التربية الجمالية للبصر.. التربية المعرفية للبصيرة
معاذ بني عامر
في التأسيس لموضوعة التربية الجمالية للبصر، والتربية المعرفية للبصيرة، لا بد لي من أن أنشئ معادلة، أولها الإنسان وأوسطها العيون وآخرها العالَم، ثم الانتقال من العالَم مروراً بالعيون وصولاً إلى الإنسان:
الإنسان --- العيون --- العالَم
العالَم --- العيون --- الإنسان
لناحية توسّط العيون للعلاقة الجدلية بين الإنسان والعالم، والإمكان التفاعلي بينهما عبر هذا الجسر العظيم.
وبما أن العيون وسط بين متنين كبيرين، فهي بمثابة (القارئ/ الناقد) لتينك النصّين:
فما يخرج من الإنسان إلى العالَم عبر نافذة العيون، بحاجةٍ إلى نقدٍ ضابط، بحيث يكون حكمه على العالَم حُكماً ينسجم مع خيرية الإنسان وتطوّراً في تعديله على يقينياته المبدئية وغرائزئه التأسيسية. إذ كيف لمتدين أن ينظر إلى فتاة تلبس فستاناً قصيراً دون أن يُطلق عليها حكم قيمة يجعلها آثمة هنا في الحياة الدنيا ومحكوم عليها بالعذاب هناك في الحياة الآخرة؟ وكيف لإنسان عادي أن ينظر إلى فتاة تلبس فستاناً قصيراً دون أن يعتبرها فريسة ينبغي الانقضاض عليها؟.
وكيف لغير متدين أن ينظر إلى فتاة تلبس جلباباً دون أن يعتبرها متخلفة، بما يجعله وفياً ليقينيات يحملها حول كل ما هو ديني؟.
وكيف لفتاة تلبس فستاناً قصيراً أن لا تعمل على تحويل لباسها إلى حالة شاذة لا تسعى إلا إلى لفت الانتباه؟.
كيف للعيون أن تتحوّل إلى (قارئة/ ناقدة) لهاتِهِ الحالات وشبيهاتها، لا سيما ما تعلّق منها بحالة الخروج من الإنسان؟
وما يدخل من العالَم إلى الإنسان عبر بوابة العيون، بحاجةٍ إلى نقد ضابط هو الآخر، بحيث ينسجم ذلك مع تطلّعات وأشواق الإنسان ناحية عالَم أفضل وأجمل. إذ كيف لحجرٍ مهوش أو صخرة صمّاء أن تتحوّل إلى شيء بهيج وجميل يعمّق الشعور الجمالي لدى الإنسان، ويجعله يغتبط بما كان سلبياً وغير فاعل في علاقة الإنسان بالعالَم؟.
وكيف لنبتةٍ صغيرة متبرعمة على سفح جبل عالٍ أن تتحوّل إلى ما هو جميل وماتع بالنسبة للإنسان؟.
كيف للعيون أن تتحوّل إلى (قارئة/ ناقدة) لهاتِهِ الحالات وشبيهاتها، لا سيما ما تعلّق منها بحالة الدخول إلى الإنسان؟
في حالة الخروج من الإنسان عبر نافذة العيون، كما في حالة الدخول إلى الإنسان عبر بوابة العيون، افترضُ افتراضاً مبدئياً لناحية الحاجةٍ إلى تربية جمالية للبصر، بما يفضي إلى رؤية أنقى وأفضل وأخيَر في التعامل بين الإنسان والعالَم. لكن الأسئلة التي ذكرتُ بعضها آنفاً، قد تفضي إلى الإطاحة بهذا الافتراض، لا سيما إذا ما انطلق الإنسان من رؤى مسبقة أو أحكام قَبْلية في الحُكم على ما تراه العين في الخارج. فإذا ما تربّى الإنسان على نمطٍ محدّد من اللباس، بصفته لباساً خلاصياً ينبغي على بقية الناس التقيّد به، لكي يحظوا بهذا الخلاص، فستنشأ إشكالية في التعامل مع كل من لا يلبس هذا النمط من اللباس. ستنشأ إشكالية لدى من يرى في جلباب المرأة أو حجابها لباساً خلاصياً إذا ما شاهد فتاة لا تلبس حجاباً أو تلبس بنطال جينز. وستنشأ الإشكالية ذاتها لدى من يرى في تنورة المرأة لباساً خلاصياً إذا ما شاهد فتاة مجلببة. ولن يكون للعيون، والحالة هكذا، أي دور قرائي/ نقدي، قائم على البحث عن مقاربة تخدم غرضية الإنسان الخيرية في هذا العالَم، بل سيتحوّل دورها إلى دور تشويهي، لا يستهدف قيمة الجمال فحسب، بل فكرة التنوّع أيضاً. وذلك بالتعقيب سلباً على كل الأنماط التي لا تتفّق مع أحكامه المسبقة على العالم الذي يعيش فيه. فرُبّ فتاة تلبس فستاناً قصيراً تُشكّل ملمحاً جمالياً باهراً لمتدين إذا ما قارب العالم خارج إطار ما هو حلال وحرام. ورُبَّ فتاة تلبس جلباباً بهياً تُشكّل ملمحاً جمالياً باهراً لملحدٍ إذا ما قارب العالَم خارج إطار مفهومه.
