خمسة قرون على دخول العثمانيين (١٥١٧-٢٠١٧): الحكم العثمانى فى مصر «٣٠٠ عام من العزلة»
كتب ماهر حسن
ابتداء من العقد الثانى بالقرن الـ١٦ وتحديدا فى عام ١٥١٧، أى قبل ٥٠٠ عام، دخلت مصر فى حوزة الحكم العثمانى بعدما أرسل السلطان سليم الأول رسالة إلى قائد المماليك بمصر «طومان باى» تطالبه بالتسليم والخضوع لدولة الأتراك التى كانت قد ضمت حلب والشام وغزة وبدأت ترنو لحكم مصر، أهم ولايات الشرق العربى، إلا أن الحاكم المملوكى رفض التسليم، وانتهى الأمر بهزيمته فى موقعة الريدانية وشنقه السلطان وعلق جثمانه على باب زويلة، وزالت سلطة المماليك التى استمرت ٢٦٧ عاما.
واستتبع دخول العثمانيين وضع نظام جديد للحكم الذى رزحت تحته البلاد لنحو ثلاثة قرون متعاقبة، وقد تراوحت الآراء حول ما كان للفترة العثمانية فى حكم مصر من مساوئ وإيجابيات، وإذا ما كان السلطان سليم الأول فاتحا ومنقذا أم غازيا، وكانت الغلبة للآراء التى تقول بأن تلك الفترة لم تشهد نقلة أو ازدهارا على أى مستوى، وأن دخول العثمانيين مصر كان مجرد غزو.
«المصرى اليوم» تقدم فى هذا الملف قراءة لفترة حكم العثمانيين لمصر مصحوبة بمجموعة من الشهادات لمؤرخين متخصصين، فضلا عن رصد تجليات الحكم العثمانى وآثاره الباقية بعد انقضائه على أكثر من صعيد، وما تبقى من آثار ولغة يومية ما زلنا نستخدمها فى حياتنا، بالإضافة إلى العادات والتقاليد وبعض تفاصيل نظام الحكم العثمانى.
«سليم الأول» يضم مصر إلى الإمبراطورية العثمانية وينهى سلطة المماليك
٢٦/ ١٢/ ٢٠١٧ |
ظلت الحرب سجالا بين السلطان المملوكى طومان باى والسلطان العثمانى سليم الأول الذى سعى لضم مصر كولاية إلى الإمبراطورية العثمانية، حتى انتهت بهزيمة طومان باى الذى فر متجها إلى الشمال نحو «تروجه بالبحيرة» فى ضيعة تسمى «البوطة» ليحتمى عند الشيخ «حسن بن مرعى»، وبعد أن أقسم له على أن يحميه وألا يغدر به، قام بتسليمه إلى السلطان سليم الأول فى عام ١٥١٧. وتناول الكثير من كتب التاريخ سيرة طومان باى ومواجهاته مع السلطان العثمانى سليم الأول حتى لحظة شنقه، وأوردت وصفا تفصيليا لهذا اليوم الفاصل والمشهود فى تاريخ مصر، حيث تحرك موكب السلطان الأسير (طومان باى) من معسكر سليم العثمانى فى إمبابة عابرا إلى بولاق مخترقا القاهرة إلى باب زويلة وكان يسلم على الناس على جانبى الطريق، حتى وصل إلى باب زويلة وقبل شنقه قال للناس: «اقرأوا الفاتحة ثلاث مرات» وقرأ الناس معه، ثم قال للمشاعلى (الجلاد): «اعمل شغلك»، وتم شنقه على باب زويلة فى ١٣ إبريل ١٥١٧، وسط صراخ الناس وعويلهم. ومما