فلسطين… من بن بيلا إلى مانديلا… وما بينهما ايضا
عماد شقور
ليس هناك أي سَنَد قانوني اخلاقي، لأي واحد من الأُسس التي تبرر اسرائيل بموجبها لأي من حقوقها، ولا حتى لوجودها ذاته. لكن ما تستند اليه في واقع الامر، لتثبيت وجودها حماية «حقوقها»، هو القوة، بكل عناصرها: العسكرية والاقتصادية والعلمية والتحالفات وغيرها.
تستطيع القوة ان تفرض واقعا عمليا وحقائق ملموسة على الارض، لكنها لا تستطيع مطلقا ان تلغي حقا لصاحب حق، ولا ان تفرض «حقا» لمن لا يملك سَنَدا قانونيا اخلاقيا.
تعرض اسرائيل مبررات عديدة لوجودها وحقوقها، يمكن التعامل مع الأهم بينها على النحو التالي:
ـ المبرر الديني، بتأكيد ان اله اليهود، خاطب جدهم وجدنا المشترك (!!)، ابراهيم، كما جاء في التوراة، قائلا: «لك ولنسلك اعطي هذه البلاد». هذا مبرر هزيل، وغير منطقي فرضه على الآخرين. إذ بماذا يمكن رد المؤمنين بهذه الخرافة على سؤال: وماذا بخصوص الهنا الذي لا يعترف لكم بذلك؟ او حتى بماذا يمكن الرد على ملحدين لا يؤمنون بوجود الله، سبحانه، ولا بوجود إله لهذا الشعب او لهذه الديانة او تلك، دون ان ننسى ان كثيرين من اليهود ملحدون او غير متدينين، على غرار الغالبية العظمى من مؤسسي الحركة الصهيونية، واولهم بنيامين زئيف هرتسل ذاته. وبعد كل هذا: اليس العرب، والفلسطينيون منهم، من احفاد ذلك الجد المشترك ابراهيم؟.
ـ مبرر «وعد بلفور» قبل مئة عام بالتمام والكمال، الذي وعد اليهود في العالم، وخاصة في اوروبا، باعطائهم «وطنا قوميا» في ارض لا يملك هو ولا غيره حق التصرف بها.
ـ مبرر «صك الانتداب/الاستعمار البريطاني لفلسطين»، الذي اصدرته «عصبة الأمم» عام 1920، وجاء في احد بنوده: «تتحمل بريطانيا مسؤولية خلق الظروف السياسية والادارية والاقتصادية في فلسطين، التي تضمن انشاء الوطن القومي اليهودي». وهذا النص في صك الانتداب يتناقض تماما مع احد بنود ميثاق عصبة الامم ذاتها، والذي نصه: «توضع الشعوب التي لم تنضج بعد للاستقلال تحت رعاية وحكم شعوب أكثر تطورا، تُعدّها تدريجيا للاستقلال، من أجل نقل الحكم إليها في نهاية الأمر». وبغض النظر عن «نضج» الشعب الفلسطيني للاستقلال في ذلك الوقت، او عدمه، (رغم ان الشعب الفلسطيني كان اكثر تطورا وتقدما من شعوب دول مستقلة في حينه، في المنطقة وفي العالم)، فان نص أي بند في الميثاق يتقدم ويلغي نص أي قرار يناقضه. وفي التاريخ المذكور كانت نسبة السكان اليهود، (بمن فيهم المهاجرون إلى فلسطين في العقود الثلاثة السابقة لذلك التاريخ) هي 10 في المئة من مجموع سكان فلسطين العرب المسلمين والمسيحيين، الامر الذي يعني ان بند ميثاق عصبة الأمم المذكور يلزمها بأن «تُعدّ تدريجيا» الشعب العربي الفلسطيني للاستقلال، لكن بريطانيا أخلّت بهذا البند وناقضته، و»أعدّت» الشعب الفلسطيني للاحتلال والاستعمار والطرد من وطنه وسلب ممتلكاته وحقوقه.
ـ مبرر قرار التقسيم الذي اصدرته «هيئة الأمم المتحدة»، وريثة عصبة الأمم، عام 1947. وبغض النظر عن مشروعية واخلاقية هذا القرار، فانه اعطى لليهود اكثر قليلا من 50 في المئة من ارض فلسطين، في حين استولت اسرائيل، جراء حرب 1948 بينها وبين بعض الدول العربية، (والتي لم يشارك فيها «جيش فلسطين» لأن فلسطين ذاتها لم تكن بعد دولة مستقلة)، على 78 في المئة من ارض فلسطين، ثم اضافت إلى تلك النسبة اثر حرب حزيران/يونيو 1967، وبدون أي سَنَد قانوني، «المناطق الحرام» التي فصلت بين خطّي الهدنة في بعض مناطق الضفة الغربية، وخاصة في محيط مدينة القدس.
ـ مبرر قرار الجمعية العمومية لهيئة الامم المتحدة الاعتراف بـ«دولة اسرائيل» وقبول عضويتها في الأمم المتحدة. لكن هذا الاعتراف واقرار العضوية، كان مشروطا بقيام دولة فلسطينية.
