ثورة نوفمبر المعجزة.. فاصلة بين الامبراطورية الفرنسية والدولة الفرنسية
في ذكراها تتجدد معاني الكرامة والعزة وتتجلى ايات المعجزة بخروج جيل من الشباب الاسطوري الذي اوقف نفسه لهدف محدد انه الجزائر الحرة المستقلة العربية المسلمة..في ذكراها نرى فلسطين اقرب وتنتفض فينا معاني الانتصار فكما انهم ارادوا طمس الجزائر فعلوا ايضا بفلسطين وكما استقلت الجزائر ستتجرر فلسطين ..وقوفاً وقوفاً أيها المستضعفون في الأرض فإن راياتهم تعلو.. وقوفاً وقوفاً أيها الأحرار في العالم فإن قافلتهم تخرج الآن من الجبال والسهوب والوديان، ومن الحواري العصية من كل الجزائر، يحدوها نشيد الحرية تصنع شمسا بحجم الكرة الأرضية.. وقوفاً وقوفاً أيها الناس جميعا، ففي هذه الساعات يتقرر المصير الانساني للمستعبدين ويتهاوى صرحُ الظلم والظالمين.. وهنا يتقرر الانتصارُ؛ انتصار المستضعفين فهنيئاً لكم جميعا بثورة نوفمبر الانسانية العالمية… في هذه الساعات تتبخر الامبراطورية وتتحجم مطامع الاستعماريين ليصبحوا مجرد دولة مهما اكتنزت انيابها من سم فانها لن تستطيع تجميع العقد المنفرط.
أجل.. لم تكن الثورة الجزائرية حدثا داخليا قام به رهطٌ من الناس لتصحيح مسارات معينة في حياة الناس أو تعديل أوضاع مختلّة في تراتب الطبقات والمصالح.. ولم تكن ثورة الجزائر تسير تحت أي عنوان من عناوين الصراع المعروفة في العالم أنذاك، ولم يكن ليستوعبها لونٌ من الألوان، إنما هي باختصار ثورة الانسان بكل عناوينه ضد الجريمة بكل تكثيفها وعناوينها.. ومن هنا جاءت الصعوبة التي استدعت تضخم حجم التضحيات التي تفوق التصوّر.
جاءت الثورة الجزائرية، لا لإيجاد تصالح مع الواقع، أو تقاسم مع المجرمين العنصريين للمساحة والزمان، إنما جاءت لتقول لا مكان للمجرمين الاستعماريين الاستحواذيين في الجزائر، وكما قال الإمام الشهيد العربي التبسي عقب اندلاع الثورة: “بعد اليوم إما الجزائر أو فرنسا.. لا تعايش بيننا”.. فكانت الثورة تعني النقيض الكامل للخلل التاريخي الناتج عن الاستعمار الفرنسي.. وكانت بهذا المعنى إلغاءً للوجود الاستعماري نهائيا من بقعة جغرافية استراتيجية في مشروعه الاستعماري الواسع في المنطقة والعالم، فجاء هذا الجرح الغائر في جسم الاستعمار مستنزفا روحه الشريرة وبرامجه الإجرامية وخططه الاستحواذية ليتساقط من مكان بعد مكان تلاحقه صرخات الحرية التي أوصلتها ثورة الجزائر إلى عنان السماء.
جاءت الثورة الجزائرية، لا لإيجاد تصالح مع الواقع، أو تقاسم مع المجرمين العنصريين للمساحة والزمان، إنما جاءت لتقول لا مكان للمجرمين الاستعماريين الاستحواذيين في الجزائر، وكما قال الإمام الشهيد العربي التبسي عقب اندلاع الثورة: “بعد اليوم إما الجزائر أو فرنسا.. لا تعايش بيننا”.