أورده المؤرخ ابن زنبل الرمال بكتابه «آخرة المماليك» فى وصفه لتفاصيل واقعة شنق طومان باى: «كان ذلك اليوم على أهل المملكة أشأم الأيام وبكت عليه الأرامل والأيتام»، أما المؤرخ ابن إياس فقال: «فلما شنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف». ولعل ما دفع سليم الأول إلى إعدام طومان باى هو عدم تصديق المصريين القبض عليه، لأنهم تعلقوا به كرمز لمقاومة العثمانيين، وكان ذلك أيضا سببا فى إبقاء «سليم الأول» جثته معلقة على باب زويلة لمدة ثلاثة أيام، وفى اليوم الثالث أنزلوه وأحضروا له تابوتا، وتوجهوا به إلى مدرسة السلطان الغورى، حيث غسل وكفن وصلى عليه، ثم دفن فى حوش خلف قبة الغورى، وغسله وكفنه وصلى عليه القاضى «أصيل الطويل» حسب وصية «طومان باى». والمثير فى دراما إعدام طومان باى أن الكفن كان من ثياب أرسلها له قاتله السلطان «سليم الأول»، وكان إعدام طومان باى هو المرة الأولى والأخيرة التى يعدم فيها سلطان البلاد ويعلق على باب زويلة، ليسدل الستارعلى دولة المماليك وتبدأ حقبة الحكم العثمانى لمصر الذى استمر لأكثر من ٣٠٠ سنة، وفى عامنا هذا يكون قد مر خمسة قرون على بدايته. أما عن مكانة طومان باى لدى المصريين فقد احتل مكانة كبيرة فى وجدانهم لأجيال عدة بعد شنقه على باب زويلة، وظل الناس يقرأون الفاتحة عند مرورهم تحت باب زويلة فى الموقع الذى شنق فيه طومان باى حتى سنوات قليلة مضت ترحمًا عليه، وكانوا يشيرون إلى بقايا حبل فى الخطاف الموجود بسقف الممر الذى يتوسط الباب باعتباره الحبل الذى شنق به طومان باى، وذلك لأنه كان حسب المصادر التاريخية التى كتبت فى عهده أميرًا وسلطانًا «لين الجانب قليل الأذى كثير الخير غير متكبر ولا متجبر، كما كان دينًا صالحًا خيرًا فاضلًا زائد الأدب والسكون والخشوع والخضوع..». وأكدت المصادر التاريخية أنه كان زاهدًا فى جمع المال بخلاف غيره من أمراء العصر وسلاطينه، وأن دعته وهدوءه لم يمنعاه من أن يكون محاربًا شجاعًا مقدامًا خبيرًا بالحرب، وقد بدت مهارته الحربية فى معاركه التى تصدى فيها لسليم الأول بدءًا من الريدانية وانتهاء بمعركة الجيزة عبر ما يقارب الثلاثة أشهر، وقد أدهشت شجاعته وقدراته الحربية معاصريه حتى الأعداء منهم. وسجل طومان باى بنفسه ـ وفقا لرواية ابن زنبل الرمال ـ ملحمته وحربه مع سليم الأول بعد هزيمته الأخيرة فى موقعة الجيزة من خلال قصيدة طويلة أنشدها أمام الأهرام لأحد أمراء جيشه الذين صمدوا معه حتى النهاية وهو الأمير قيت الرجبى، وعلقها على الهرم مثلما كانت المعلقات تعلق على أستار الكعبة.
