العَلمانيـة والدولة المدنيـة: مآزق النخب وأوهام العامة (3-1)
معاذ بني عامر
ثلاثة مآزق تُعاني منها النُخب الثقافية فيما يتعلق بموضوعة العَلمانيـة والدولة المدنية، يُقابلها وهمان يعاني منهما عامة الناس، بما يجعل من السجالات التي تدور حولهما، أعني حول العَلمانية والدولة المدنية، سجالات انتحارية بالدرجة الأولى، نظراً لاستنادها أساساً إلى سياقات ليست مغلوطة فحسب، بل وواهمة أيضاً.
إليكم تفصيلاً بذلك؛
مآزق النُخب:
1 - تقديم الدولة المدنية على العَلمانية.
2 - الانتقال من طور التراكمات الثقافية إلى طور كُنْ فيكون.
3 - الدخول في مجاملات معرفية لإرضاء العقل الجمعي.
وهما العامة:
1 - العداء المبدئي لمصطلح العَلمانيـة.
2 - الخلط بين العَلمانية والدولة المدنية.
إذاً، نحنُ أمام ثلاثة مآزق للنُخب، مقابل وهمين لعامة الناس، سيجتمعان معاً للإطاحة بمشروع العَلمانية كمشروعٍ عقلي بالدرجة الأولى، ومشروع الدولة المدنية كتجلٍ للمشروع العقلي بالدرجة الثانية. فعند نقطة معينة تلتقي المآزق التي تعاني منها النخب مع الأوهام التي يحتكم إليها عامة الناس وتتعالق معها، فتكون النتيجة تقويض المشروع المزدوج: 1 - العَلمانيـة. 2 - الدولـة المدنيـة.
في العَلَن يبدو أن النُخب تجنح ناحية التحكّم بمفصليات الحياة وتُسيّرها وفقاً لرؤاها وتطلعاتها، لكن في الأعماق ستنحاز النُخب –طوعاً/ كرهاً- إلى ما يُقرّره العامة. فالقوة التي يتمثلها الشعب –بما يتعلق بالسياق الذي أتناوله هنا- ستكون بمثابة الثقب الأسود الذي يبتلع كل ما حوله. ولتبيان العلاقة وتجلية معالمها فإني سأعمد إلى تناول موضوعة العَلمانية والدولة المدنية في ثلاثة مقالات ستكون المقالة الثالثة بمثابة تقديم نظراً لانطوائها على بسط مفاهيمي لكلّ من العَلمانية والدولة المدنية، في حين أنني سأتناول في هذه المقالة والمقالة التي تليها المآزق والأوهام التي أشرتُ إليها أعلاه. أي أنني سأعمد إلى تنظيف الأرض قبل حرثها، لكي لا يكون الغرس غرساً حسناً.
وعليه، فالمأزق الأول لدى النخبة، والمتمثل في تقديم العَلمانية على الدولة المدنية، ناجمٌ عن سوء تقدير للعلاقة بين ما هو عقلي وما هو تطبيقي. فالنُخب إذ تسعى لتمثّل الدولة المدنية كحالةٍ خلاصية على أرض الواقع قبل الاشتغال على الخُلاصات العقلية، فإنها تضع العربة أمام الحصان، وتقول للناس: تقدّموا إلى الوراء. فالعَلمانية بما هي سؤال العقل النقدي بإزاء السرديات التي كانت قد قدمت إجابات نهائية عن أسئلة آنية، فإنها –أعني العَلمانية- الخطوة الأولى والضرورية لمظهَرَة وتجلية مسارات العقل النقدي على أرض الواقع. وطالما عجزت النُخب عن تقديم رؤى فلسفية جديدة تُزيح السرديات عن مواقعها في الأذهان، فإنّ تقدما على أرض الواقع لن يحدث إلا بقوة السلاح ولبعض الوقت فقط، ثم ينهدم معمار هذا التقدّم نتيجة لعدم التأسيس له في أذهان الناس أولاً. لذا يصبح من الضروري جداً الاشتغال على زحزحة الثوابت الذهنية، قبل الانتقال إلى الواقع العملي. واليوم إذ نرى حراكاً باتجاه الدولة المدنية، فإن أي خطوة ناحية الأمام لا يرافقها أو بالأحرى يتقدّم عليها الفعل العقلي النقدي للثوابت التي أسّست للاجتماع الإنساني المُضاد للدولة المدنية أصلاً، سيكون مصيرها التقهقر نظراً لعدم استنادها إلى قواعد متينة.
وفي نوبة وصال حميم، سيحدث وصل بين 1- مأزق النُخب المتمثل في تقديم الدولة المدنية على العَلمانية، أو تقديم الجانب التطبيقي على الجانب العقلي؛ وذلك بانتقالها مباشرة إلى التطبيقات العملية أو ما اصطلح عليه بـ الدولة المدنية، نظراً لفشلها في تقديم رؤى معرفية تُفكّك ثوابت السرديات الكبرى من جهة وتبني أطروحات جديدة من جهة ثانية. وبين 2- وهم العامة في الخلط بين العَلمانية والدولة المدنية، فهم لا يعرفون ما هي العَلمانية وما هي الدولة المدنية، وعند لحظة معينة تختلط ليس المفاهيم فحسب، بل والمصطلحات أيضاً، إلى حد عدم التفريق بينهما. وهذا ناتج بالأساس عن سوء تقدير في عمل النُخب –في الغالب- فهي غير قادرة على تمثّل الفرق الجوهري بينهما، لذا يتم توريد صورة مشوّشة ومشوهة لدى العامة. بما يضغط باتجاه تأخير تأسيس نواة التغيير والتقدم ناحية الدولة المدنية، بصفتها انبثاقة لعقلٍ نقدي يُعمِلُ مبضعه في أوجاع السرديات التي تتحكم بمآلات حياتنا، ليس لغاية تطبيبها فقط، بل والعمل على الاستعاضة عن القطع التالفة فيها بقطعٍ جديدة صالحة لشرط وجودنا الحالي. وإذا استلزم الأمر استبدالها بالكامل فلا بأس، لكن ذلك سيتطلب توافر بيئة خصبة ومناسبة لاجتراحات فلسفية جديدة في الحقول العلمية والأدبية والجمالية والدينية، يكون من شأنها إحداث تغيير جوهري في رؤية الإنسان العربي لثنائية: الإنسان والعالَم.
إذاً، ثمة وصل ووصال بين مأزق النُخب المتمثل في تقديم الدولة المدنية على العَلمانية، وبين وهم العامة المتمثل في الخلط بين مفهومي الدولة المدنية والعلمانية. سينتج عنه تشويش كبير في الرؤى والأولويات إلى حدّ: 1 - تقديم تنازلات كبيرة من قبل النُخب لإرضاء العقل الجمعي أو عامة الناس، بما يُبقي على نواميسها الناظمة للحياة في بُعديها الدنيوي والأخروي. 2 - خلق حالة من العداء المبدئي لدى العامة للعَلمانية والدولة المدنية. وهذا ما سأتناوله في المقالة القادمة بشيء من التفصيل.