مصطفى الحلاج.. التغريبة الفلسطينية كجوهر للإبداع
لد التشكيلي البارز مصطفى الحلاج في قرية يافاوية صغيرة في فلسطين، عام 1938، بلدة سلمة قضاء، وعاش فيها أول عشر سنوات مِن عُمره حتّى هُجِّر منها على يد الاستيطان الصهيوني. فانتقل إلى مصر، بالتحديد مدينة فاقوس في الشرقية، حيث أكمل فيها دراسته الإعدادية وقضى فيها سن المراهقة. ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة ليلتحق بكلية الفنون الجميلة.[1]
وأقام الحلاج أولى معارضه الفنية في صالة متحف الفن الحديث حيث اشترك مع مجموعة من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في معرض عام 1959. لكن سُرعان ما قدم أول معرض فردي له في نقابة الصحافيين في القاهرة سنة 1964. وفي أوائل السبعينات، غادر الحلاج القاهرة حيث عاش متنقلاً بين دمشق وتونس وبيروت التي خرج منها هي الأُخرى إثر الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان، 6 يونيو 1982، فاستقر في دمشق منذ ذاك عام.[2]
ينتمي الحلاج إلى جيل التغريبة الفلسطينية، إلى جيل حق العودة مِن قهر الشتات، إلى حلم الخلاص المُلقى على موائد التفاوض. وعلى الرغم من كل ذلك، نبتَ الرمح مِن رحم المأساة، حتى صار أحد أشهر من اشتغل فن الحفر في الوطن العربي.
شهرة الحلاج ليست قائمة على كونه فنانا فلسطينيا واعيا بُعمق قضيته فقط. بل لأنّ فنه كان جداريّات جمالية محفورة تنتقل بُعمق المعنى والقضيّة من الواقع المُعاش إلى آفاق بُعد ميتافزيقي آخر. وهي بذلك تضُم في جنباتها ثنائيات التناقض التي تظهر في أعماله، ليس فقط بين اللونين الأبيض والأسود اللذين اعتمدا عليهما بشكلٍ رئيسيٍّ، بل إلى ثنائيات التناقض بين الحي والميت والوجود والعدم أيضًا.
فلسفته الفنية
أعمال الحلاج تستند إلى حد كبير جدا إلى عامل الرمزية، والرموز التي يفيض بها شكّلها وجدانه قبل أن يحولها لدلالات على سردية الفلسطيني بشكل خاص والنفس البشرية بشكل عام. وأعماله لذلك تعتبر ذا مناخات سياسية لأن الحلاج ارتبط ارتباطا وثيقا بحركة النضال الفلسطيني من قبل النكسة حتى.
وأعمال الحلاج بوصفها نوع من المقاومة الثقافية تستند إلى قدر هائل من المشاعر الرومانسية المتجاوزة للواقع المادي القائم. لذلك، فإن هذا الفهم الاستثنائي المتجاوز أزهر بدوره أساليبه الاستثنائية في الحفريات التي أتت بعمق وسعة ذات الحلاج نفسه. تلك الذات التي تعج بمعانٍ لامتناهية.
وبالرغم من أن أعمال الحلاج في عالم الحفر تعد معاجم بصرية ضخمة تدور في أفق الرموز الغير مألوفة. إلا أنها لا تعتبر سريالية على حد ما قدمت السريالية نفسها في مانفيستو أندريه بريتون.[url=file://01-fs/AJN/AljazeeraNet/Arabic/For All/AjaBlogs/SAMA/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89 %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A7%D8%AC - %D9%87%D9%86%D8%AF %D9%85%D8%B3%D8%B9%D8%AF.docx#_ftn3][/url][3] فالسريالية بالرغم من أنها مزجت الواقع والخيال بالدمج بينهم، واعتمدت على اللاوعي والأشكال غير المنطقية. لكن تظهر حفريات الحلاج رغم رمزيتها واعية وعاقلة بكل رمز وبقدرة الرائي على فهمه وتفسيره.