نظام الحكم فى دولة الأتراك: «فرِّق.. تسد»
٢٦/ ١٢/ ٢٠١٧ |
بعد تحول مصر من دولة مملوكية إلى ولاية تتبع الإمبراطورية العثمانية بدءا من ١٥١٧ تبدلت أوضاع الحكم التى اعتادها المصريون، حيث كان العثمانيون يغيرون الولاة بصفة مستمرة، ويجعلون ولاية القائمين عليها قصيرة، مما أثر بالسلب على أدائهم فى رعاية مصالح البلاد والرعية، وأثقلوا المصريين بالضرائب وعمدوا إلى جمع المال بكل وسيلة لإرضاء الباب العالى ليبقيهم ولاة على مصر فضلا عن تأمين مستقبلهم بجمعهم المال لينفعهم بعد عزلهم. وجاء خضوع مصر للحكم العثمانى متزامنا مع فتح بلاد الشام، بسبب خضوع مصر والشام للدولة المملوكية وانتهى الأمر لسيطرة الدولة العثمانية على مصر والشام. ووضع الأتراك نظام حكم هدفه الأساسى ضمان بقاء تبعية مصر للدولة العثمانية يقضى بتوزيع السلطة على ثلاث قوى يكون لها من التشاحن والتنافس ما يضمن ضعف هذه الهيئات والتجاءها الدائم إلى الباب العالى بالأستانة، وهى الوالى والجيش والمماليك. وكانت السلطة الرئيسية فى يد الوالى يعينه السلطان لفترة قصيرة تتراوح ما بين سنة وثلاث سنوات، ويستثنى من ذلك سليمان باشا وداوود باشا اللذان ظلا فى الحكم لمدة ١١ و١٢ عامًا على التوالى، وفى البداية اتبع سليم الأول نفس النهج الذى كانت تتبعه الدولة العثمانية فى الاستعانة بالحكام المحليين الموالين للدولة فقام بتعيين المملوكى خاير بك كنائب له فى مصر وبعد وفاة خاير، أصبح الوالى عثمانيا يأتى من الأستانة، ووظيفته هى نقل أوامر السلطان والعمل على تنفيذها واختيار حكام الأقاليم وإرسال الخراج للسلطان كل عام والإنابة عنه فى جميع المناسبات الرسمية. ولإبقاء سلطة الوالى تحت السيطرة، دشنت الدولة العثمانية القوة الثانية وهى الديوان الذى يمثل هيئة الرقابة على الوالى، وقام السلطان سليم بتقسيمه إلى الديوان الأكبر المكلف بالأعمال المهمة وله الحق فى إيقاف أوامر الوالى والرجوع إلى ديوان الدولة العثمانية، وكان يرأس جلساته وكيل الوالى ويتشكل من الضباط والعلماء، والديوان الأصغر المكلف بالأعمال المحلية ويتكون من «وكيل الوالى والدفتردار والروزنامجى» وممثل عن كل وجاق، وهو الفرق العسكرية التى كان يتكون منها الجيش. وشكل سليم الأول جيشًا يتكون من ٦ وجاقات عسكرية من الجند الأتراك الانكشارية «٤ فرق من الفرسان و٢ مشاة» مهمته الأساسية حماية البلاد ضد الاعتداءات الخارجية وجباية الضرائب، ويتراوح عدد جنود الوجاقات بين ١٢ ألفا و٢٠ ألف جندى ولاحقا أضاف السلطان سليمان وجاقا سابعا من المماليك الجراكسة. وتمثلت القوة الثالثة فى المماليك الذين تولوا السلطة المحلية الإدارية، وكانت مصر مقسمة إلى ١٢ إقليما تولى إدارتها المماليك من خلال حفظ الأمن والنظام وتقوية الترع والمصارف ووضع تسعيرة للسلع ومراقبتها وجباية الضرائب، وعلى مدار ما يزيد على قرنين، ظلت مقاليد الأمور فى مصر للولاة العثمانيين إلا أن كثرة تغيير الولاة وضعف الحكومة المركزية بالأستانة، مكنا المماليك من استعادة قوتهم مرة أخرtى وعادوا لحكم البلاد طوال فترة شهدت صراعات طويلة بين الشركاء المتنافسين. وفى عام ١٧٦٨ استغل على بك الكبير انشغال الدولة العثمانية فى حربها مع