لماذا تذكرنا بلفور ونسينا روتشيلد؟
نزار بولحية
Nov 08, 2017
تخيلوا أن من نظم حفل اعتذار رمزي للفلسطينيين في ذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور، لم يكن
مثلما عرفته موسوعة ويكيبديا «فنان غرافيتي إنكليزي مشهور ومجهول في الوقت نفسه، يعتقد أن
اسمه روبرت بانكسي… ولا يوجد ما يؤكد هويته الحقيقية أو يثبت سيرته الذاتية»، بل كان على
العكس مسؤولا حكوميا بارزا ومعروفا من قبل وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون مثلا.
وتصوروا أن ذلك الحفل الذي أقيم على مقربة من فندق مقابل للجدار العازل في رام الله، ودعي له
خمسون طفلا فلسطينيا من مخيمي عايدة والدهيشة، لم يختصر في فصل مسرحي أدت فيه ممثلة دور
اليزابيث الثانية، بل كان بالفعل مؤتمرا عالميا ضخما، ضم ممثلين عن دول العالم قاطبة وحضرته
صاحبة الجلالة بنفسها لتتولى على أثره ازاحة الستار عن تلك اللوحة الإسمنتية التي حفرت عليها
عبارة «آسف» وهي في قمة الحرج والتأثر للخطأ الشنيع الذي ارتكبه أسلافها قبل مئة عام في حق
الشعب الفلسطيني. هل كان ذلك سيحرك ولو سنتمترا واحدا من تراب الأرض المحتلة، أو يمحو ولو
جزءا بسيطا ومحدودا من تلك الآلام والخطايا والبشاعات التي ارتكبت ومازالت ترتكب فوق أديمها؟
وهل كنا سنرى الفرق بين أن تخرج تريزا ماي لتقول بأننا «فخورون بالدور الذي لعبناه في إقامة
دولة اسرائيل وبالتأكيد سنحتفل بالمئوية بافتخار»، وأن يستدرك المتحدث الإقليمي باسم حكومتها ليعلن
أن «بريطانيا تتعاطف مع معاناة الشعوب وهذا ما حصل مع اليهود في حقبة بلفور حين كانوا يعانون
في أوروبا» وأن الوعد لم يطبق بالكامل وان بلاده تأمل باقامة دولة فلسطينية. هل كنا سنرى مثل
ذلك الفرق امرا عظيما وجبارا سيقيم الدنيا ويقعدها ويعيد الحق لأصحابه؟
إن ولعنا الشديد بالمسرحيات وانسياقنا الجارف وراء العبارات الطنانة غطى للأسف على كل شيء
وحجب الرؤية الكاملة للحقيقة، من دون تبخيس أو تضخيم. ألا ترون أن جزءا من تلك الهبة الإعلامية
والرسمية في ذكرى الوعد المشؤوم كانت بالاخير نوعا من التضليل والخداع العاطفي لا أكثر ولا
أقل؟ أليس وراء تلك المبالغة المحمومة في شيطنة اللورد الراحل وتحميله وحده وزر كل الآلام
والجرائم التي ارتكبت على مدى مئة عام من رسالته الشهيرة، وتصويره على أنه هو المتسبب الأول
والأخير في ضياع فلسطين وقيام كيان إسرائيلي على أرضها جنوحا للهروب من كل مسؤولية عن
الماضي والحاضر، وربما حتى عن المستقبل؟
ما الذي سيستفيده الفلسطينيون أو العرب اليوم من أي اعتذار بريطاني أو أمريكي أو غربي عن أي
وعود أطلقوها، أو أي تواطؤ أو تآمر أو فعل قاموا به لتسهيل تدمير مئات القرى والبلدات وتهجير
الآلاف من سكانها، في واحدة من أضخم عمليات الإبادة العرقية والدينية في التاريخ؟ هل سيحتفظون
به كتذكار رمزي نادر؟ أم سيقدمونه حجة رسمية تثبت بالدليل الدامغ أنهم كانوا عرضة لمؤامرة كونية
رهيبة، وأنهم أبرياء من دم فلسطين التي فرطوا فيها وتقاعسوا عن نجدتها ونجدة اهلها حربا بعد حرب،
ومجزرة بعد مجزرة، ونكبة ونكسة بعد نكبة ونكسة براءة الذئب من دم يعقوب؟ ثم الأهم من ذلك لم كل
ذلك الحرص على استحضار بلفور في قصة الوعد المشؤوم، مقابل التجاهل والتناسي المتعمد للطرف
الثاني في القصة، أي للملياردير اليهودي روتشيلد؟ هل أطلق اللورد وعده في الهواء وبلا سبب
أوموجب؟ وهل كان دور رجل المال والاعمال ثانويا وأقل ثقلا وخطورة واهمية منه؟ سيكون من
البلاهة أن نصدق أن سبعة وستين كلمة فقط هي التي رسمت كل التطورات التي حصلت على مدى قرن
من الزمن، وهي التي غيرت وحدها مسار حياة الفلسطينيين والاسرائيليين، كما كتب كثيرون هذه
الايام.