|
"فلسطين" لمصطفى الحلاج (مواقع التواصل) |
ففي لوحة فلسطين، نرى الحلاج كعادته يعتمد حدي التناقض في استخدام الألوان، فلا يستخدم إلا الأبيض والأسود. نرى أيضًا، أسفل يمين اللوحة امرأة لتوها ولدت رضيعًا يركب فرسه ويحمل رمحه ودرعه المكتوب عليه فلسطين. فالفلسطيني لا يولد كأي طفل عادي. بل مُحاربًا بكامل عتاده. أعلى المرأة يتقوس راجل على ذاته رمزا للنكسة والتراجع لكن يخلفه ويخرج من ظهره ذلك الطفل الذي تتقدمه امرأة ورجلا يتكئ على عصاه. وهم بدورهم أسلافه يرث منهم كل شيء.
وهنا، نرى أن رمزية الحلاج رمزية منطقية واعية ليست كرمزية السريالية التي تعتمد اللامنطق واللاوعي كأدوات تُشكّل بهم فضاء العمل الفني. لقد طاف الحلاج بعدة حضارات بحكم تنقله بين فلسطين والقاهرة ودمشق وبيروت. فحمل في ذاته رواسب الفرعونية والكنعانية والفينيقية.
وقد ساهم ثراء تلك التجربة في خلق فضاء تشكيلي شديد الخصوصية. فنرى الحلاج يحشد في أعماله من البشر والرموز والدلالات الكثير حتى تصير اللوحة معجما بصريًّا خارقًا. وتصبح كذلك فضاءً فلسفيًّا وسياسيًّا. فندرك ببصيرة الحلاج ماهية أنفسنا في إطار الصراع القائم من الأزل للأبد.
المقاومة الفلسطينية مُحركا له
ورغم رمزيتها وأفكارها المتجاوزة، لا تُفارق أعمال الحلاج حاضرها القائم في التعبير عن الذات الفلسطينيّة المقاومة، سواء على جبهة القتال أو جبهة المقاومة الثقافية. وعلى جبهة اللوحة نجد فلسطين في إيقاعات تشكيلية مُعبرة بدقة منطقية رغم رمزيتها عن مسيرة الحلاج كفنان ومعاناته كلاجئ سياسي. |
لوحة "معركة الكرامة" 1969 للحلاج (مواقع التواصل) |
ونرى ذلك في لوحة "معركة الكرامة" التي رسمها الحلاج بعد المعركة بعام، أي في 1969، وهي إحدى أهم رموز الكفاح لتحرير فلسطين. والحصان في المعركة رمز لاستمرار القتال والثورة. هذا غير أن للحصان رمزية خاصة في الملاحم والمعارك العربية على مر التاريخ. وظهر الحصان لأول مرة في عمل الحلاج بعد "معركة الكرامة" ونرى أسفل الحصان امرأة مُقاتلة تحمل سلاح ثقيل ترافق حصان ضخم يقتحم السماء. ويقف على سلاحها حمامة ترمز إلى أن نية النضال هو تحقيق السلام، أي أن القتال ليس عدوانًا بل إحقاق حق.
فالمحتوى السردي القوي في أعمال الحلاج مكرس بشكل كبير لخدمه فلسطين بكافة تداعياتها السياسية وقضاياها الوجودية. وتتجلى فلسطين عادة بدقة متناهية لا يمكن بسببها اعتبار أعماله سريالية. فالحلاج يستخدم أدواته، سكاكين ومسامير ، ليحفر في ذاكرة اللوحة وذاكرة التاريخ تجربة نضال واعية منطقية.
ووعي الحلاج بقضيته كلاجئ فلسطيني ليس وعيا ذا بُعدا واحد، أي بالذات الفلسطينية فقط، بل وعي متعدد الأبعاد. وهذا التعدد مكنه من الربط بين التساؤلات الوجودية التي يمر عليها الإنسان في حياته بشكل عام وبين تجربته الشخصية في المَهجر. فهو يُبصر رحلة الإنسان ذهابا وإيابا بين الحياة والموت. ويصوّر تلك الرحلة في طرح فني فلسفي: أين كُنا وإلى أين نحن ذاهبون؟!
