أرض إسرائيل بين الوعد الديني والدولي
سياح يشاهدون منظرا بانوراميا لمدينة القدس وقبة الصخرة من جبل الزيتون يوم الثلاثاء الماضي
هآرتس
شاؤول أريئيلي
"في التوراة كُتب أن الله قد وعد شعب إسرائيل بأرض إسرائيل". هذا الادعاء يتردد كثيرا على لسان وزراء واعضاء كنيست. "نحن لا نريد أكثر من ذلك"، يكررون القول ويلخصونه بهذا الادعاء. وحسب اقوال الحاخام غورين "أي قانون قومي أو دولي لا يستطيع تغيير موقفنا وحقوقنا... إن حكم هذه الأرض، حسب التوراة، هو أن أرض إسرائيل تحت الحكم اليهودي بشكل كامل وتسري عليها السيادة، الملكية يهودية".
عمليات التهويد لكل مجالات حياتنا لا تتخطى تاريخ الصهيونية. وحتى أنها تمنح الرواية الصهيونية اهتماما زائدا. إن الجهود المستثمرة من قبل وزراء حكومة إسرائيل لشطب التاريخ القانوني في انشاء دولة إسرائيل هي جهود كبيرة. وهم يهدفون إلى استبدال القوة الدولية لحق الشعب اليهودي في دولته في بلاده بذرائع دينية ومسيحانية تنفي أي تنازل.
اولا، هذه محاولة لتوحيد حق وجود الدولة القومية اليهودية في أرض إسرائيل، مع الايمان الديني. أي أنه إذا لم تؤمن بالوعد الالهي بإعطاء أرض إسرائيل للشعب اليهودي فإنك لا تستطيع تبرير وجود دولة إسرائيل. ان وجود القومية اليهودية لا يقتضي تطبيق تقرير المصير للشعب اليهودي في وطنه. ثانيا، هذا التوحيد ينفي أي فكرة للتنازل والمصالحة على خلفية الواقع الراهن، لأن موقفهم الذي يقضي بأن كل تنازل "عن مناطق في إسرائيل"، يشكل نفيا متعمدا لقدسية الأرض والوحدة بين الاجزاء. أي أن التنازل عن أي مناطق لا يمكن تنفيذه من قبل من يؤمنون بالوعد الالهي.
إن الجهل بتاريخ الصهيونية، الآخذ في التزايد بصورة متعمدة في اوساط الطلاب في الجهاز التعليمي بشكل خاص، وفي اوساط الجمهور الإسرائيلي بشكل عام، يعطي وسادة مريحة لمن يسعون إلى التهويد، وتحويل الصراع القومي إلى صراع ديني، حيث أن استنادهم إلى الادعاءات الايمانية عديمة الصلاحية السياسية والقانونية في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، تضعضع الاسس القوية والثابتة للرواية الصهيونية التي يقبلها المجتمع الدولي منذ مئة عام.
إن قصة قيام دولة إسرائيل هي قصة تراجع القدسية والمسيحانية مقابل العلمانية والعلم فيما يتعلق بتحمل المسؤولية عن مصيرنا. "الايمان يوحدنا، العلم يحررنا"، كتب هيرتسل في كتابه "دولة اليهود". لقد سبق وقرر المؤتمر الصهيوني الاول في قراراته المتفق عليها في 1897 أن انشاء دولة للشعب اليهودي في أرض إسرائيل سيرتكز على اعتراف وشرعية قانونية وسياسية من المجتمع الدولي، على القاعدة المقبولة والمعترف بها في ذلك الوقت. عمليا، حظي هذا التطلع الصهيوني بصلاحية سياسية – قانونية وتاريخية وعملية – متساوية واخلاقية من قبل المجتمع الدولي.
أولا، القوة السياسية – القانونية، التي تتشكل من ثلاث طبقات. الطبقة الأولى هي وعد بلفور الذي اعطي من قبل بريطانيا، وهي القوة العظمى التي احتلت أرض إسرائيل في الحرب العالمية الأولى. وقد استندت قوتها على "مبدأ الامبريالية" الذي شكل اساس التقليد العالمي حتى بداية القرن العشرين. م.ت.ف أيضا كانت تعرف قوة وصلاحية الوعد، كما كتب في 1979 ادوارد سعيد، عضو اللجنة التنفيذية في م.ت.ف: "أهمية الوعد هي قبل كل شيء حقيقة أنه القاعدة القانونية لمطالبة الصهيونية بفلسطين".
