فجوة التعلم وفجوة العقل في العالم العربي
كتب بواسطة: د. غانم الجمالي
يقول الجاحظ: "اقرأ كل شيء، وأكتب أحسن ما قرأت، واحفظ أحسن ما كتبت، وارو أحسن ما حفظت، فإنه بيت مالك". ويقول سبينوزا: "العلم هو وحده القوة والحرية، والسعادة الدائمة الوحيدة هي طلب المعرفة ولذة الفهم".
لماذا العلم هو الأساس في أي تقدم وأي قيمة حضارية؟
لماذا العلم بناء والمعرفة قوة والجهل هدم وضعف؟
الجواب على هذه الأسئلة يمكن أن يكون بديهي لا يحتاج لبرهان، إنما الذي يحتاج جهدا، في الواقع، هو التطبيق الصحيح والمستمر.
عندما سئل مهاتير محمد عن الكيفية التي أوصلت ماليزيا لما هي عليه وهي دولة نامية، أجاب: "عندما كنا نصلّي نتجه لمكة، وعندما كنا نريد بناء ماليزيا نتجه إلى اليابان". لا يفهم من هذا الكلام التقليل من دور الدين الاجتماعي والقيمي ولا من قيمته في العلم والحث عليه، يفهم منه شدة الاهتمام بالعلم والتقانة واكتسابهما بشكل عملي.. فلا يوجد نص ديني أي كان مصدره يمكنه أن يقدّم لك معادلة السرعة التي تحتاجها للوصول إلى القمر.
قرأت مرة أن في اليابان لا أسوار حول معظم المدارس الثانوية، لأن الطلبة لا تهرب، احتراما وحبا للعلم وتقديرا لأهميته في عصر الثورة الرقمية، اليابان أنتجت أعظم ناقلة نفط في العالم عام 1956م بعد سنوات من الخراب الذي أصابها بالحرب العالمية الثانية وبدون مشروع مارشال الذي قدمته الولايات المتحدة لأوربا.. من هنا ندرك ما للعلم من فائق الأهمية ولماذا ليس في مدارس اليابان أسوار تحيط بها.
الهند بلد المليار، بلد الفسيفساء العرقي والديني والاجتماعي الواسع اختارت رئيسا لها عالما دون البحث عن دينه أو عرقه أو مذهبه، الهند التي قال فيها العالم أحمد زويل: "عندما قرأت وعرفت الهند تمنيت أن أكون هنديا". قال ذلك لما وجده من احترام للعلم ورجاله وما اكتشفه من حب الهنود للعلم والتعلم.
إسرائيل، العدو، أدرك مؤسسوها منذ البداية أنه لو قدّر لنا الغلبة فلن يكون ذلك إلا بالعلم وإنتاج المعرفة مما حدا بهم للطلب من أينشيتين العالم اليهودي الشهير أن يكون أولرئيس للدولة، رفضها حينها وقال كلمته الشهيرة: "لا يمكن أن أكون رئيسا لدولة لا تملك معايير البقاء والاستمرار". ما قاله صحيح وما أحد أسباب بقائها إلى اليوم سوى اهتمامها الشديد بالعلم وإنتاج المعرفة وحسن إدارتها، تلك القوة التي نحتاجها نحن اليوم...
ماذا يعني أن تكون إسرائيل اليوم خامس دولة في العالم في الإنتاج الحربي ومن أوائل الدول في عدد العلماء بالنسبة للقوى العاملة لديها ومن أوائل الدول في براءات الاختراع بالنسبة لعدد سكانها؟!
إن الزمن اليوم خادم لأصحاب المعرفة، مطواع أمام منتجيها ومن يحسن إدارتها. إن إنتاج المعرفة وإدارتها اليوم هما عنوان النمو والتنمية في كافة جوانبها.
يقول فقهاء الاقتصاد اليوم: "إن إنتاج المعرفة ستكون عاملا حاسما في النجاح الاقتصادي والاجتماعي وفي الأداء الاقتصادي إجمالا وبشكل متزايد ". ويقصدون بالمعرفة: "المعلومات الفاعلة في العمل، والمعلومات التي تركز على النتائج في المجتمع والاقتصاد أو في التقدم للمعرفة ذاتها". ويعتبرونها "موردا مهما"، لكن لا يمكن إنتاج المعرفة كمورد إلا في ظل إدارة فاعلة (أي استخدام المعرفة في المعرفة) ومن خلالها نستطيع الحصول على الموارد الأخرى.