في هذه اللوحة، نرى تكدس بشري وعدد من الحيوانات أيضًا. لكن كل البشر معدومين..! ونرى امرأة جالسة تفترش الأرض وتسند رأسها بيدها تتأمل كيف قضى على هؤلاء نحبهم على هذا الشكل. والعمل من النظرة الأولى يُثير قضايا عدة: كالموت والغاية من الحياة وأين العدل. وكل تلك التساؤلات ارتبطت بكلا البُعدين: البُعد الفلسطيني والبعد الإنساني بشكل عام.
نرى في لوحات الحلاج أيضًا البعد المصري الناتج عن إقامته في مصر لأكثر مِن عشرين عاماً، حيث يُبرز في حفرية جامعة لأهم الرموز المُعبرة عن الحياة المصرية وأولها الهلال مع الصليب في يمين اللوحة، وتظهر فوقهما حمامة تعبيرًا عن التعايش والسلام بينهما. يحمل الهلال والصليب بقرة وهي رمز الزراعة في مصر، والتي يركبها عدد من الأطفال الذين يقتاتون عليها، وراءهم يقف رجلٌ يحمل صخرة كبيرة عن الجميع رمزًا لأن خلف السلام والرخاء جهدا جبارا.
|
مصر كما يصورها مصطفى الحلاج (مواقع التواصل) |
وبالرغم من أن الحلاج أتقن الرسم على الورق باستخدام الحبر والرسم على القماش باستخدام الزيت، والرسم بالأقلام الخشبية والباستيل إلا أنّه تفرد في الحفر على ألواح المازونيت التي منحته آفاق كُبرى. وقد شرع الحلاج بتنفيذ مشروع عمره الذي بدأه في تونس عام 1996. وهي لوحة طولها 114 متر واحد ويبلغ عرضها 36 مترًا أراد لها الحلاج أن تدخل موسوعة غينس كأعرض جدارية في التاريخ وأطلق عليها "ارتجالات الحياة".[url=file://01-fs/AJN/AljazeeraNet/Arabic/For All/AjaBlogs/SAMA/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89 %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A7%D8%AC - %D9%87%D9%86%D8%AF %D9%85%D8%B3%D8%B9%D8%AF.docx#_ftn4][/url][4]
الحلاج الصوفي العراقي والحلاج التشكيلي الفلسطيني
يُجبر التشابه الاسمي بين التشكيلي الفلسطيني والصوفي العراقي العارف بكلاهما على التفكر في احتمالية وجود تشابه أكبر يجمعهما. وقد كان، وهو الموت المأساوي الذي لاقاه كلاهما. فالحلاج الصوفي العراقي صُلب لتأكل منه الطير بعد اتهامه بالكفر والفسوق. فيرحل متوحدا مع ملكوت أفكاره. فيما يقضي الحلاج التشكيلي الفلسطيني نحبه مُحترقًا مع أعماله إثر حريق شب في مرسمه، مرسم ناجي العلي، بدمشق وأتى على الرسام ومعظم أعماله. فينتهي هو قبل أن يُنهي "ارتجالات الحياة".
بهذا القدر مِن المأساوية رحل الحلاج، في 17 ديسمبر 2002، بعد أن حمل وطنه كهوية أفرد لها فضاءا واسعا في تجربته التشكيلية. مارس الحلاج الكتابة والنحت والتصوير والحفر والرسم الصحفي. وأنجز مئة متر من لوحته الأكبر في العالم. إلى أن احترق منها ثلاثة أمتار في الحريق.
