي بالشعب الاردني العظيم، وهو نفسه الموقع الذي كان يمكن توظيفه واستثماره باتجاه الحد الأدنى من استقلالية القرار، خصوصا في مواجهة عدو غدار وخصم مجرم وفي مواجهة لعبة التوازنات كما كان يحصل في الماضي.
لكنه اليوم استثمار مستحيل ليس بسبب قلة الحيلة فقط ولكن بسبب ازمة الادوات التي طالما كلفت الاردنيين على مستوى الشعب والافراد ثمنا باهظا لأن ادوات الادارة في كل القضايا غير منسجمة او خاملة او ضعيفة وبالتالي تفتقد للمهارة حتى في التخريج المسرحي للأحداث وحتى عندما يتعلق الامر برسم سيناريو من اي نوع.
لا نعرف كأردنيين من الذي يتخذ القرار في المفاصل وقضية السفارة الاسرائيلية لم تكن مفصلية وكان يمكن التعامل معها ببساطة باعتبارها مسألة قانونية تتعلق بجريمة جنائية تماما كما وعد وزير الداخلية غالب الزعبي عائلة احد الشهداء وهو يقول بان دم الشهيد برقبتنا كحكومة.
استطاع القاتل زيف تنظيم لقاء حميم بعد جرح طفيف مشكوك فيه مع صديقته في الليلة الثانية لارتكاب جريمته، اسم هذا القاتل وما فعله سيستقر في اذهان الاردنيين لسنوات طويلة وسيراكم احباطا على احباطهم وسيصبح بالضرورة دليلا لا يعرف الرحمة عن ذلك الفارق البسيط ما بين التوزان السياسي والدبلوماسي والخضوع او الخنوع.
الاردنيون في حالة احباط وصدمة بسبب الطريقة التي اديرت فيها تفاعلات جريمة سفارة اسرائيل في ضاحية الرابية.
لا يمكن توجيه اللوم للمواطنين الذين شاهدوا بأم اعينهم كيف يفلت الجلاد بدون الحد الادنى من تطبيق الاستحقاق القانوني وبلعبة غامضة، فيما يدان الضحايا بلغة تقول بان الشهيد الاول تهجم على القاتل وهي رواية لم تثبت اصلا وبأن الشهيد الثاني مالك العمارة التي يستأجرها الاسرائيليون قتل بالخطأ وجراء صدفة دفعته للتواجد في المكان.
حتى التخريج المسرحي المألوف في العمل السياسي لم يضبط ايقاعه هنا ولم تظهر اي اشارة تقول بان الملف ادير بمهارة او حتى بتوافق بين النخب المعنية او بعلم جميع المؤسسات.
لا اخفي شخصيا شعوري بالمرارة لأن مسؤولين كبيرين كانا يتحدثان لي شخصيا عن قرار مرجعي بعدم مغادرة القاتل الاسرائيلي قبل خضوعه للتحقيق والقضاء الاردني وعلى هذا الاساس وقع وزير الداخلية قرار منع السفر فيما سافر القاتل المجرم على حد علمي بدون وثيقة رسمية تلغي وثيقة قرار منع السفر الاولى.
مؤسف للغاية ما حصل. لكنه حكم الجغرافيا ووقائع قلة الحيلة والتقاط قد يعتبره البعض ذكيا لتهديدات الاسرائيليين بعد الجريمة بقطع المياه عن الاردنيين، وبركل مؤخراتهم، مع ان الاردن في موقع يؤهله لركل مؤخرات الاسرائيليين ومع ان المياه اردنية وفلسطينية مسروقة اصلا. السبب في تقديري الشخصي يعود إلى الخطأ الاستراتيجي العميق المتمثل بتوقيع اتفاقية الغاز الاسرائيلي وارتهان ملف الطاقة الاستراتيجي لعدو غدار لا يمكنه ان يعبر عن دلالات السلام والجيرة الآمنة.
يستطيع اهل الضحايا دفن جثامينهم، فالقاتل عاد إلى بيته والمقتول دخل إلى قبره كما وصف الشاعر عارف البطوش.
وقبل استقرار عظام الشهداء الاردنيين تحت التراب يمكن لمئات المعزين والمشيعين ان يهتفوا عند المقبرة براحتهم ضد العدو واتفاقية السلام وان يخضعوا لإبر التخدير البيرقراطية قبل تناول وجبة مناسف على مدار ثلاثة ايام مخلوطة بدماء الاردنيين ومطهية على غاز الاسرائيلي.
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»