الوجه المشرق في معركة القدس وفلسطين
أسامة شحادة
فجّر عدوان وتهور ترامب بإعلان القدس عاصمة لليهود براكين الغضب في شرايين الأمة
الإسلامية، فماجت الشوارع والميادين بالمظاهرات والاعتصامات الرافضة والمنددة بهذا الظلم
والعدوان، وتداعى الساسة والزعماء والقادة للاجتماع والالتقاء وعقد قمم عربية وإسلامية لمواجهة
تبعات هذه الحرب على مقدسات المسلمين والاستهتار بكرامتهم وحقوقهم.
ورافق ذلك انتفاض وسائل التواصل الاجتماعي بالرسائل والمقاطع المؤيدة للقدس، وحقّ المسلمين
بها، وخَطب الخطباء عن فضائل القدس والمسجد الأقصى، وفضح المؤامرات التي تستهدفها.
ولكن بعض الناس أصبح من عادته جلد الذات وتضخيم الهزيمة والنوح واللطم وإشاعة روح الخسارة
والسلبية المعرقلة، ولا يدركون أن الحرب والصراع جولات وصولات، وأن أمّتنا مرّت بنكبات
وكوارث أكثر من هذه، وأنها تجاوزتها وأكملت مسيرة عزتها وكرامتها.
وهؤلاء يجهلون الكثير من تاريخ صراع فلسطين والقدس والأقصى مع اليهود والمشروع الصهيوني،
نعم، هذا العدوان مِن ترامب يعتبر عملا باطلا واستهتارا بالمسلمين عموماً، لكنه يجب أن يُقرأ في
سياقه الصحيح، فليست هذه الضربة القاضية وليست هذه النهاية والخسارة التامة، وليس اليهود هم
المنتصرين الفائزين ونحن المهزومين الخاسرين.
وليس صحيحاً أن علينا الاستسلام والرضوخ لأطماع اليهود لأننا عاجزون عن خوض معركة القوة
معهم ومع من يقف خلفهم، وأننا -لأننا متفرقون متشاكسون- لن نتمكن من التصدي لهم وإرغام
ترامب وغيره على سحب اعترافهم بالقدس عاصمةً لليهود.
نعم، نحن خسرنا جولة وجولة مهمة، ولكن كسبنا جولات عديدة وكبيرة ومهمة، ولكن قد لا ندرك ذلك
أو نستشعره ربما لأننا نريد نصرا كاملاً يعيد القدس والأقصى وفلسطين تامة لنا، وهذا لم يكتمل بعد،
لكن دعونا نراقب ونفحص مسيرة الصراع على فلسطين والقدس والأقصى مع اليهود منذ مطلع
القرن الماضي حتى ندرك الصورة الكاملة على حقيقتها ونرى موازين القوى في هذا الصراع عبر
المحطات التالية:
- كانت أحوال الأمة المسلمة منذ نهاية الخلافة العثمانية عموما، وبلاد العرب خصوصاً، يعمّها
الجهل وقلة التدين والفقر والضعف، وغالبها محتل من الأوربيين.
- ومنذ مطلع القرن الماضى قام المشروع اليهودي والصهيوني لتحقيق غاية قيام دولة يهودية في
فلسطين يعيش اليهود فيها بأمن وسلام، واعتمد المشروع لتنفيذ غايته على احتلال الأرض وتهجير
الفلسطينيين واستقبال الهجرات اليهودية من مختلف أنحاء العالم.
وفعلا منذ نهاية الخلافة العثمانية تزايد توافد اليهود على فلسطين بالتحايل والتهريب، وبعد احتلال
فلسطين من قبل الإنجليز تعاظمت الهجرة اليهودية، وتأسست مليشياتهم الإرهابية (البلماخ والإرجون
والهاجاناه والشتيرن)، ومع انسحاب بريطانيا عام 1948م وإنهاء انتدابها على فلسطين وقعت حرب
1948 والتي تمكن اليهود فيها من احتلال مناطق من فلسطين وأقاموا عليها دولتهم المزعومة، ومِن
خلال المجازر والعمليات الإرهابية نزح وهاجر غالبية الفلسطينيين في مناطق الـ 48.