إن كل العبارات والمفردات التي كانت في جعبة بلفور لم تكن تكفي لتزحزح شبرا واحدا من التراب،
من دون ذهب ودولارات روتشيلد وتخطيطه هو وآخرون للظفر بما وصفها بعض الفضوليين الصهاينة
مطلع القرن الماضي بانها «عروس جميلة جدا ومستوفية لجميع الشروط لكنها متزوجة فعلا».
وهذا بالضبط ما يحاول البعض عن قصد، أو عن غير قصد طمسه والتغطية عليه. إنهم يلصقون كل
شيء ببلفور وبريطانيا ثم باوروبا وامريكا ويجعلون منهم المسؤولين المباشرين عما لحق بفلسطين.
وليس هناك بالطبع شك في سلامة وصحة تلك الاتهامات، فالجميع يعلم أن تلك القوى الاستعمارية
ساهمت بقسط وافر في الزرع القسري للكيان الاسرائيلي في أرض فلسطين. ولكن هل كان ذلك
سيحصل من دون أن تكون هناك قوة دفع وتأثير قوية وجبارة، جعلت كل السياسات والمواقف تصب
بالنهاية في مصلحة المشروع الاسرائيلي، ومن دون أن يجهز روتشيلد واثرياء اليهود في العالم
الظروف المناسبة والمثلى لذلك، ويعدوا العدة على مدى سنوات طويلة لتنضج الثمرة وتصير جاهزة
للقطف؟
ألم يعترف حاييم وايزمن وهو احد القادة الصهاينة البارزين بنفسه بذلك حين قال «وفي المجمل فإننا
هيأنا خلال الفترة من من 1907 إلى 1914 الجهاز التحضيري الكفيل بتمكيننا من بناء فلسطين
اليهودية لليهود، ومن مواجهة الحرب التي سوف تتيح لنا فرصا من خلال الوعود والالتزامات الملائمة
التي يمكن أن نحصل عليها في حمايتها (أي في حماية الحرب 1914 /1918 ) والظروف المواتية
التي يمكن أن تتهيأ لنا وتمكننا من بناء فلسطين اليهودية لليهود. وفعلا عندما تحصلنا على الوعود
واتجهنا إلى فلسطين، وجدنا انفسنا أمام هياكل ملائمة، وشعرنا بأننا لسنا ازاء بداية عملنا، بل إننا امام
استكمال البناء»؟ إذن هل كان يمكن أن نتصور اندحار المشروع الصهيوني وموته في المهد في
صورة ما لم يكن ممكنا ومتاحا أن يظهر الوعد في مثل ذلك الظرف وبتلك الصيغة؟ وهل كان
المخططون الاسرائيليون سيرمون المنديل ساعتها ويعجزون عن ايجاد بلفور آخر يمنحهم ما عجز عنه
أو رفضه الأول؟
إن المشكلة هي أننا مازلنا نربط كل شيء بالأفراد، في حين أن الطرف المقابل أي العدو لايزال يخطط
وينفذ داخل إطار جماعي تضبط فيه الأدوار والمهام بدقة شديدة، لتصب بالنهاية نحو هدف مشترك
واحد. ولعل هذا هو ما يجعلنا نعيش حالات تطرف قصوى تظهر إما في مسارعتنا لإصباغ هالة من
القداسة على الاشخاص، أو في شيطنتهم وتحميلهم وحدهم كل الأوزار والخطايا.
لم يكن بلفور ملاكا ولم يكن مفترضا فيه أن يكون فلسطينيا أو عربيا أكثر من الفلسطينيين والعرب حتى
يصير كذلك. لقد كان ببساطة خادما أمينا للامبراطورية مثلما كان روتشيلد وغيره خدما صادقين وامناء
للصهيونية. وقد يكون الاهم من استحضاره اليوم هو التفكير في وعود بلفور العربي للفلسطينيين وتأمل
الطريقة التي يبدد بها روتشليد العربي ثرواته ويرميها عن اليمين وعن الشمال. إن ذلك سيكون أجدى
وأنفع بلا شك من انتظار اعتذارات لن تغني ولن تسمن أبدا من جوع.
كاتب وصحافي من تونس