|
تفصيلة مما تبقى من "ارتجالات الحياة" بعد الحريق (مواقع التواصل) |
"أشعر بالرغبة في أن يصبح صراعنا مع العدو جزءًا من حياتنا بشكل دائم، وليس استعداد للحظة طارئة."[url=file://01-fs/AJN/AljazeeraNet/Arabic/For All/AjaBlogs/SAMA/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89 %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A7%D8%AC - %D9%87%D9%86%D8%AF %D9%85%D8%B3%D8%B9%D8%AF.docx#_ftn5][/url][5]
(مصطفى الحلاج)
في اللوحة امرأة تقف حصنًا أمام أطفالها الذين يتعلقون بها واحدًا تلوّ الآخر، فيما وقع أباهم في الخلف مُقيًّدا لا يقوى على الحركة. في اللوحة إعلاء لقيمة المناضلة الفلسطينية وإن تغيب رفيقها بسبب الاعتقال أو الموت. شعرها إذ يجرِي تحت السماء ويهدر كموجِ البحر يرسم خرائط العودة للضالين في المُدنِ البعيدة. تقف يدها اليمنى تصد بها العدو واليسرى تحمي بها الصغار.
"إن الرسم أو الفن التشكيلي هو أداة عالمية تخترق جميع الحواجز ما بين الأمم فاخترت هذه الطريق لكي تكون مجساً شعبياً في التعبير عن نفسي وبدأت أشحذ هذه الأداة، أروضها أطورها خلال عشر سنوات لكي يصل الخاص بالعام. أنني حين أعبر عن نفسي، مشاكلي الخاصة، انفعالاتي الخاصة، أكون قد عبرت عن شعبي وعن كل من هم في موقعي. وبذلك مددت أغصاني في بحر مشاعر شعبنا على المستوى الأفقي الرأسي من خلال الفلكلور بشتى فروعه، والتاريخ والميثالوجيا، وبكل شيء حتى كدت أن أتنفس جميع تلك الأشياء. وحقيقة، لاحظت أن كل من يعيش المنفى يستيقظ التراث بداخله حياً متدفقاً يضرب جذوره ويمتد في المستقبل عن طريق الأجيال."[url=file://01-fs/AJN/AljazeeraNet/Arabic/For All/AjaBlogs/SAMA/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89 %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A7%D8%AC - %D9%87%D9%86%D8%AF %D9%85%D8%B3%D8%B9%D8%AF.docx#_ftn6][/url][6] - الحلاج
هذه هي لهجة اللاجئ، لهجة المُخيّمات، لهجة الشتات. لهجة تمرد وإبداع لا تنطفئ أو تبلى. تشتعل بدواخلهم القضية والتراث، ويطل الوطن بثوراته وانكساراته، بموته وحياته، ببياضه وسواده اللذين أصر الحلاج على الاعتماد عليهم كلونين فقط.
فن اللاجئ فن جامح يفتح آفاقا أمام ذهن المشاهد لعوالم لم يلجها، عوالم مدهشة وأساطير إنسانية غذتها تجربة التهجير والحلم بالعودة. والرموز التي تعج بها لوحات الحلاج كانت محاولته الشخصية لنفض الغبار عن الذات الفلسطينية والذات الإنسانية ككل. فينتقل بمَن أرهقهم الشتات في الخارج ومَن شق عليهم الأسر في الداخل وينتشلهم من زمانها الحاضر الضيق إلى زمانهم السرمدي واسع المدى.
في نعيه للمُفكر الفلسطيني إدوارد سعيد يتساءل الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي: "إن كان علينا أن نستقل طائرة كي نزور أحبتنا بين عواصمِ دولِ العالم؛ إلى جبرا إبراهيم جبرا في بغداد، وكنفاني والحلاج في دمشق، ومحمد القيسي وشموط في عمان، وناجي العلي في منفاه اللندني، فـطوبى للغرباء..!"[url=file://01-fs/AJN/AljazeeraNet/Arabic/For All/AjaBlogs/SAMA/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89 %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A7%D8%AC - %D9%87%D9%86%D8%AF %D9%85%D8%B3%D8%B9%D8%AF.docx#_ftn7][/url][7]