وتكرر هذا النزوح والهجرة للفلسطينيين عام 1967 بعد احتلال القدس وسيطرة اليهود عليها، وبذلك
تم احتلال كامل فلسطين وتمدد دولتهم حتى ضمّت سيناء والجولان!! ووصلت نسبة الفلسطينيين فيها
إلى أقل درجاتها، فقط 11 % بسبب النزوح والتهجير واستجلاب اليهود، وكادت فلسطين تخلو
لليهود ويتحقق لهم حلمهم بدولة يهودية خالصة مما يحقق شعار المشروع الصهيوني (أرض بلا
شعب لشعب بلا أرض) فاليهود كانوا ينكرون وجود شعب فلسطيني!!
- ولكن كارثة حرب 1967 أيقظت في الأمة روح التدين، فكانت البداية في مصر على يد العلماء
المستقلين وبعض الجمعيات الخيرية كجماعة أنصار السنة والجمعية الشرعية والتي استقطبت
الشباب الحائر والتائه، ولما تولى السادات الحكم في مصر أفرج عن قادة الإخوان المسلمين الذين
خرجوا فوجدوا الشباب في المساجد فاستقطبوهم وواصلوا مسيرتهم بهؤلاء الشباب.
وصلت اليقظة الدينية والصحوة الإسلامية إلى فلسطين أيضاً فظهرت الانتفاضة الأولى في 1988
بصبغة وروح إسلامية غالباً.
- هنا توقف مسلسل النزوح والهجرة الفلسطينية منذ ذلك الوقت، بل أصبحت العودة لفلسطين هي
هاجس الكثير ممن تهجر للشتات، ثم كانت الزيادة السكانية للفلسطينيين لتتفوق على تدفقات
المهاجرين اليهود مما هدّد هوية دولتهم المزعومة، والتي جعلت نتنياهو والمتطرفين حوله يصرّون
على اعتراف الفلسطينيين والعالم بيهودية دولة إسرائيل، لأنهم بالمعايير الديمقراطية التي يدعيها
اليهود هم اليوم الأقلية!
فالاحصائيات تقول إنه في عام 2020 من المتوقع أن تكون نسبة اليهود (48,2 %) من عدد السكان
في فلسطين حيث سيصل العدد إلى نحو (6,7) ملايين يهودي مقابل (7,2) ملايين فلسطيني، وبذلك
يصبح اليهود أقلية، حيث يمتاز المجتمع الفلسطيني بنسبة شباب أفراده العالية والتي تصل لحوالى
35 % بينما تنخفض نسبة الشيخوخة فيه لنسبة 3,5 % بخلاف المجتمع اليهودي الذي نسبة
شيخوخته عالية!
هذا التزايد الفلسطيني على أرض فلسطين يشكل قنبلة في وجه اليهود بحيث لن يستطيعوا التحكم فيها
للأبد، ولذلك تجري اليوم محاولات يهودية محمومة لإجبار فلسطينيي الـ 48 على دخول الجيش
والاعتراف بيهودية الدولة في محاولة لطمس هويتهم والبحث عن ذريعة لتهجيرهم وطردهم.
- وفي القدس اليوم هناك (معركة أرحام) بين اليهود والمسلمين حيث يلجأ اليهود لطرد الفلسطينيين
من القدس بأي ذريعة والتضييق على أرزاقهم ومنع توسعهم في البناء مما يجبرهم على تقليل النسل
لضيق المنازل وإجبار العرسان الجدد على مغادرة القدس والسكن خارجها!
