ترميم العقل العربي
سناطور أبو بكر
يقول بن نبي ناقداً ما اعتبره إخفاقاً: «أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست في ما نستحق من رغائب، بل في ما يسودنا من عادات، وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية .. وما فيها من نقائص تعتري كل شعب نائم… فبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة، أصبحت سوقاً للانتخابات».
مجتمعاتنا لا تنشئ الأجيال على ايقاع صحيح للأسف الشديد… لقد صار الفرد مصاباً بكسل ذريع بسبب ضغط الحياة المتفاقم وزحمة السير اللامتناهية، إلى درجة أن أصبح العمل بالنسبة اليه يشكل عادة – بفعل الممارسة المتكررة – أكثر منه مزاولة لنشاط أو مهنة قد تستدعي بعض التأهيل إذ تستجد بعض خصوصياتها التقنية حسب الحاجة أو التطور بين الحين والآخر.
إن ضغط الحياة المتمثل في بعض المشاكل الكاذبة كندرة الحليب أو شح حنفيات المياه… والتي تعترض سبيل الفرد كمشاكل تقليدية، تبدو اليوم ذات صبغة حداثية، إذ تغذيها سرعة استهلاك المعلومة – دون عناء التحليل أو التمحيص – بسب اتساع مساحة التواصل الاجتماعي المرتبطة بالنت، وكذلك تعدد القنوات الفضائية التي تركت السينما تدخل إلى المشاهد وهو متمدد في بيته… إنما أضافت إلى الفرد نوعا جديدا من الكسل أو الكساح العقلي، الذي يزداد اتساعا بسبب بعض الخرافات التي ماتزال عالقة في أذهاننا إلى اليوم، إذ تغزو بعض العقول المترنحة أو شبه الخاوية فتمنحها بعض الطمأنينة وتقيها شرور العلم والمعرفة! … هذا التعليب الفكري المنهجي لشعب بكامله، أدى بالفرد إلى الانفصال عن تقاليد وتراث مجتمعه حتى بات أفراد العائلة مستقلين كل واحد في غرفته، الشيء الذي يعني أننا بتنا نعيش في وضع غريب!!
لقد أصبح الكسل العقلي مستشريا بين أوساط الشباب كأحد أهم مميزات الجيل الحداثي، حيث ازداد حجم المطالبة بالحقوق أكبر من أي وقت مضى، محاولة للحصول على أكبر كم ممكن من الماديات التي تشبع الرغبات الآنية للفرد، بعيدا عن الاعتبارات أو الظروف المرتبطة بالإمكانيات المادية والمعنوية أو تلك المتعلقة بالموروث الثقافي والتاريخي أو حتى الديني للأمة أو المجتمع … يحدث ذلك دون مجرد التفكير في القيام بأدنى الواجبات أو الأسباب التي قد تمنح بعض المردود بالمقابل. إن احدى مواصفاتنا الملفتة اليوم، أننا بتنا نتكلم أكثر مما نستمع، نجتر الكلام في كل الأماكن … في المقاهي، في الأسواق، في المساجد، على حافة الطرقات وعلى شرفات العمارات أيضا، دون أن نلقي بالا لمحيطنا الصغير أو الكبير، فنضبط ألفاظنا وننقيها من بعض السخط الذي أصبح ميزة حديثنا العادي.
إن سلبية هذه الممارسات التي أضحت تميز سلوكنا اليومي، تؤكد فعلا أننا لا نسير في الاتجاه الصحيح، كما أن مجتمعاتنا لا تنشئ الأجيال على ايقاع سليم، من شأنه أن يعيد ترتيب بعض ما تم تفويضه أو ترميم بعض ما تم هدمه في اطار تطويع العقل العربي تماشيا مع تطبيع الحداثة… إنما يترجم هذا الواقع الهزيل، أحد مظاهر الهمجية التي تقتات على المجتمعات المدمرة ذاتيا أو تلك التي فقدت معاني الولاء والانتماء في بعض محطاتها التاريخية.
إن جيلا بهذه المواصفات، يمكن تسخيره كأداة سهلة من أدوات الهدم والتدمير للبنى التحتية للأمة، وليس لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي اشتعلت بسببها الثورات في معظم البلاد العربية على اتساع رقعتها، تلك التي تعددت التحاليل والآراء السياسية بشأن أسبابها، خلفياتها، دروعها… لقد سال الكثير من الحبر عن سوء التسيير وانتشار الفساد المالي، عن الممارسات البيروقراطية الناجمة عن الديكتاتوريات الحديثة المتوحشة، وعن نقص هامش الحرية وعن لقمة العيش أيضا… لقد تعددت الأسباب، لكن الأكيد أن الواقع العربي مليء بالترهات والحماقات التي ساهمت من قريب أو من بعيد في اذكاء ذلك الهول الذي سرعان ما تحول إلى حروب طاحنة،
الأكيد، أن الاستمرار على هذا النحو في مسألة بناء الأفراد والمؤسسات، سيقود إلى المزيد من التوتر والخراب، كما أن ما صلح من المناهج والآليات في الفترات السابقة ليس بالضرورة أن يتناسب مع جيل الحداثة اليوم، وما عزوف الشباب عن المشاركة في عمليات البناء الديمقراطي إلا دليل على ذلك. أما الابحار عكس التيار فليس أكثر من اللعب بالنار اذ الخوف أن يستقيل المجتمع بشكل جماعي في احدى اللحظات العابرة، ليس خوفا ولكن ترفعا عن ممارسات استهلكت على مر المناسبات البنائية الفاشلة، لأنه وقتئذ يكون قد استنفد جميع أدوات رفضه لواقع لطالما أرقه.