إذا كان تعريف المعرفة: "إدراك الشيء على حقيقته"، والانتاج: "انتاج الشيء توليده أو صنعه" فإن إنتاج المعرفة هو في المحصلة توليد الإدراك في الأشياء على حقيقتها، هو صناعة العلم.
لصناعة العلم (إنتاج المعرفة) لا بد من توفر عاملين رئيسيين هما التعلم والذكاء. التعلم (استمرار اكتساب المعرفة)، كونه عملية واعية، هو المعرفة المكتسبة والقدرة على الفهم والبراعة من خلال الخبرة أو الدراسة المستمرة، أما الذكاء (العقل) فهو القدرة على اكتساب المعرفة...
أين نحن من تعلّم المعرفة والقدرة على اكتسابها؟
هل نحن قادرون على إنتاج المعرفة؟ وكيف؟
إن كنا غير قادرين، فهل نحن قادرون على اكتسابها وتطويرها؟ وكيف؟.
عقولنا: هل هي قاصرة على اكتساب المعرفة وتطويرها ولا أقول إنتاجها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة أود بداية إيجاز – وبتصرف - ما جاء عن فجوة التعلم وفجوة العقل التي تكلّم عنها المؤلفان الدكتور نبيل علي والدكتورة نادية حجازي في كتاب " الفجوة الرقمية " الصادر عن سلسلة عالم المعرفة في آب 2005. لقد أكد المؤلفان على وجود أكثر من فجوة مثل فجوة اللغة لكنني سأتجاوزها، على أهميتها، للتركيز على التعلم والعقل في العالم العربي خاصة.
قد نجد في طيّات هذا المقال الجواب الشافي عن سؤال رحل سائله (الأستاذ حافظ الجمالي) دون أن يجد له جوابا، والسؤال هو: "في الفترة التي كان فيها الشرق زاهر ا، حاضرة العالم، كانت أوروبا في أحطّ عصورها، وأحلكها ظلمة، ضمن تلك الظروف:شرق مزدهر وغرب منحدر، كيف ولماذا ظهرت الثورة الصناعية في ذلك الغرب ولم تظهر في شرقنا حيث البيئة الملائمة؟ ".
ليس القصد جلد الذات بل البحث عنها واكتشافها علّنا نلحق بآخر مقصورة من قطار التقدم السريع.
فجوة التعلّم
كان تعريفنا للتعلم فيما سبق بسيطا ومقتضبا، لكن الواقع فإن للتعلّم تعريفات عديدة وبالتالي فقد لحق بكل تعريف للتعلّم تعريفا لفجوة التعلم، سنحاول انتقاء بعض التعريفات التي تفي بالغرض وتساهم في تصوّر معقول وفهم ميسّر لهذه القضية:
1*- تعريف التعلم على اعتبار أن التعلّم بديلا للتعليم: "يرى هذا التعريف ضرورة تفكيك المدرسة أو إلغائها وإحلال شبكة تعليمية غير نظامية بدلا من المؤسسات التعليمية القائمة. هذا التعريف أكثرها راديكالية وقد لا يكون متاحا حتى في الدول المتقدمة".
*- تعريف فجوه التعلّم: "هو الفارق بين قدرة المجتمعات على إنجاز هذا التحول الهائل، أي تفكيك المدرسة وإحلال بدلا عنها شبكة غير نظامية للتعليم".
2*- تعريف التعلم على اعتبار أن التعلم مكمّلا للتعليم:وهذا التعريف يتبناه البنك الدولي ويعتبر أن التعلم ليس بديلا للتعليم النظامي بل هو نظام منهجي يجري خارج النظام التقليدي ويشمل تشكيلة واسعة من نشاط التعليم ذي الصلة المباشرة بالعمل.
