خالد الحروب
«وعد بلفور» لم يكن وعداً عابراً بل استراتيجية بريطانية
الأحد، ٢٤ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧
في أكثر من نقاش سياسي أو أكاديمي، نسمع رداً بريطانياً يكاد يكون ثابتاً على الاتهامات الفلسطينية والعربية والإنسانية والعدالية التي تقول إن لندن هي التي أسست للمأساة والكارثة الفلسطينية عبر إصدارها ورعايتها وعد بلفور سنة 1917. الرد البريطاني الثابت يقول إن ظروف الحرب العالمية الأولى التي صدر فيها الوعد أملت على التاج البريطاني آنذاك إصدار وعود كثيرة لأطراف عديدة ومتناقضة، وكلها كانت تهدف إلى تقوية موقع بريطانيا في الحرب، وضمان وقوف حلفاء إلى جانبها، أو إغراء حلفاء آخرين بالانخراط في الحرب.
ووعد بلفور، الذي ستمر مئويته المشؤومة بعد أقل من شهرين من اليوم، كان يستهدف تحقيق غايتين في هذا السياق الحربي، الأولى هي إبقاء روسيا منخرطة في الحرب بخاصة بعد ثورتها البلشفية التي حملت شعارات ضد الإمبريالية والتوسع واحتلال أراضي الشعوب الأخرى، ويمكن تحقيق هدف إبقاء روسيا في الحرب من طريق استمالة ورشوة اليهود الروس المتنفذين عبر الإعلان والوعد البريطاني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. والغاية الثانية المشابهة تماماً هي استمالة اليهود الأميركيين النافذين عبر هذا الوعد. وضمن سياقات ديبلوماسية وتقسيمية أخرى، كانت ثمة غايات أخرى كمنت خلف إصدار الوعد منها تعديل اتفاق سايكس بيكو الشهير، سنة 1916، والذي قسم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا وأبقى على فلسطين كـ «منطقة دولية». ومن تلك الغايات أيضاً التحلل علنياً من الغموض الذي اكتنف وضع فلسطين في الوعود المُجهضة التي أعطيت للشريف حسين عبر المندوب السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهون في سنتَي 1915 و1916.
بيد أن الرد والزعم البريطانيين الثابتين اللذين يحيلان «وعد بلفور» إلى سياسة الحرب التي تبحث عن جمع حلفاء تكشف زيفهما الحقائق التاريخية، وكلها تشير إلى هذا الوعد من دون كل الوعود الأخرى كانت له «قدسية بريطانية» خاصة. وإلى ذلك، يدلل أيضاً السياق التاريخي للأحداث بعد إعلان وعد بلفور وحتى مغادرة بريطانيا فلسطين وتسليمها جاهزة للحركة الصهيونية وكيانها الدولتي الموازي الذي ظل يتشكل ويُدعم من جانب البريطانيين لما يُقارب من ثلاثة عقود. فمنذ صدوره وتلاحق المندوبين الساميين البريطانيين منذ أوائل عشرينات القرن الماضي وهم يحملون تفويضاً أساسياً وشبه حصري: خلق البيئة السياسية والاقتصادية والعسكرية المواتية لتنفيذ إعلان اللورد بلفور لليهود بالعمل على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. الوعد البلفوري تعتبره إسرائيل إحدى الشرعيات المؤسسة للكيان المغروس في قلب المنطقة العربية ورغم أنف شعوبها وشعب فلسطين على وجه التحديد. فبريطانيا صاحبة الوعد ومصدرته كانت الدولة المنتدبة من «عصبة الأمم المتحدة» على فلسطين والأردن والعراق، وما كانت تقوم به من سياسات وقرارات كانت تفترض، كما افترض الصهاينة ومؤيدوهم فيما بعد، أنه يعبر عن «الإرادة الأممية» ويحظى بشرعيتها، ومن هنا يأتي تمسك إسرائيل القوي بـ «وعد بلفور». بعد سنوات من انتصار بريطانيا والحلفاء في الحرب العالمية الأولى، بدأت بريطانيا وفرنسا بدفع الفاتورة العالية للنصر المُكلف وتبدى ذلك في الشقوق المتزايدة في إمبراطوريتيهما الاستعماريتين في آسيا وأفريقيا. وبدأت حركة التحرر من الاستعمار في العديد من البلدان تتزايد، وتلقي بالمزيد من الأسئلة حول جدوى وإمكان وكلفة بقاء الاستعمار في الكثير من المناطق ومنها فلسطين. أهمية فلسطين بالنسبة للاستعمار البريطاني، والكلفة المترتبة عليه ومعه استعمار الأردن، لم تواز مثلاً أهمية السيطرة على قناة السويس أو العراق وخطوط المواصلات سواء البرية أو البحرية إلى الهند. عملياً إذاً، لم يكن ثمة مسوغ استراتيجي كبير لاستمرار احتلال فلسطين، بخاصة بالمقارنة بالانسحاب التدريجي من شرق الأردن ودعم قيام دولة مستقلة فيه وإمدادها بالدعم المؤسساتي والمالي. المسوغ الوحيد والحصري والذي شغل بال الساسة البريطانيين خلال فترة الانتداب والاحتلال لفلسطين تجسد في كيفية تمهيد الأرض لقيام كيانية يهودية مستقلة قوية عسكرياً واقتصادياً وقادرة على التغلب على خصومها.