لهذا، كان انطلاق ثورة أول نوفمبر المجيدة بمثابة انفساح الأرض لميلاد مجتمع مختلف وقيم مختلفة وقوانين للحياة مختلفة ووجهة في الحياة مختلفة تتدافع ضد مجتمع عنصري لصّ وقيم شيطانية وإجراءات طاغوتية مستبدّة ووجهة في الحياة تميّز الناس بين اللصوص المنعمين والمستضعفين المهانين.. فكان الصِّدام بهذا المعنى واسعا شاملا..
لم تأت الثورة الجزائرية في معزل عن تاريخ الكفاح الجزائري ولا في معزل عن كفاح الامة ضد الصليبية بل تسير في سياقه وكواحدة من تجلياته فسبق للجزائريين ان قاوموا ببسالة عشرات السنين بقيادة الامير عبدالقادر الجزائري وبوعمامة وسواهم من شيوخ الطرق الصوفية.. وبعد ان ظن الاستعماريون ان الامر قد انتهى لمشروعهم وهو سلخ الجزائر من انتمائها الحضاري العربي الاسلامي نهضت جمعية العلمائ المسلمين الجزائريين بقيادة العلامة الاستاذ عبدالحميد بن باديس والذي اخذ على عاتقه النهوض بالشخصية الجزائرية لاحداث القطيعة مع الاستعمار ثقافيا وسياسيا
كما ان الثورة الجزائرية جاءت محملة بحجم الشعور بالالم والقهر الذي تسبب فيهما الاستعمار عشرات السنوات قتلا وابادة وتغيير معالم الحياة لشعب عريق.. فيكفي ان نعلم انه في اليوم الاول لاحتلال الجزائر اجرق الاستعماريون مليون كتاب في مكتبة الجزائر كما حولوا اكبر مسجد في العاصمة كتشاوة الى كاتدرائية.. وخلال سنوات ثورة الشيخ حداد 1871 قتل الاستعماريون مايقارب نصف الشعب الجزائري.. وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية حيث كانت فرنسا قد وعدت بان ينال الجزائريون استقلالهم ان هم ساندوها في الحرب ضد النازي.. خرج الجزائريون بمظاهرات سلمية مطالبين باستقلالهم فكان الرصاص والطائرات والقتل بطال منهم عشرات الالاف.
دخل الاستعماريون الجزائر وهي تملك ثروات جمة ويكفي الاشارة بانه كان للجزائر على فرنسا همسة مليون فرنك دهب دينا.. وكانت شتى الصناعات التقليدية منتشرة بالجزائر كما التعليم والتجارة وكانت الجزائر تصدر من القمح لشتى الدول حيث كان سهل الحضنة اهم سهل للقمح في العالم وقد دمره الاستعماريون فيما بعد.
لم يدخل الاستعماريون الفرنسيون بقرار منهم فقط بل هو قرار مجموعة دول ثمان من اوربا اجتمعوا في فينا بعيد تدمير الاسطول الجزائري ليقرروا انه لابد من”تاديب الجزائر” حيث كانت سطوة الاسطول الجزائري في البحر المتوسط تفرض قوانينها على حركة السفن الدولية الملزمة بدفع غرامات للاسطول الجزائري.. فكان قرار الحرب على الجزائر والذي بدأ بحصارها بحريا قرارا اوربيا.. لذلك كان الكولون والمعمرون لفيفا اجنبيا من كل دول اوربا: المانيا واسبانيا والرتغال بالاضافة للفرنسيين.
سمات خاصة وسنن الانتصار:
أكدت ثورة نوفمبر أنها لم تكن ردا آنيا دفعت إليه أحداث طارئة، بل كانت مشروعا حضاريا متكاملا في الثقافة والمنهج واللغة والهوية.. فكانت العربية والاسلام والجزائر هي مثلث الوعي والهوية وقاعدة الحشد والانتماء. ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة، كان واضحا أنها اهتدت إلى سبل الرشاد، فكان أهمّ ما تجلى فيها أنها معلقة بهدف واضح محدد جلي، إنه حرية الجزائر أرضا وشعبا.. وكانت أداتها واضحة جلية وهي المواجهة بكل أنواع المواجهة الممكنة لكسر الحلقات الاستعمارية ولتدفيع الادارة الاستعمارية الثمن الباهظ، لكي تضطر لوضع خطة انسحابها بكل آلياتها الاستعمارية العنصرية من الجزائر..