إذاً، ثمة افتراض يمكن أن يتجاوز حالة الحَدَّية أثناء (خروج/ دخول) العالَم إلى الإنسان، عبر (نافذة/ بوابة) العيون، متمثّل بـ التربية الجمالية للبصر كما اصطلحتُ على ذلك آنفاً. لكن لن يستقيم لهذه التربية أن تكون ذات جدوى إلا إذا سبقها تربية معرفية للبصيرة. فالنقطة الأولى التي ينطلق منها البصر في معاينة العالَم هي البصيرة الداخلية، لذا أجدى أن تكون المعالجة معالجة جوهرية، لا معالجة عرضية. فالجسر الذي يعبره المرء لكي يُعاين العالَم جمالياً، عليه أن يكون قد انبنى من مادةٍ لديها القدرة على الاستبصار حتى وهي في العتمة الداخلية. فالبصر الذي لا يُزوّد بنورٍ داخلي ابتداءً، سيبقى بصراً قاصراً عن تفهّم فكرة الثراء التي لا يمكن أن تقوم للحياة قائمة دونها.
لذا، سيكون من الأجدى تربية العقل أو البصيرة معرفياً، قبل الانتقال إلى تربية البصر جمالياً. لكن، أليس في مقولات مثل "تربية العقل على أنّ النحت حرام"، أو "لبس الجلباب تخلّف"، نوعُ من التربية العقلية؟.
بلى، هي كذلك، لكن هذه التربية تضرّ أكثر مما تنفع، فهي من نوع المعارف التي تفرز بشكلٍ مبدئي. لذا سيكون لباس المرأة فستاناً قصيراً نوعاً من الفجور والمياصة والصياعة، وسيكون مراقبة غروب الشمس وقت الحروب نوعاً من العبث الزائف، وسيكون النحت حراماً، وستكون مراقبة عَظمَة الإله في نهر الغانج زندقة لمن غرسوا في ذهنه أن يهوه لا يتجلّى إلا في الكنيس، أو أن الربّ لا يتجلّى إلا في الكنيسة، أو أن الله لا يتجلّى إلا في المسجد، أو أن بوذا لا يتجلّى إلا في المعبد.
وعليه، فستكون المعرفة التي يتأسّس عليها البصر في معاينة العالَم الخارجي، هي المعرفة التي تتفّهم الشرط الإنساني في وجوده التعدّدي ابتداءً. فالعالَم من الثراء بمكان بحيث لا يمكن أن يتم استيعابه من قبل نمط معرفي واحد، سواء أكان فلسفة واحدة أو دينا واحدا أو علما واحدا أو أدبا واحدا أو نبيا واحدا أو فيلسوفا واحدا أو حدّادا واحدا أو راقصة واحدة أو روائيا واحدا أو عينا واحدة أو ذهنا واحدا، بل لا بد من الكل. وتفّهم الإنسان أنه جزء صغير في هذا الكُلّ الكبير، سيجعل من بصره بصيرةً تتجلّى في كل ما هو جميل وبديع في هذا العالَم، فـبَدَلَ أن يضيق ببصيرته الداخلية نتيجة لتربية معرفية منصوص عليها مسبقاً، فإنه يتسع ببصره الخارجي نتيجةً لتربية جمالية تبحث بشغفٍ عن كل ما يُكمل مسيرتها الخيرية في هذا العالم.
فَبَدَلَ أن ينظر إلى من تلبس تنورة قصيرة نظرة غرائزية أو نظرة تحريمية، وفقاً لصيغ التربية الأحادية القاسية؛ فإنه ينظر إليها نظرة تهذيبية في المرة الأولى، ونظرة جمالية في المرة الثانية، وذلك كله وفقاً لأنماط التربية التعدّدية، التنوّعية، التي تسعى إلى الإثراء، لا إلى الإقصاء.
وَبَدَلَ أن يُبقي على الحجر ككائنٍ أصمّ لا معنى له وفقاً لرؤى لا ترى فيه أي فائدة ترجى على المستوى الجمالي، فإنه يسعى إلى تحويله إلى منحوتة جميلة تُبهر العيون.
وَبَدَلَ أن يُبقي على الزهرة على سفح جبل بصيغتها الأصلية، فإنه يسعى إلى تعديلها بما يخدم غرضية الإنسان الخيرية في هذا العالم، كأنّ يحوّلها إلى عقار طبي مثلاً.
فما (يخرج/ يدخل) (من/ إلى) الإنسان عبر (نافذة/ بوابة) العيون، من الأهمية بمكان للتأسيس لحياة تشاركية ترقى بالمعارف المتنوّعة، وذلك بتحويلها إلى جماليات خيرية في الاجتماع الإنساني.