بينما يشجع اليهود الشرقيون والمتدينون على الاستيلاء على منازل الفلسطينيين وزيادة الإنجاب في
مستوطنات القدس خاصة على زيادة النسل حتى صارت نسبتهم في الإنجاب الأعلى عالميا سنة
2014 لفرض واقع ديمغرافي يهودي على القدس.
ومعركة الأرحام هذه تكشف عن مدى عمق الوصية النبوية في الحديث الصحيح: "تزوجوا الودود
الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" مما يكشف حقيقة دعوات تحديد النسل في البلاد الإسلامية
عموماً وفلسطين خصوصاً!
- رافق هذا التزايد السكاني الفلسطيني على أرض فلسطين في وجه المشروع الصهيوني تصاعد
الانتماء الديني الإسلامي في عموم فلسطين، مما كان دافعاً لمزيد من المقاومة والجهاد والصمود
والمرابطة في عموم فلسطين والقدس تحديداً، وجهود الشيخ رائد صلاح المباركة للمرابطة في
الأقصى نموذج بارز على ذلك، كما أن انتفاضة الأقصى الأخيرة قبل بضعة أشهر كانت صفعة مدوية
على وجه اليهود، والتي توحد فيها الفلسطينيون بمختلف توجهاتهم، وساندتهم فيها الشعوب المسلمة
في كل مكان لرفض فرض بوابات وكاميرات على مداخل الأقصى تتبع اليهود.
- وقد ساهم جهاد ومقاومة الشعب الفلسطيني على أرضه بحدوث هجرة عكسية لليهود من فلسطين
للغرب، والأرقام الرسمية لليهود تتحدث أن عدد اليهود الذين يغادرون فلسطين يفوق عدد المهاجرين
الجدد إليها، وهذا مؤشر خطير بالنسبة لهم، لأن ذلك يدل على انعدام الأمن والمستقبل لليهود في
فلسطين، إذ تكشف بعض الدراسات اليهودية أن 40 % من اليهود في فلسطين يفكّرون بالهجرة
منها، فيما الغالبية العظمى من المهاجرين اليهود الروس يمرون بفلسطين كمحطة انتقال لأميركا
وكندا واستراليا، ومن أجل ذلك هناك تصاعد ضخم في نسبة اليهود الحاصلين على جوازات سفر من
دول غربية ليكونوا على أهبّة الاستعداد للرحيل عن فلسطين عند أي طارئ.
- أيضاً انعكس تصاعد القوة الفلسطينية الناعمة والخشنة في فلسطين على عزوف اليهود خاصة
العلمانيين منهم عن السكن والبقاء في القدس، بسبب الخوف وعدم الأمن من عمليات المقاومة
وبسبب السلوك المتطرف ضدهم من اليهود المتشديين دينياً! ولذلك تنخفض نسبة اليهود في القدس
برغم كل جرائمهم بحق المقدسيين حيث وصلت لـ 59 % على أعلى تقدير.
- تصاعد القوة الفلسطينية في وجه المشروع اليهودي والصهيوني تسبب بحسب "تقرير مدار
الاستراتيجي 2016" والصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) في خلخلة البنية
الاجتماعية اليهودية فهناك تقييدات على الحريات والحقوق الأساسية لليهود أنفسهم بحجة قمع
المقاومة الفلسطينية، كما تصاعد وهيمن الخطاب التحريضي والعنصري ضد الفلسطينيين مما
أدخلهم في تناقض مع دعواهم بأنهم مجتمع ديمقراطي! كما أن المقاومة أربكت كل محاولات تجاوز
اليهود لمرحلة مجتمع المهاجرين لمجتمع عادي متجانس وحداثي، وفرضت عليه البقاء على صورة
مجتمع استعماري مسلح وغير آمن!
- لذلك يعاني المجتمع اليهودي من صراع عرقيات وإثنيات قومية من جهة يهود أوربيين، ويهود
آسيويين وأفارقة، ومن جهة ثانية هناك صراع ديني على اليهودية حيث لا يُعترف بيهودية بعض
المجموعات كالأثيوبيين مثلاً ويفرض عليهم إعادة التهوّد من جديد!