الطبقة الثانية هي قرار الدول العظمى المنتصرة في مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920، باعطاء بريطانيا وفرنسا الانتداب على المناطق التي تم احتلالها في الشرق الاوسط ومن ضمنها فلسطين، التي سينفذ فيها وعد بلفور. هذه الدول اعترفت بصلاحية طموح الصهيونية، مثلما صرح بذلك وزير خارجية فرنسا في حينه، جيل كومبو، في حزيران 1917: "سيكون من العدل والتعويض دعمنا، بمساعدة الدول العظمى، لاحياء القومية اليهودية في نفس البلاد التي طردوا منها قبل مئات السنين. الحكومة الفرنسية (...) ليس لها سوى دعم انتصاركم". وفيما بعد في 1919 صرح الرئيس الأميركي وودرو ولسون: "لقد اقتنعت بأن الدول الحليفة، بموافقة كاملة من حكومتنا وشعبنا، توافق على أن توضع في فلسطين الأسس للمجتمع اليهودي".
إن قوة قرار الدول العظمى تستند إلى مبدأ تقرير المصير الذي وضعه ولسون وتم تبنيه من قبل عصبة الأمم التي أنشئت في حزيران 1920 في اعقاب مؤتمر السلام في فرساي. المادة 22 في ميثاق عصبة الأمم نصت على أن الشعوب التي لم تنضج بعد من اجل الاستقلال، يجب وضعها تحت رعاية وحكم شعوب اكثر تطورا، تعدها تدريجيا للاستقلال، من اجل نقل الحكم اليها في نهاية الامر.
الطبقة الثالثة هي اعتراف ودعم المجتمع الدولي. أولا، المصادقة بالاجماع (بما في ذلك ايران) من قبل عصبة الأمم في 1920 على وثيقة الانتداب على فلسطين الذي أعطي لبريطانيا، والتي فيها القيت على بريطانيا المسؤولية عن "خلق الظروف السياسية والادارية والاقتصادية في البلاد، التي تضمن انشاء الوطن القومي اليهودي". ثانيا، قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947، الذي حدد تاريخ انتهاء الانتداب وانشاء الدولة اليهودية المستقلة على 55 في المائة من أرض فلسطين – أرض إسرائيل.
الصلاحية الثانية التي حظي بها طموح الصهيونية جاءت من العلاقة والتواصل الجغرافي بين الشعب اليهودي ووطنه. عصبة الأمم رفضت ادعاء العرب (وعدد من اليهود) بأن اليهودية هي ديانة وليست قومية. لذلك فإن من يؤمنون بها ليس لهم حق في تقرير المصير. وأن الادعاء بعدم وجود علاقة بين يهود القرن التاسع عشر وأرض إسرائيل، كما كتب في المادة 20 في الميثاق الفلسطيني "وعد بلفور وصك الانتداب وملحقاته"، يعتبر باطلا. الادعاء بشأن العلاقة التاريخية أو الروحية لليهود في فلسطين لا تتساوق مع الحقائق التاريخية، أو مع مكونات الدولة بالمعنى الحقيقي. اليهودية كدين سامي ليست قومية ذات وجود مستقل، وكذلك فإن اليهود ليسوا شعبا واحدا، له شخصية مستقلة، بل هم مواطنون في الدول التي ينتمون اليها.
ونستون تشرتشل، وزير الحرب البريطاني، كتب عن ذلك في 1919: "ان هذا عادل تماما، ان يكون لليهود المشتتين في ارجاء العالم، مركز قومي ووطن قومي، يستطيعون فيه الاتحاد. وأين يمكن أن يكون إذا لم يكن في أرض إسرائيل، التي هم مرتبطون بها منذ أكثر من 3 آلاف سنة بعلاقات وثيقة وقريبة جدا؟". بعد ذلك كتب في صك الانتداب في 1922 بصورة واضحة وبدعم كل الدول الاعضاء ان "اعطي بهذا اعتراف بالعلاقة التاريخية بين الشعب اليهودي وفلسطين، وحقه في اعادة انشاء وطنه القومي في هذه البلاد".
الصلاحية الثالثة هي التبرير العملي – المتساوي لطموح الصهيونية. وزير الخارجية بلفور رأى في حل المشكلة اليهودية ضرورة ملحة يتم تلبيتها بتقسيم عادل. في مذكرة كتبها في آب 1919 أكد على أن "الصهيونية، سواء كانت محقة أو غير محقة، سيئة أو جيدة، فإنها ترضع من تراث اجيال، من حاجات الحاضر وآمال المستقبل". لهذا فإنه يرى أن تخصيص جزء من الاراضي العربية التي احتلت من قبلهم للشعب اليهودي كأمر عادل، ويكتب في ايار 1920: "بقدر ما يتعلق الأمر بالعرب، فإنني آمل أن يتذكروا أننا انشأنا دولة عربية مستقلة في الحجاز (...) وأننا نطمح إلى شق في بلاد ما بين النهرين الطريق لمستقبل دولة عربية مستقلة، وهكذا عندما يتذكرون كل ذلك، لن تكون عيونهم ضيقة بخصوص قطاع ضيق (من ناحية جغرافية هذا ليس أكثر من ذلك، مهما كانت من ناحية تاريخية)، داخل المناطق العربية، والتي ستعطى لشعب انفصل عنها منذ مئات السنين".