*- تعريف فجوة التعلم: "هي الفارق في مدى توافر فرص التعلم والتدريب والتأهيل المتاحة أمام الفرد بعد استكمال تعليمه النظامي، وفيه يكون الفرد مسئولا عن سلوكه التعليمي، وهذا يرتبط بمدى رغبة الأفراد في مواصلة تعليمهم".
3*- تعريف التعلم على اعتبار أن التعلم علاجا للتعليم: أي تعويض النقص في مستوى الخريجين الناجم عن إخفاق التعليم النظامي في تحقيق أهدافه المرسومة له.
*- تعريف فجوة التعلم: "هي الفارق في مستوى الخريجين وفي القدرة على تصويب أوجه القصور، والقيام بحملات التعليم العلاجي من أجل حماية أجيال الخريجين.
4*- التعلم بصفته مظلّة عامة:أي النظر إلى التعلم بوصفه عملية انخراط إيجابي وفعّال مع خبرات الفرد في معترك الحياة وبالتالي فهو يغطي قطّاعا واسعا من اكتساب المعارف والخبرات والقدرة على الحكم والتأمل والتصرف وتقييم الأمور واتخاذ القرارات والمواقف.
*- تعريف فجوة التعلم: "هي الفارق في مدى اتساع الفضاء التعليمي وعمقه، ومدى إتاحة فرص التعلم للفئات المختلفة "
أسباب فجوة التعلم
يسرد المؤلف أسبابا عديدة منها عامة ومنها خاصة بالوضع العربي، أما العامة فمن هذه الأسباب:
*- ما هو علمي: كالتوسع في استخدام تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال الواسعة والتواصل الرقمي وتضخم المادة التعليمية بسبب الانفجار المعرفي ونقص الخبرات في الدول النامية
*- وما هو اقتصادي: مثل الفقر وارتفاع كلفة التعليم والتدريب وعدم وعي المناط بهم هذه المهمة بأن التعليم استثمار طويل الأجل له عائدات مستقبلية وليس له مكاسب آنية. ويركّز المؤلف على خطورة عولمة التعليم العالي وغلبة المنطق الاقتصادي بحيث أضحى دافع التجارة والربحية حقيقة واقعة على مستوى الجامعات والمعاهد الخاصة.
*- وما هو ثقافي: مثل غياب البيئة العلمية والتقنية في المجتمعات النامية التي تتيح فرص التعلم غير النظامي من خلال العمل، وانشغال مؤسسات المجتمع المدني في سد العجز الذي خلقته المؤسسات الرسمية ناهيك عن عدم إدراك هذه المؤسسات لأهمية التعلم، ناهيك عن الجمود التنظيمي والاجتماعي والبيروقراطية.
*- ما هو سياسي: مثل إبقاء النظم السياسية نظام التعليم الرسمي تحت سيطرتها لتبقيه سلاحا أيدلوجيا لإحكام قبضتها على الجماهير وجعلهم أكثر انقيادا وإذعانا.
أما الأسباب الخاصة بالوطن العربي الراهن والتي أسست لزيادة فجوة التعلم فيعددها:
1- فقدان ثقة كثر من المجتمعات العربية في مؤسساتها التعليمية الرسمية.
2- تعليم ينفر من التعلم فهو يفقد المتعلم متعة البحث الدؤوب عن المعرفة "الإسراف في التعليم يفقد الرغبة في التعلم".
3- عقل تربوي ضائع بين التبعية والبحث عن الهوية.
4- عقبة مقاومة التغيير، حيث أن القدرة على التغيير من مقومات البقاء والاستمرار.
5- إعلام عربي متدني تعليما يرتكز على الترفيه.
6- مؤسسات تعلم عرضي قاصرة والمقصود هنا المكتبات والمتاحف والمعارض ومرافق المعلومات.
7- غياب التكامل بين مراحل التعليم المختلفة وضعف التنسيق بين التعليمي والإعلامي والثقافي.
8- تدني الخطاب الذي يتناول دائنا التربوي الخبيث من أفكار بالية والنقص الشديد عند مثقفينا لثقافة تربوية لازمة لعصر المعلومات.
9- قطاع خاص انتهازي استثماري يبحث عن الربح الآني.