روسيا، وأصدر أمرًا من الديوان بعزل الوالى وإرساله إلى القسطنطينية وعين نفسه حاكمًا لمصر وأعلن استقلالها عن الدولة العثمانية ووسع حدود دولته من خلال السيطرة على شبه الجزيرة العربية حيث أرسل قائد جيوشه محمد بك أبوالذهب للتوسع فى الشام إلا أن العثمانيين استطاعوا استمالة الأخير، فأوقف معارك جيشه واتجه إلى مصر لمحاربة على بك الذى هرب إلى الشام، فتولى السلطة خلفًا له أبوالذهب وعادت سلطة الباب العالى إلى ما كانت عليه. وبعد عامين توفى أبوالذهب، فعمت الفوضى البلاد مرة أخرى بسبب تنازع ثلاثة من زعماء المماليك على حكم مصر هم إسماعيل وإبراهيم ومراد، فاتحد الأخيران على الأول، واتفقا على تولى أكبر منصبين بالتناوب فيما بينهما هما شيخ البلد وأمير الحج، وظلا يحكمان مصر حتى مجىء الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت فى مايو ١٧٩٨ وبعد خروج الفرنسيين من مصر عام ١٨٠١ تولى حكم مصر الوالى العثمانى خسرو باشا الذى قام بإرسال محمد على إلى الصعيد لتصفية المماليك إلا أن الأخير تحالف مع زعيمهم عثمان البرديسى وتمكن من عزل الوالى فى ١٨٠٣، ثم انقلب على البرديسى وحرض جنوده للمطالبة بمتأخرات رواتبهم، ما دفعه لفرض ضرائب كبيرة على سكان القاهرة، الأمر الذى جعل الناس يثورون عليه، فاضطر إلى الهرب عام ١٨٠٤ولم يبد محمد على رغبة فى الحكم، بل إنه دفع بخورشيد باشا واليًا على مصر لكن خورشيد استقدم جنودًا من المغاربة أساءوا للمصريين ونهبوا ثرواتهم، فازداد كره الشعب له وحاصروه بالقلعة وطلبوا من السلطان تعيين محمد على واليًا للبلاد وكان لهم ما أرادوا.
«الطباعة».. إحدى الكبائر والموبقات عند فقهاء العثمانيين
٢٦/ ١٢/ ٢٠١٧ |
فى سنة ١٤٤٧، أثير الأمر فى بلاط السلطان العثمانى بايزيد الثانى، ثامن سلاطين بنى عثمان، بغرض استيراد «الطباعة» من أوروبا، إلا أن فقهاء الدولة العثمانية وقفوا للفكرة بالمرصاد، واعتبروها من الكبائر، بل أصدروا فتوى بتكفير من يقوم باستخدامها والحكم بالإعدام على من يستخدم ذلك الاختراع، وكانت حجتهم فى ذلك أنهم خافوا من تحريف القرآن. وعلى المستوى السياسى، فإن السلطان بايزيد الثانى قاوم بشراسة الاختراع الجديد وأصدر مرسوما بتحريمه على رعايا الدولة العثمانية، وبعد أن لجأ كثيرون من يهود إسبانيا للبلاط العثمانى فارين من ويلات محاكم التفتيش، استطاع أحدهم إقناع السلطان بالسماح بالطباعة لليهود فقط، بحجة الحفاظ على ديانتهم، فتم استثناء اليهود من الفرمان السابق، وسارعوا بانتهاز الفرصة وقاموا بطباعة ترجمة عربية للتوراة ومبادئ تعلم العبرية سنة ١٤٩٤م. وكان التطور الثانى فى منتصف القرن الثامن عشر، حيث وعى سفير الدولة العثمانية فى باريس محمد الجلبى وابنه سعيد أهمية الطباعة، ونجح الأول فى إقناع الفقهاء والسلطان بإصدار فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط ١٧٢٨م، ولكن عندما لاحظ الفقهاء انتشار كل الكتب العلمية ورخص أسعارها أصدروا فتوى تجيز طباعة الكتب الدينية وكذا طباعة القرآن الكريم وتجليده. وكانت الآستانة بذلك أول بلد شرقى يعرف المطابع الحديثة ويرجع ذلك إلى عام ١٥٥١م، فى عهد السلطان سليمان الأول القانونى (١٥٢٠- ١٥٦٦م)، وكانت