كان رفض التوقف في منتصف الطريق يعبّر عن قناعة ووعي بأن الوقوف في الصراع قبل انتزاع الحق، يعني إهدار الكفاح والتضحيات وتسليم العدو فرصة لالتقاط الأنفاس والمبادرة من جديد.. فكان رفض الثورة المطلق في لحظتها الأولى أيّ مساومة على الحق التاريخي وأيّ تنازل عن جزء من أرض الجزائر.. وهنا كان أحد أهم الخطوط الحمراء التي كرّستها الثورة في وعي الجميع.. كما كانت الوحدة وحدة التمثيل والتوجيه والقيادة خطا أحمر آخر لا يستطيع أحد أن ينجو بجلده إن اخترقه.. كما كانت المقاومة خيارا مقدّسا حتى تتم عملية التحرير.
أدركت ثورة نوفمبر منذ البداية أن الطريق صعبٌ وشاق، بل يكاد يكون مستحيلا.. ومن العبث والحال هذه، أن تتم المراهنات على أوضاع عربية إقليمية وهي أصلا لا تعرف هذه الروح التي يتحرك بها الناس في الجزائر، وترى في خطابها كلاما يحتاج دليلا وبرهاناً، لهذا كان لابد من فعل من نوع خاص لا يستطيعه إلا المؤمنون بقضيتهم وعدالة جهادهم، فكان التوجه إلى الشعب الجزائري لرفد الثورة ومعاونتها والانطلاق بعمليات نادرة وبطولية، في ظل تغييب إعلامي مكثف.. وقدّم الشعب الجزائري من ماله وأبنائه العدد الوفير حتى ضرب الأمثلة المميزة النادرة في كثرة الاستشهاد وتنوّعه.
الاستعمار يلفظ انفاسه:
لم تكن المواجهة الا دربا من الجنون الاستعماري الذي يستنفر كل شياطينه وادوات الجريمية ليوقف عجلة التاريخ ولكن لم يكن ذلك عن حقد ونزعات شريرة فقط بل ايضا عن وعي بان السقوط في امتحان الجزائر يعني السقوط في كل افريقيا.. أي سقوط الامبراطورية .. واجهت فرنسا الثورة ببطش جنوني، وجندت كل وسائلها السافلة لإجهاضها، وفتكت بالمجتمع الجزائري في الأرياف والقرى والمدن، لكي تقمع الثورة وتهدم البستان وتحرم الناس من ربيع عمرهم ممثلا في ثورتهم وانتصارها.. وحشدت من أجل ذلك قوى اجتماعية محلية وأخرى إقليمية، وحاولت من خلال التهديدات أن تفرض على كثير من عناصر الحياة التدمير أو الموت.. فتحت أبواب السجون الرهيبة وقطعت في المقصلات رؤوس الأحرار الجزائريين وقتلت بالجملة وارتكبت مجازر حرب كثيرة..
لم يكن العالم يتصور أنه بالامكان استقلال الجزائر من مخالب الأسد، لذلك كانت حركة المجتمع الدولي بطيئة، ولم تصرح أي من الدول العظمى أو الوازنة كالهند او السوفيت مثلا، بأي موقف حقيقي من القضية الجزائرية، اما معظم الدول العربية فكانت بعلاقة تامة مع دولة الاستعمار ولم يفتّ ذلك في عضد الثورة التي راحت تصنع الفارق من خلال المواجهات مع العدو في الميدان، فما كان من كثير من القوى الشعبية وسواها إلا التوجه إلى صف الثورة يرفدونها بالمال والأولاد والغطاء الأمني.. فكان اعتماد الثورة على الشعب الجزائري كاملا.