وقد تسبب ذلك والتشدد الديني عند تجمعات الحريديين بتمرد الكثير من الشباب على التدين اليهودي
والتعلمن مما يدخلهم في صراعات مع أسرهم ومجتمعهم تدعوهم للانفصال عنهم وتبرؤ الأهل منهم،
ليواجهوا طاحونة الحياة المادية حيث غالبهم لم يتلقّ تعليما يؤهله للانخراط في المجتمع اليهودي
العلماني، فيلجأ عدد متزايد للانتحار. كما أن هناك العديد من اليهود الذين يتحولون إلى ديانات أخرى
في فلسطين وخارجها.
- هذا الواقع اليهودي المتخبط من الطبيعي أن ينخر الفساد فيه حتى يصل لجهاز الشرطة والأمن
وقياداته العليا مما يجعله عرضة للانهيار قريباً، ولذلك تحتل دولة اليهود في الفساد الدرجة 24 من
34 ضمن منظمة الدول المتقدمة OECD.
- هذا الواقع اليهودي الاستعماري والعدواني أضعف أيضا ولاء غالب اليهود خارج فلسطين لهذه
الدولة اليهودية، فهناك تراجع كبير في الانتماء لها بين اليهود في أميركا، فبحسب بحث لمعهد هيبرو
يونيون كولج وجامعة كاليفورنيا فإن 20 % من الأميركيين اليهود دون سن 35 سنة يشعرون بانتماء
قوي لدولة اليهود و70 % منهم لم يزرها إطلاقاً، بل هناك معارضة شديدة من اليهود الأميركيين
لسياسة دولة اليهود، ولعل من أبرز الأمثلة تَشكل منظمة (جي ستريت) اليهودية المناهضة للاحتلال
اليهودي.
- وهذا التصاعد بالانتصار المعنوي للحق الفلسطيني جعل الكثير من شرفاء العالم يؤيدون حركة
المقاطعة لدولة اليهود على كافة المستويات والمعروفة بـ BDS والتي تأسست عام 2005 والتي
تقوم على المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات لدولة اليهود، وقد حققت نجاحاً كبيراً دعت
اليهود لمقاومتها ومحاولة سن تشريعات دولية تحظرها!
- وهذا كله جعل اليهود في حالة مستمرة من التهديد والشعور بعدم الشرعية والمحاصرة، وقد
تصاعد هذا الشعور اليوم مع قرار ترامب العدواني، فقد تنصّلت منه غالب الدول الأوربية، وتداعت
دول العالم الإسلامي للرد عليه وإنكاره.
في الختام؛ إن تصاعد القوة الفلسطينية في وجه المشروع اليهودي الصهيوني قد لا يكون ملموساً
للكثير من الناس، لكن اليهود يدركون خطورة ذلك بكلّ تفاصيله، ويدركون أن الفجوة بينهم وبين
الفلسطينيين تقل بل تكاد تنعدم.
والمطلوب اليوم هو زيادة دعم صمود وجهاد ومقاومة الشعب الفلسطيني، والوقوف بوجه العدوان
اليهودي ولو بمنع تمدده وتطبيع العلاقات معه، هذا على صعيد الحكومات، أما الشعوب المسلمة
فعليها أيضا دعم صمود الشعب الفلسطيني عبر المساعدات الشعبية والضغط على الحكومات لاتخاذ
المواقف السياسية في هذا الاتجاه.
وكلما كانت الشعوب المسلمة أكثر وعيا بقضية فلسطين والقدس كانت تحركاتها واعية تخدم القضية
في الحقيقة، فالمطلوب أن تصب مظاهرات الغضب الإسلامية في العالم في طاحونة الدعم الحقيقي
لقضية فلسطين والقدس ولا تذهب كصرخات عالية في الفراغ!!