لم تأبه السياسة البريطانية آنذاك ولا قادتها سواء في القدس أو لندن للرفض العربي والفلسطيني الشديد والمتواصل لفكرة وعد بلفور، كما لم تأبه لتطور تعبيرات ذلك الموقف من طريق الثورات والعصيانات المتتالية بدءاً بثورات أوائل العشرينات ثم ثورة البراق سنة 1929 وليس انتهاء بالثورة والإضراب الكبير سنة 1936 وقبلها وبعدها بالحركات الفدائية المسلحة كحركة عز الدين القسام في شمال فلسطين وغيرها. كل ما كانت تقوم به بريطانيا إزاء الفلسطينيين والعرب هو مدهم بالمزيد من الوعود الديبلوماسية الكاذبة التي تحوم حول طمأنتهم بأن حقوق العرب في فلسطين سوف تُصان على رغم مسؤولية بريطانيا التي لا يمكن التنصل منها تجاه تنفيذ وعد بلفور. والغريب والمؤلم في آن معاً أن جزءاً كبيراً من القيادات العربية إن لم يكن معظمها، كان يقبل بتلك الوعود ويضغط على القيادات الفلسطينية للبقاء والالتزام في «خط الجهود الديبلوماسية» وعدم الانجرار إلى «العنف والثورات والإضرابات».
ونعرف أن إنهاء الإضراب الكبير سنة 1936 قد حدث، بعد أن تدخلت القيادات العربية و«طمأنت» الفلسطينيين بأن «شرف الحكومة البريطانية» لا يسمح لها إلا بالحفاظ على وعودها بحفظ حقوق العرب. والأغرب من ذلك هو أن جزءاً كبيراً من القيادات الفلسطينية، مع الإقرار بمحدودية خياراتها، كان يقبل تلك التطمينات العربية البريطانية، وينخرط في سياسة بلهاء وبالغة التساذج بخاصة أن الساسة البريطانيين كانوا واضحين ووقحين أيضاً في التعبير عن أهدافهم في فلسطين. وكان على رأس هؤلاء تشرتشل ذاته الذي رفض هو ومندوبه السامي في فلسطين هربرت صاموئيل اعتبار الوفد الفلسطيني الذي سافر إلى مؤتمر سان ريمو سنة 1921 وفداً رسمياً، والتقى به على أساس أنه مجرد وفد غير رسمي يمكن الاستماع له. وفي اجتماعين متتاليين مع الوفد في لندن، كرر تشرتشل على مسامعهم أن مجرد الحديث عن إلغاء وعد بلفور مرفوض، وأن الحديث الوحيد «العملي والمقبول» هو كيفية تنفيذ هذا الوعد مع ضمان حقوق العرب. أما ممثله في القدس، هربرت صاموئيل، اليهودي الصهيوني بامتياز، فلم يكن أقل تعبيراً ووقاحة في الإفصاح عن طبيعة مهمته في فلسطين، والتي تركزت على تعزيز الكيانية والمؤسساتية اليهودية والصهيونية وتسهيل إقامة البنية التحتية للدولة القادمة، مع ضمان تفتيت وإنهاك أي مؤسساتية أو كيانية فلسطينية والعمل على إدامة الشقاق والخلاف في الجانب الفلسطيني تبعاً لسياسة «فرّق تسد» بحيث تكون الأوضاع و«الوضع القائم» بعد عقد أو عقدين من السنين كلها تشير إلى أن الطرف المؤهل والقادر على تسلم البلاد هو الحركة الصهيونية ومؤسساتها. وثمة حوار وثقته بيان نويهض الحوت في كتابها حول القيادات والمؤسسات الفلسطينية خلال حقبة الاحتلال البريطاني بين مستشار تشرتشل والوفد الفلسطيني إلى لندن في شهر آب (أغسطس) 1921 يؤكد تلك السياسة البريطانية. وفيه يوجه الوفد سؤالاً إلى المستشار يقول: «هل هناك اتفاق مع الصهاينة يؤدي لأن يكون المندوب السامي دائماً صهيونياً؟» فيجيب المستشار بالقول: «أنا أستطيع أن أؤكد لكم أن حكومة جلالته مصممة على أن المندوب السامي سيكون دائماً صهيونياً، ولكن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى أن يكون يهودياً. إن ممثل حكومة جلالته بالتأكيد يجب أن ينفذ مآرب حكومة جلالته (في تطبيق وعد بلفور). أنا صهيوني لأنني خادم في حكومة جلالته». ومرة أخرى وعلى رغم أن خط السياسة البريطانية كان واضحاً وصارماً في التأييد الذي لا مساومة فيه للحركة الصهيونية ومشروع إقامة وطن لليهود في فلسطين، إلا أن الاستجابة العربية والفلسطينية ظلت باهتة وتعقد الأمل على حكمة وشرف الحكومة البريطانية. ولم تتغير قناعات التيار الرئيس للقيادات الوطنية الفلسطينية، فضلاً عن العربية، وإيمانهم باستراتيجية نهج الديبلوماسية والسياسة والإيمان بـ «نزاهة وعدالة» الحكومة البريطانية سواء في لندن، أو وكيلتها الانتدابية في القدس.