10- إهمال فكرة تعريب التعليم والارتداد إلى التعليم باللغات الأجنبية، وهذا ليس إنقاصا لدورها في النقل والعقل (الصين، مثلا، وهي ذات التقدم الصاروخي، لم تعتمد إلا على لغة الماندرين الرسمية والقليل من أهلها يتكلمون الإنكليزية).
ثم يسرد المؤلف بعض المنطلقات المقترحة لتصحيح الوضع في العالم العربي:
1- التعلم لا التعليم مدخلا.
2- الجامعات هي التي تعلّم وتبحث وتوجه مسيرة التعلم.
3- لا مجتمع بلا لغة، ولا مجتمع تعلم عربي دون تعريب التعليم وربط التعليم بالجامعة العربية المفتوحة.
4- جامعات حقيقية أكثر.
5- استغلال المصادر المفتوحة للمحتوى التعليمي كمشروع المقررات العلمية المفتوحة لمعهد MIT الذي يتيح المذكرات التفصيلية للمحاضرات والخطوط الهيكلية للمقررات.
6- محو الأمية وظيفيا لا أبجديا فقط حيث يتحقق التكامل بين تعليم القراءة والكتابة وزيادة الكفاءة الانتاجية.
7- مراجعة شاملة لبرامج تأهيل المعلمين وتثقيف المتعلمين وتوعية المفكرين وقادة الرأي " نشر ثقافة التعلم ".
8- الاهتمام بتعليم المرأة.
9- تنمية العناصر البشرية على المدى البعيد في مجالات التعليم المختلفة التي تعتمد على تنمية المهارات الأساسية والمفاهيم المحورية (التخلي عن اقتصاد السوق واستبداله باقتصاد المعرفة).
فجوة العقل
"الفضيلة هي العقل" كما عبّر عن ذلك كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويقولون أيضا: "إن العقل الناضج المثقف وحده هو الذي يستطيع أن يحكم تبعا للظروف المختلفة، متى يجب أن يسود الحب، ومتى ينبغي أن تتحكم القوة".
قد نكون قد أغرقنا عميقا في الخطاب المثالي وعدنا بعيدا في الفلسفة، لكن ألا ترى صديقي القارىء أن العود أحمد؟، وأن ما قاله السلف يفتش عنه، ليتبناه، الخلف.
*- تعريف فجوة العقل العربي:
ما يهمنا في هذا البحث الطويل هو ما يخص العقل العربي وبعد أن يشيد ببعض العقول العربية الشامخة يؤكد أنها استثناء عن القاعدة التي كادت تصل لحد الوباء، ثم يعدد ملامح عامة للعقل العربي فيقول في هذه الملامح:
1- عقل أسير تخصصه ينأى عن تداخل المجالات المعرفية وتعددها ( نعود لنستذكر ما قاله الجاحظ في بداية البحث ).
2- عقل غير مدرب على التوجه المنظومي الذي يتضمن الاكتمال والاشتمال، مما يجعل من السهل وقوعه في فخ التفاصيل وضياعه في تهويمات التعميم.
3- عقل ينزع دائما نحو الموجب والقطع والمحدد والمحكم، ينحاز إلى الثابت على حساب المتغير، والسائد على حساب لمتجدد، يلح على الإجماع وينفر من الاختلاف والتنوع.
4- عقل يمتهن السالب، ويفزع من اللايقين، ولا يستأنس المشوش وغير الدقيق وغير الكامل.. لقد كبّلت نزعة امتهان السالب العقل العربي من أن يقتحم المناطق المهجورة من فكره، واختراق أسيجة التحريم والتجريم المقامة من حوله.
*- بعض مظاهر هزال العقل العربي:
من منظور البحث الحالي تم انتقاء المظاهر التالية مع الإقرار بصعوبة الفصل بين الأسباب والمظاهر:
1- بحوث أكاديمية دون منتجات استثمارية.
2- ترقيات أكاديمية دون ارتقاء علمي.
3- نشر علمي ضامر، لا يرى معظمه النور إلا من خلال المنافذ المحلية تهربا من غربلة الترشيح العلمي لمنافذ النشر الأجنبية المحكمة.