ومن هنا، كان انتصار ثورة نوفمبر حقيقياً، وكانت حريات الشعوب أمانة في جيل نوفمبر الذي حقق انتصاره كمقدمة طبيعية وحقيقية وقوية لانتصار الشعوب وحريتها واستقلالها وسقط الاستعمار في الدول الافريقية كحدارة الدومينو.. من هنا كان دعم الثورة والدولة الجزائريتين لحركات التحرر في العالم ضد كل أشكال الطاغوت فترجمت ثورة نوفمبر بذلك حقيقتها وجوهرها؛ إنها قاعدة حركات التحرر ضد الاستعمار..
لقد أدرك الاستعمار أن هذه الروح متمكنة من الثورة التي بدأت ضرباتها في وديان الجزائر وجبالها، فأسرع لإعطاء بعض مستعمراتها استقلالها لعلها تتمكن من التفرغ لمواجهة البركان الجزائري، ولكن عبثا صنعت.. وتوالت ثورات الشعوب حتى تحررت إفريقا وأمريكا اللاتينية وكان للجزائر الدور الأساس.
ومما لاشك فيه، لابد من النظر إلى أن الجزائر هي محضن ميلاد الثورة الفلسطينية، والجزائر هي من ربّت ورعت ودعمت وساندت الثورة الفلسطينية في أقسى الظروف ضد القرار الدولي القاضي بشطب فلسطين من الجغرافيا والشعب الفلسطيني من الوجود.. فكانت الثورة الجزائرية من أسهم بقوة في استعادة الوعي بفلسطين والشعب الفلسطيني.. وهنا لابد من النظر لدور الاجهزة الامنية الصهيونية في محاولة افساد الاستقلال الجزائري عندما ارسل موشي دايان وزير الدفاع الصهيوني قواته للالتحاق بمجموعات استعمارية تغتال في الجزائر لتخريب اتفاقات الاستقلال..
بعد عقود الانتصار والاستقلال يبدو الجرح لازال راعفا بدم والم.. فلم يتخل الاستعماريون عن نفسياتهم الشريرة ولم يتوب الساسة الاستعماريون الى رشدهم فيقدموا اعتذارهم عن جرائم الجرب ضد الانسانية التي ذهب صحيتها ملايين الجزائريين لا لذنب.. لازالت الادارة الفرنسية تمعن في توجيه الخطاب الاستعماري نفسه بعد ان تغافلت عن ما قامت به الادارات اليابقة حيث قتلت وحرقت وزرعت الصحراء الجزائرية باليورانيوم واسعته بعد تجاربها النووية.
لم تكن رحلة الاستقلال سهلة بل لعلها شهدت من المؤامرات على الجزائر وشخصيتها اضعاف ما كان على زمن الاستعمار.. استهدفت عروبتها واسلامها ولغتها.. وظلت عملية الهوية قضية اشتباك تثار لتعطيل الدولة ولئن كان هواري بومدين قد وضع في الجزائر غرسا منتشرا ضامنا للاستقلال اللغوي الا ان الامر ظل بين اخذ وشد مخلقا ضحايا وتضحيات.. ولكن الجزائر امام اي امتحان تخرج عن بكرة ابيها تعلن ولاءها وهويتها وانتمائها للعروبة والاسلام والعروبة هنا اللسان وليست العرقية حيث ان البربر مثلهم مثل العرب دفاعا عن العربية والاسلام.. فالعربية في الجزائر ضمانة استقلال وسيادة ولقد اصبحت العربية هي الاقوى حضورا وانبري للدفاع عنها اجيال من المثقفين والمفكرين والساسة..
ثورة غيّرت مسار التاريخ لدول المنطقة التي مزقت ارهاب الاستعماريين..
حيا الله المجاهدين ورحم الشهداء.. تولانا الله برحمته