الصلاحية الرابعة هي التبرير الاخلاقي. امنون روبنشتاين والكسندر يعقوبسون تناولا ذلك في كتابهما "إسرائيل وأسرة الشعوب"، حيث كتبا "في حين أن الطموح اليهودي للاستقلال القومي لم يكن يختلف في جوهره عن الطموحات القومية لشعوب اخرى، فإن الاسلوب الذي طبق فيه الشعب اليهودي حقه في تقرير المصير كان استثنائيا حقا – لأن التراجيديا اليهودية كانت أيضا استثنائية. هل هذا ينتقص من التبرير الاخلاقي لتطبيق هذا الحق، في حالة الشعب اليهودي؟".
إن الرؤية الاخلاقية للمجتمع الدولي للمشكلة اليهودية كانت أنه ليس من الاخلاقي أن "نعاقب الشعب اليهودي مرتين". في المرة الأولى لأنه هاجر عن أرضه بالقوة وسلبت منه كل الحقوق، بما فيها العودة إلى أرضه وأن يشكل فيها اغلبية واضحة، لهذا فإنه ليس اخلاقيا معاقبته مرة اخرى وأن نسلب منه حقه الطبيعي كشعب في تقرير مصيره في وطنه، أرض إسرائيل.
يجب التأكيد على أن القوة والصلاحية الواسعة والمتماسكة للدعوى الصهيونية لا تلغي قوة وشرعية التطلع الفلسطيني، أو العكس، كما ادعى نتان الترمان في شباط 1970: "منذ اللحظة التي سنعترف فيها بوجود وهم قومي فلسطيني، ستصبح كل الصهيونية موضوع سرقة وطن من أيدي شعب قائم، وعندما نقوم بالمساعدة الآن في تجذير هذا الوعي في العالم وفي وعينا الداخلي، فإننا نضعضع الاسس التاريخية، الانسانية للصهيونية ونضعها على حرابنا فقط".
لقد اخطأ الترمان. إن نزاعات عميقة وطويلة مثل التراجيديا، لا تأتي من صراع بين الخير والشر، أو بين المحق والمخطئ. في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني صحيح أن القوميات متعارضة، لكنها ذات قوة وصلاحية تحملها كل منهما. ليس هذا بالضرورة صراع "معادلة صفرية". إن تسوية على شكل تقسيم متفق عليه ستحوله إلى وضع "انتصار – انتصار"، حتى اذا ارتكزت في البداية على مصالح فقط، وبعد ذلك على مصالحة.
كذلك أيضا الايمان بالوعد الالهي، لا يستوجب استبعاد تسوية من اجل قيم اخرى، كما طرح ذلك هذا الاسبوع رئيس حزب العمل آفي غباي. هو في الحقيقة كان أسير الادعاء الديني عديم الصلاحية الدولية وقال "أنا اؤمن بعدالة وجودنا هنا. واؤمن بأن كل أرض إسرائيل لنا، حيث أن الله وعد ابراهيم بكل أرض إسرائيل". وأضاف "أنا اؤمن أيضا بأنه، نظرا لوجود 4.5 مليون عربي، يجب علينا التنازل من اجل خلق وضع نعيش فيه نحن في دولتنا بأغلبية يهودية وهم يعيشون في دولة خاصة بهم".
لقد عرفنا أن الرواية الصهيونية والادعاء الصهيوني بدولة للشعب اليهودي في أرض إسرائيل ترتكز على قوة وصلاحية متعددة المستويات. دولة إسرائيل في حدود 1967 والتي تحظى بهذه القوة والصلاحية تماما، مجبرة على احترام قرارات المجتمع الدولي أيضا بخصوص انشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانبها. وعلى اجهزتها الرسمية الامتناع عن استخدام القصة التوراتية بصيغة مخرجي البيت اليهودي واصدقاءهم في الليكود، والتي ترتكز على "الوعد الالهي"، في اجهزة العلاقات الدولية المعتادة، وابقائه على الأكثر لقسم التوراة الخاص برئيس الحكومة. من المناسب أن تقوم وزارة التعليم بالاهتمام بتعليم معلمي وطلاب إسرائيل بالقوة والصلاحية القائمة والمقبولة، وأن تهتم وزارة الخارجية بتسليح ممثليها بها، وأن تقوم الوكالة اليهودية بتأهيل مندوبيها على اسماعها في الخارج. لا نريد أكثر من ذلك.