كل هذا تاريخ. وطبيعي ان تفضل غالبية الكتاب والمفكرين الكتابة والتحدث عن الماضي. المستقبل هو الأهم. لكن الكتابة عن المستقبل اصعب واخطر. الا انه لا بد من ذلك. فماذا عن المستقبل؟.
يستدعي الانتقال من الحديث عن الماضي البعيد، إلى الحديث عن المستقبل، وقفة متفحصة لاحداث ودروس الماضي القريب والحاضر. ولو امعنّا النظر في هذا الماضي القريب وهذا الحاضر الذي نعيشه، فماذا نجد؟.
نجد وضعا فلسطينيا وعربيا، في صراع مع اسرائيل والحركة الصهيونية العنصرية، في غاية التعقيد. ففي احداث ودروس هذين الماضي القريب والحاضر، اربعة عناوين مميزة، وعنوان اكتوت غالبية البشرية به، هو عنوان استعمار شعب او دولة لشعب او دولة اخرى. هذا موضوع معروف ولا حاجة للتوقف عنده، بعد ان تم درسه حتى الطحن. اما العناوين الاربعة الأُخرى، فيمكن تسجيلها، حسب تسلسلها التاريخي، على النحو التالي:
ـ تجربة ليبيريا، ولمن لا يعرف هذه التجربة، يمكن تلخيصها بشدة نظرا لظروف وشروط التزامات مقال في صحيفة، بان جمعية أمريكية رأت في مطلع القرن السابع عشر، ضرورة انهاء العبودية، وعملت، ونجحت، في تحرير عبيد سود في أمريكا واعادتهم إلى قارتهم، افريقيا، وليس إلى بلدانهم الاصلية في تلك القارة، وساعدتهم تلك الجمعية الأمريكية، على اقامة دولة خاصة بهم في غرب افريقيا، على المحيط الاطلسي. واصدر العبيد الافارقة المستوطنون القادمون الجدد هناك، في صيف العام 1847، «اعلان الاستقلال» واقامة «جمهورية ليبيريا المستقلة»، قبل مئة سنة وسنة واحدة بالضبط، من اعلان بن غوريون اقامة دولة اسرائيل. سمّى هؤلاء دولتهم «ليبيريا» المشتقة من كلمة «ليبرتي» الانكليزية/الأمريكية التي تعني الحرية والتحرر، وسمّوا عاصمتهم «مونروفيا» المشتقة من اسم الرئيس الأمريكي الخامس، جيمس مونرو، واستبعدت «الأُمّة» الليبيرية الجديدة سكان البلاد الاصليين من المشاركة في حكم وادارة شؤون «الدولة المستقلة الجديدة». وباختصار: تحول العبيد السابقون إلى اسياد، وحول هؤلاء الاسياد الجدد اسياد البلاد الاصليين إلى عبيد.
ـ تجربة الجزائر. هذا البلد العربي الذي استعمرته فرنسا، ثم اعتبرته «ارضا فرنسية جنوب البحر الابيض المتوسط»، واستوطن اكثر من مليون فرنسي فيه. وبقية قصة وحكايا حرب التحرير الجزائرية معروفة، ولا فائدة في اعادة تكرارها.
ـ تجربة فيتنام. وهي ايضا قضية استعمار وهيمة وتحكم، وقضية تقسيم بلد ووطن وشعب إلى بلدين ووطنين وشعبين. والاحداث والخاتمة معروفة.
ـ تجربة جنوب افريقيا، وسياسة الاستعمار والتمييز العرقي والابرتهايد.
ثم…هناك «قضية فلسطين». وهي مزيج وجمع لكل هذه التجارب الكئيبة التي مرت بها شعوب ومجتمعات. وابتلي شعبنا الفلسطيني بما يشبه عبيدا يعانون من الاضطهاد والتمييز، اصبحوا اسيادا يذيقون شعبنا القهر الاضطهاد والتمييز، ومستوطنون كالفرنسيين في الجزائر، ومستعمرون يدعمون المحتل ويحمون احتلاله واستعماره، وعنصريون يطبقون على ارض الواقع نظام ابرتهايد ضد شعبنا.
عن الحاضر والمستقبل: شعبنا بحاجة إلى بساطة اأحمد بن بيلا وقدرته على قراءة المستقبل، وبعد نظر هو شي منه وقدرته على بناء تحالفات، وشجاعة الجنرال فو نجوين جياب إلى جانبه، وانسانية وصلابة نلسون مانديلا.
ليس عندنا، لسوء الحظ، حتى الآن على الاقل، من يمتلك هذه الصفات مجتمعة. لكن الامل كبير والثقة كاملة، والمستقبل للحق والعدل.
نحن في صراع دموي حقيقي. يسعى العدو إلى حسمه بشكل نهائي لمصلحته. هذا دوره. وهو يعمل، على طريق تحقيق هذا الهدف، إلى كسب الوقت بإشغال نفسه وإشغالنا وإشغال العرب وكل من يحاول التوسط لإنهاء الصراع بحل سلمي يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة، بـ«إدارة» الصراع وليس بحلِّه. هذا مناقض لمصلحتنا. مصلحتنا الوطنية العليا حل الصراع وانهائه، بما يضمن اقامة دولة فلسطينية مستقلة، تفتح للشعب الفلسطيني ابواب المستقبل لأجياله المقبلة.
٭ كاتب فلسطيني