4- ارتفاع مذهل في عدد الجامعات دون حدوث نوع من التطور المحسوس في حركة المجتمع العلمية والثقافية.
5- إبداع عربي مكبّل، على رغم تميزه، يواجه العقبات في توصيله جماهيريا وتداوله عربيا.
6- إساءة استخدام الخصوصية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو ما أدى إلى تمحور حول الذات وشبه مقاطعة معرفية مع فكر الآخرين.
7- حصاد من بحوث الدراسات العليا مكدس على الرفوف يلتقط الأتربة، وما أكثر ما فيه من نقل وتكرار، وتشبه بالعلم، وتزييفه أحيانا.
8- غيبة المشاريع البحثية المشتركة بين البلدان العربية، وعزف شبه تام عن المشاركة في الموارد سواء على المستوى البشري أو المادي أو المعلوماتي.
9- حصيلة ضخمة من اللقاءات العلمية تشكو من الخواء الفكري وعجلة الإعداد ونقص الحضور وغزارة التوصيات من دون متابعة جادة ومردود فعلي ملموس.
10- انفصال شبه تام بين العلوم والفنون، وإهمال المعرفة العلمية الكامنة وراء الفنون.
11- فجوة بين نتاج التعليم وسوق العمل، وكمّ تعليمي بلا كيف، وتلقين دون تحصيل، يؤكد ذلك تراجع مواقع البلدان العربية إزاء بلدان المقارنة عند الأخذ في الاعتبار نوعية الناتج التعليمي.
12- هجرة متنامية للعقول العربية في المجالات العلمية والهندسية ووتقطّع الجسور بين العقول المهاجرة والعقول الباقية في أرضها.
13- محاولات شبه مستحيلة ومتعجلة لما أطلقوا عليه "أسلمة المعرفة" يسودها طابع طوباوي رد فعلي، تتراوح بين دعوى البداية من الصفر، والانتقائية العلمية، أو الفصل بين علوم الطبيعيات والإنسانيات، وجميعها توجهات تتناقض في جوهرها مع خصائص العلم في عصر المعلومات.
14- التبعية التكنولوجية المترسخة: فقد أنفق العالم العربي في ثلاثة العقود الماضية على مشاريع التسليم على الجاهز ما يقارب ألف مليار دولار أي ما يعادل 20 ضعفا لما أنفقه مشروع " مارشال " لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
15- عدم إدراك مثير من علمائنا لأهمية فلسفة العلم وتاريخ تطوره واستشراف توجهاته القادمة خاصة فيما يتعلق بالنقلات النوعية الحادة بفعل المتغير المعلوماتي. إن فلسفة العلم هي الفلسفة الأم – إن جاز التعبير – وباتت فيه منطلقا أساسيا للفكر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.
*- ما هي أسباب فجوة العقل العربي؟
البعض يعزوه إلى عدم " أسلمة المعرفة"، والبعض يرجع السبب إلى عدم القطيعة المعرفية مع فكر الماضي كما فعلت أوروبا عصر التنوير. إلا أن المؤلف ينأى عن كل هذا ويعيد تفنيد الأسباب بأسلوب تلغرافي يحدد صورة الموقف الراهن بفرشاة عريضة، ويعدد هذه الأسباب كما يلي:
1- سياسات علمية تفتقد الواقعية، والخطط الإجرائية، ومؤشرات قياس مدى التقدم في تنفيذها.
2- تدني أداء مؤسسات التعليم الرسمية.
3- ضعف الموارد الحكومية المخصصة للإنتاج العلمي، وعزف القطاع الخاص عن الاستثمار في مجالاته.
4- ظاهرة العلم الضخم وما نجم عنها من تبعية علمية وتكنولوجية.
5- ضعف الطلب على إنتاج العلم، ومحدودية النشاط الابتكاري، وتدني تمويل البحث العلمي من قبل القطاعات الإنتاجية والخدمية.
6- غياب التراكم المعرفي، وضعف الحوار بين التيارات الفكرية المختلفة مثل القومي والديني والعلماني، فكل تيار منها عادة ما يستهل خطابه بنسف الركائز التي يقوم عليها فكر التيارات الأخرى (يستحضرني قول للإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب". أين نحن منه؟).