ترجمة التوراة إلى اللغة العربية، التى قام بها سعيد الفيومى المصرى، هى أول كتاب يطبع فى تركيا فى ذلك العام وقد طبعت بحروف عبرية. وكانت أول مطبعة تطبع بحروف عربية فى إسطنبول هى التى أسسها إبراهيم الهنغارى عام ١٧٢٧م، وسمح له بطباعة الكتب عدا القرآن الكريم، وكان أول كتاب يظهر فى هذه المطبعة هو كتاب «قاموس وان لى» فى مجلدين بين عامى ١٧٢٩-١٧٣٠م، وهو ترجمة تركية لقاموس «الصحاح» للجوهرى. ولم يدخل العثمانيون الطباعة إلى مصر طوال حكم الولاة، وكان أول عهد مصر بها مع بداية الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨م، التى حملت معها ثلاث مطابع مجهزة بحروف عربية ويونانية وفرنسية، وكان الهدف الأساسى لهذه المطابع هو طباعة المنشورات والأوامر، وكانت تقوم بعملها فى عرض البحر، حتى دخلت الحملة القاهرة فنقلت إليها. وعرفت مطبعة نابليون باسم المطبعة الأهلية، وأصدر جريدتى «كورييه دى إيجيبت» التى تهتم بالأخبار العامة، و«ديكاد إيجيبسيان» فى العلوم والثقافة، كما أقام المجمع العلمى فى ٢٢ أغسطس ١٧٩٨، وقام فريق من ١٩٧ شخصًا من العلماء والمهندسين والفنانين بإجراء الدراسات والبحوث المتعلقة بالبلاد، ثم تم جمع نتائج تلك البحوث فى كتاب «وصف مصر» الذى طبع فى فرنسا ١٨٠٩. وبعد حوالى عشرين عامًا، أنشأ والى مصر محمد على باشا على أنقاض المطبعة الأهلية ما عُرف باسم المطبعة الأهلية أيضًا، ثم نُقلت إلى بولاق، فعرفت بمطبعة بولاق، أو المطبعة الأميرية، ومثلت هذه المطبعة ثورة فى عالم المعرفة
مؤرخون: الدولة العثمانية عزلت العرب بحجة حمايتهم من الاستعمار
٢٦/ ١٢/ ٢٠١٧ |
أجمع مؤرخون على أن الدولة العثمانية فرضت عزلة عالمية على العرب، بحجة حمايتهم من الاستعمار الأوروبى الصليبى، وأكدوا أن أهم سلبيات الدولة العثمانية هى التسهيلات التى منحتها للدول الأوروبية التى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية الشرسة على الدول العربية بعد ذلك. يقول المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقى إن مصر لم تشهد أى مظهر من مظاهر الحداثة طوال حكم الولاة العثمانيين حتى مجىء الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت إلى مصر فى يوليو ١٧٩٨، سواء فى البناء الاقتصادى أو الاجتماعى ومن ثم الثقافى، يجعل المجتمع يشعر بأى شىء مختلف عما كان عليه الحال من قبل. وأضاف الدسوقى: «السلطان العثمانى حل محل السلطان المملوكى، واستمر حكم الولاة العثمانيين حكماً سطحياً دون أن يتغلغل فى أعماق المجتمع بحيث يُحدث تغييراً فى ثقافة المصريين الذين ظلوا يعيشون فى إطار تقاليدهم وثقافتهم المتوارثة، ولم تبدأ الحداثة فى مصر إلا مع حكم محمد على باشا بمقتضى التغييرات التى أحدثها فى البناء الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، ومن ثم اكتسب لقب (مؤسس مصر الحديثة)، ولم يكن محمد على بهذه المناسبة والياً عثمانياً تقليدياً حتى ننسب ما فعله فى مصر إلى الحكم العثمانى، بل كان من بلاد مقدونيا فى البلقان، أى أحد رعايا الدولة العثمانية هناك، شأن أى مصرى آنذاك، ولعبت الظروف دورها فى توليه حكم مصر وتلك مسألة أخرى». وأوضح أن السلطان العثمانى استند