في خضم هذا الجو المليء بالإحباط والتوتر، ألا يحق لنا أن نتساءل:
هل نكون فعلا قد خسرنا رهانات المستقبل بعدما ساد التوحش واستبعد العقل؟ ماذا يمكن للعقل أن يقدم أو يؤخر في واقع متعفن ثقافيا؟
صحيح أن الأزمة تلد الهمة، وصحيح أيضا أن المنطق هو الذي يصنع الفارق عندما تسود الأزمات وتختلف الآراء وتتضارب في القضايا المصيرية. إننا عندما نتحدث عن المنطق، إنما نعني بذلك الرضوخ طواعية إلى الحكمة التي ينضحها العقل بفعل القراءة والاطلاع الدائم والمستمر، الذي يقود إلى التحليل والنقد ومواكبة الجديد الذي يفضي إلى الاستشراف الذي يعقبه التخطيط. لكن كيف يمكن أن نتحدث عن الاستشراف كنتاج للعقل، وبعض البلاد العربية يكاد ينعدم فيها فعل القراءة؟
تؤكد الدراسات أن المجتمعات التي لا تقرأ بشكل مستمر ولا تطالع المتعدد والمختلف، تنشأ نشأة غير سليمة، إذ يتميز أفرادها عادة بتحجر العقل وضحالة الخيال وتبلد المشاعر… نقول ذلك في زمن لا يحتمل العقول المعطلة، كما أن ايجابية المجتمعات تكمن في ايجابية الأفراد التي تعني بالضرورة سلامة تفكيرهم وانقيادهم إلى العقل. لذلك فإننا اليوم لا ينبغي أن نكتفي بفعل القراءة فنأخذ من غيرنا، لأن ثمة ما لا يناسبنا، إنما علينا نتجاوز القراءة إلى التفكيك والنقاش الجاد، أي تلك الدراسة التي تسهم في تنمية القدرات الكامنة – التي كثيرا ما تتفجر في بلاد الآخر بفعل توفر الظروف والامكانيات المناسبة – في رؤوس بعض البشر المهمشين لتستغل في عملية البناء أو النهضة ! اليوم، من حقنا أن نجتهد ضمن ما هو مؤسس وموجود، ليس عبثا ولكن برؤية نقدية علمية واضحة المعالم… أي أن نمارس الوظائف العقلية كالتحليل والتفكيك والمقارنة… العقلنة التي بإمكانها أن تنفض الغبار عن المقدس، فكم هي كثيرة المسائل التي توارثت فأصبحت ضمن اطار المقدس الذي لا يمس ولا يناقش بفعل التراكمات السلبية بعيدا عن التساؤل والنقد. إننا اليوم مدعوون أن نتجاوز العدمية، بأن نبذل مزيدا من الجهد في هذا السياق، بعيدا عن تحليل العقل بالمفهوم الكانطي المتعلق بتحليل أنظمة المعرفة والكشف عن أسس التفكير وآلياته… علينا أن نؤسس النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الجيل المقبل الذي عليه أن يمتلك أدوات النقد والتساؤل في اطار الممكن، لئلا تفوته المسائل المتعلقة بالمصير فيتحمل عبء التركة الثقيلة ومسؤولية التواجد في عالم لا يرحم الضعيف!
اليوم… كي لا يتجاوزنا الزمن، ولكي لا نجد أنفسنا خارج التاريخ الذي ليس من عادته أن يعيد نفسه إلا في صورة مشوهة أو مثيرة للسخرية، علينا أن نمد جسور التعاون والتضحية… أن نرسي قواعد البناء الصحيح أمام جملة التحديات الاقتصادية الراهنة، المرتبطة بالتوسعات الدولية من خلال الشركات الاقتصادية العملاقة التي تتجاوز الحدود الجغرافية… أن نعمل بعيدا عن الأغراض السياسية أو الحسابات المالية الضيقة، لأنها لم تعد تصلح أن تكون عربونا للاستمرار في خضم حروب البقاء المشتعلة منذ مدة، بدليل ما وقع لبعض أشباه الملوك والرؤساء قبل وقت قصير، إذ لم تنفعهم عمليات شراء الذمم في وقت اقتيد فيه المجتمع الذي كان مهيأ بجميع فئاته إلى انتاج العنف الهمجي وحروب العصبية التي دمرت البنى التحتية للأمة والدولة معا. و قبل ذلك، علينا الوقوف مليا عند مسألة العقل لأنه القوة الوحيدة التي بإمكانها أن تصنع الفارق و تفرض البديل في المجتمعات والأمم، تلك القوة التي تستطيع أن تفرض على الأجيال القادمة ايقاع المنطق الذي يمثل الحكم العادل بين الجميع… قوة العقل وليس العكس!
أ/ سناطور أبوبكر – جامعة سطيف في الجزائر