7- عدم مواكبة المؤسسات الأكاديمية لحركة تطور العلم وإغفالهم للعلوم الأساسية (تجدر الإشارة هنا إلى أن الجامعات العربية تسعى حاليا لنشر استخدام تكنولوجيا المعلومات بين طلابها ومعاملها، إلا أنها لم تقم بأي جهد جاد لدراسة تأثير تكنولوجيا المعلومات في تطور العلم لدينا وانعكاسات ذلك على مضمون القرارات ومنهجيات التدريس).
*- قياس فجوة العقل:
تقاس فجوة العقل عادة
1- بموارد الإنتاج: عدد مراكز البحوث والتطور، عدد الجامعات ومؤشرات إجمالي الجودة الأكاديمية، عدد المهندسين والعلماء والفنيين منسوبا لعدد السكان، وحجم الإنفاق على أعمال البحوث والتطور منسوبا إلى إجمالي الناتج المحلي ومعدل هذا الإنفاق لكل نسمة.
2- بحجم الانتاج: عدد براءات الاختراع، عدد البحوث العلمية المنشورة، نسبة المتكرر منها في قوائم المراجع التي يحيل إليها البحوث الأخرى، حجم إنتاج الكتف المؤلفة والمترجمة، مدى مساهمة الإنتاج العلمي والتكنولوجي في إجمالي الناتج المحلي، عدد التراخيص التكنولوجية المستوردة والمصدرة، معدل تكلفة التعليم لكل نسمة، ونسبة وسائل الإعلام لكل ألف شخص.
من هذه المعايير الدقيقة يصاب العربي بالدوار والإحباط قبل أن نقدّم له بعض الإحصائيات الصحيحة التي تهدّ بل و" تكسر الظهر " كما يقال، من هذه الإحصائيا ت
*- معدل الإنفاق الحكومي سنويا على كل طالب جامعي 2400 دولار في مقابل 14200 دولار في إسبانيا
*- ينفق العالم العربي على البحوث والتطوير 0.2 في المائة من إجمالي ناتجه المحلي أي ما يعادل سبع المتوسط العالمي.
*- إنتاج العرب من الكتب لم يتجاوز 1،1 في المائة من الانتاج العالمي على الرغم أن العرب يشكلون 4،5 في المائة من سكان العالم.
*- معدل الإنفاق على البحوث والتطوير لكل نسمة 6 دولارات مقابل 953 دولار في الولايات المتحدة و40 دولار في الصين.
*- معدل عدد الصحف لكل 1000 شخص أقل من 53 مقابل 285 صحيفة لكل 1000 شخص في البلدان المتقدمة.
*- عدد البحوث العلمية المنشورة لكل مليون نسمة يتكرر ورودها في مراجع الأبحاث الأخرى هو 0،2 لمصر، 0،07 للسعودية، 0،53 للكويت، 0،01 للجزائر في مقابل 43 للولايات المتحدة و80 لسويسرا و38 لإسرائيل، و0،03 للصين.
قبل أن يقدم المؤلف بعض المنطلقات والمقترحات يبشّرنا بأن هنالك فرص هامة تتيحها تكنولوجيا المعلومات للعقل العربي، أهم هذه الفرص:
· عودة الكيانات الصغيرة لإنتاج العلم وانحسرت نسبيا مراكز البحوث الضخمة المسيطرة وأصبح ثلة من العلماء يمكنها من مركز صغير يجمعهم أن يقدّموا الكثير للبشرية.
· وجود وفرة في المعلومات وفي مواردها.
· إمكانية المشاركة العلمية عن بعد.
· النقلات النوعية التي يمر بها العلم حاليا.
· زيادة الطلب على العلم والرخص النسبي في أدوات إنتاج العلم.
· انفصال المعرفي عن التكنولوجي: ولتوضيح فوائد هذا الانفصال (كي لا يفهم منه وجود قطيعة) نلاحظ أنه تم في الهند وضع الأسس الرياضية (المعرفية) لتكنولوجيا السليكون الحيوي، لكن تصميم الدوائر الإلكترونية لشرائح السليكون هذه وتكليف مسابك تصنيع هذه الشرائح بإنتاج التصميمات في صورتها المادية حدث في إسرائيل، أي المعرفي في الهند والتكنولوجي في إسرائيل.