فى حكم مصر إلى نظام الطوائف الذى كان قائماً فى البلاد، سواء كانت دينية أو مذهبية أو مهنية أو حرفية أو عرقية، وهو نظام كان يضم أبناء كل طائفة تحت رئاسة شيخ يختارونه ويتولى رعاية أبناء الطائفة ويقوم بهمزة الوصل بينهم وبين الوالى، مشيراً إلى أن الطائفة كانت بمثابة «الوطن» الذى يعيش فيه أبناؤه ويخلصون له ويعملون من أجله، الأمر الذى لم يجعل المصريين يشعرون بعبء السلطة الحاكمة الوافدة. وتابع: «بعد ظهور البرتغاليين فى جنوب البحر الأحمر فى إطار حركة الكشوف الجغرافية، منع العثمانيون مرور المراكب الأوروبية فى البحر الأحمر خشية أن تكون محمَّلة بالعساكر على أن يتم تفريغ حمولتها فى ميناء المخا، وتنقل البضائع على مراكب محلية إلى السويس ومنها براً إلى الإسكندرية ثم إلى أوروبا، ورغم حسن النية وراء هذا الإجراء فإنه أدَّى إلى عزلة المصريين عما يدور فى العالم الذى كانوا يتعرفون عليه من خلال التجار الذين كانوا يقيمون فى البلاد مع تجارتهم فى رحلة القدوم والذهاب، ولم يكتشف المصريون هذه العزلة إلا مع مدافع الحملة الفرنسية». ويقول الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس، إن الدولة العثمانية بلغت ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، واتجهت فى غزواتها أولاً ناحية الغرب ووصلت إلى النمسا وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من روما ولكنها سرعان ما تخوفت من استمرار توجهها غرباً وهى تدرك أن المنطقة العربية تعانى من ضعف واضطراب شديد، وأنها معرَّضة لغزو فارسى، حيث تسعى الدولة الفارسية منذ أوائل القرن السادس عشر لنشر الفكر الشيعى فى المنطقة، ولذلك غيرت الدولة العثمانية اتجاهها وقامت بغزو الدول العربية وحولتها إلى ولايات تابعة لها، واستمر الحكم العثمانى للدول العربية حوالى ٤٠٠ سنة واحتدم الخلاف بين المؤرخين العرب والأوروبيين على الآثار السلبية والايجابية للحكم العثمانى على الدول العربية ومستقبلها. ويؤكد شقرة أن هناك إجماعاً على أن نقل الدولة العثمانية الآلاف من العمال المهرة إلى إسطنبول كان وراء انهيار وتدمير الصناعات المصرية التقليدية وتراجعها وتراجع إبداعات الطوائف الحرفية المختلفة، وأن الجريمة الكبرى التى ارتكبتها الدولة العثمانية فى حق الولايات العربية هى العزلة التى فرضتها على العرب بحجة حمايتهم من الاستعمار الأوروبى الصليبى ونبش قبر الرسول. ويضيف: «يرى المؤيدون للدولة العثمانية أنها أجَّلت وقوع الاستعمار الأوروبى للولايات حتى القرن التاسع عشر، ويعدون ذلك إيجابية من أهم إيجابياتها، والحقيقة أن هؤلاء تناسوا وتجاهلوا أن الاستعمار الأوروبى ظاهرة ترتبط بالتطور الرأسمالى للمجتمع الأوروبى، حيث ارتبطت ظاهرة الاستعمار بالنهضة الصناعية واتجاه الدول الرأسمالية إلى الاحتكار، الأمر الذى دفعها إلى احتكار الأسواق ونهب الموارد الطبيعية للولايات العربية». وأكد شقرة أن إحدى أهم سلبيات الدولة العثمانية هى التسهيلات التى منحتها للدول الأوروبية، والتى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية الشرسة، مشيراً إلى أن من أبرز إيجابياتها عدم انتهاجها المركزية فى بداية حكمها، الأمر الذى ساعد