· إمكانية أن يعمل تعقدنا لمصلحتنا بأن يكون هذا التعقد نفسه استفزازا مفيدا للعقل العربي يحثه على البحث عن حلول أكثر عمقا.
ينهي المؤلف فجوة العقل العربي هذه بعدة منطلقات مقترحة:
1- تنمية الطلب على العلم بصورة مبتكرة تراعي الاختلاف بين الدول المتقدمة والنامية، هذه الطريقة تتجلى بأن تكون الجامعات والمعاهد ومراكز البحث بمنزلة حلقة الوصل بين اقتصاد المعرفة والقطاع الخاص، وهذا ما يتطلب التوسع في إقامة "الحضانات" في داخل المؤسسات العلمية لرعاية المبادرات والأفكار وتحويلها إلى مشاريع بحثية إيضاحية لإثبات صحة الأساس العلمي ثم تجري بعدها إقامة نماذج أولية لإثبات جدواها فنيا واقتصاديا، وعادة ما يتم ذلك في المشاتل التكنولوجية، تهيئة لعرضها على القطاع الخاص.
2- زرع نواة العلوم البينية في مراكز البحث وأقسام الدراسات العليا بالجامعات
3- إحياء الاهتمام بالعلوم الأساسية في الجامعات العربية واجتذاب النابهين من الطلبة وضمان توظيفهم بعد تخرجهم في مراكز البحوث التي يجب أن تنشىء أقساما متخصصة في العلوم الأساسية وهذا الاستثمار يفوق عائده بكثير كلفة القيام به.
4- الاهتمام بعلوم الإنسانيالت وتوليد جيل من الإنسانيين الجدد ذوي الميول العلمية، ومن العلميين الجدد ذوي الوعي الكافي بعلوم الإنسانيات.
5- القيام بحملة توعية مكثفة للقيادات العلمية والتكنولوجية بالتطورات المرتقبة في مسيرة تطور العلم تتجه إلى النقلة المعلوماتية ومراجعة خطط التنمية العملية والتكنولوجية في ضوئها، وتعديل المناهج الدراسية وفقا لها.
6- التوسع في المكتبات الرقمية وانضمام المكتبات العربية الرئيسية إلى المكتبات الرقمية العالمية مع تزويد هذه المكتبات بكادر علمي متخصص.
7- تنمية مهارات العلماء والمفكرين والتكنولوجيين العرب في استخلاص المعرفة من شظايا مصادر المعلومات المتناثرة عبر الشبكة، وكيفية الإفادة من نظم المكتبة الرقمية الشخصية لتنظيم رفوفهم الالكترونية، وأرشفة وثائقهم ومساعدتهم في نشر نتاجهم الفكري إلكترونيا.
8- اهتمام واسع في اللغة العربية في تنمية العقل العربي ودفع البحوث في فروع علوم الإنسانيا ت.
9- الارتقاء بالإعلام العلمي من أجل توعية العامة علميا وتكنولوجيا، وكذلك تثقيف المتعلمين خاصة فيما يخص تاريخ تطور العلم وفلسفته.
خاتمة
"من أخطأ نقطة البداية، لن تزيده السرعة إلا بعدا"، ولعل ما جاء في هذا الكتاب أن يكون نقطة البداية الصحيحة التي تدفعنا نحو التقدم والوجود بدافعات صاروخية كالتي تستخدمها الصين في تطورها وتقدمها، واستذكر وإياكم ما قيل: "العجز عجزان، عجز في طلب الشيء وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات".
أملي أن لا تبقى أمتنا العربية أمة عاجزة كما هي اليوم، ولا ننسى في خضم هذا البحث أن لا حل لفجواتنا المتعددة دون حرية، نعم لا تعلّم دون حرية، ولا عقل مبدع دون حرية ولا حب دون حرية.. ألم تسمعوا إلى لوركا الشاعر الإسباني حين قال: "كيف أستطيع أن أحبك إن لم أكن حرا؟".