على احتفاظ الولايات العربية بشخصيتها القومية. وعن الاتهامات التى لاحقت الدولة العثمانية من تهريب الحرفيين يقول الدكتور محمد عفيفى، أستاذ التاريخ بآداب القاهرة، إن هذا الأمر أدى لتدهور الحرف، مشيراً إلى أن هذا الأمر كان عادة الدول الفاتحة آنذاك كدليل على الانتصار، وأنهم أخذوا من كل الدول التى دخلوها كالعراق وصربيا وفلسطين وسوريا وغيرهم، وأن الصناع أعجبهم الحال فبقوا بالقسطنطينية وإسطنبول وتزوجوا وحققوا نهضة هناك ولم يكونوا يريدون الرجوع. وحول ما قدمته الدولة العثمانية لمصر يؤكد عفيفى أنها لم تضف إلى مصر بل أضعفتها وأفقدتها بريق وقوة الدولة، مشيراً إلى أن مصر رغم ذلك وبما تمتلكه من إمكانات طبيعية وبشرية ظلت أهم ولاية عثمانية لدرجة أنها كانت تشكل تهديداً للدولة العثمانية، حتى إن مجد الأزهر وقوته استمدها من العصر العثمانى، وبداية ظهور شيخ الأزهر فى العصر العثمانى، وظلت مصر منارة الثقافة العربية والإسلامية، وكانت تقدم السكر والأرز لإسطنبول. وأضاف: «مصر هى التى أضافت للدولة العثمانية، وأول من حصل على لقب (خادم الحرمين) هو السلطان العثمانى سليم الأول، وقد تم إرسال الغلال والكسوة للحجاز من مصر بقرار عثمانى، باعتبار مصر أغنى دولة فى المنطقة، وقد أثرت مصر فى الدولة العثمانية فى عهد محمد على باشا كثيراً لدرجة دفعت البعض للقول إن تجربة محمد على التحديثية علَّمت الباب العالى الإصلاح». وحول أبرز فترات التردى فى العصر العثمانى تابع أستاذ التاريخ بآداب القاهرة: «فترة القرن الـ١٨ بشكل عام كانت فترة صعبة على مصر نتيجة ضعف الامبراطورية العثمانية، وبالتالى الولاة العثمانيون على مصر صاروا ضعافاً وصارت سلطتهم أضعف من سلطة المماليك خاصة حينما حاول على بك الكبير استعادة أمجاد المماليك، وكان هناك صراع على السلطة بين المماليك والعثمانيين والحامية العثمانية وصارت السلطة الفعلية فى أواخر هذا القرن للمماليك، ومع ذلك فإن الدولة المصرية لم تضعف فى العهد العثمانى، فمصر كانت لديها مقومات تاريخية جعلتها تتصدى لهذا الضعف». ويقول الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، رئيس الجمعية التاريخية: «حدث تحول من دولة المماليك ومركز الخلافة الإسلامية منذ عهد الظاهر بيبرس، وكانت مصر تمثل دولة إسلامية قوية، وكانت هناك ثلاث قوى صاعدة فى آسيا الوسطى ومنها القوة العثمانية إثر دخول محمد الفاتح القسطنطينية وصاروا قوى صاعدة طموحة للسيطرةعلى البلقان واليونان وبلغاريا وغيرها، وبدأت القوى العالمية تظهر ممثلة فى البرتغاليين، وكان المماليك محتكرين طرق التجارة الشرقية، ومن ثم فقد بحثت هذه القوى الصاعدة عن طرق تجارة أخرى فلجأوا إلى طريق رأس الرجاء الصالح مما أثر بالسلب على إمكانات مصر وعلى الجانب الآخر كان العثمانيون يتوسعون فيما نسميه الآن العالم العربى كالخليج والشام ومصر إذن فمصر تحولت بعد دولة المماليك إلى ولاية عثمانية لكنها ولاية متميزة ذات عاصمة متميزة بعد إسطنبول». وعن عهود القوة والضعف فى عهد السلاطين العثمانيين يوضح فؤاد: «القوة تمثلت فى عهود السلاطين سليم الأول وسليمان القانونى رائد التشريع ومحمد الفاتح ومحمود الأول والثانى وعبدالحميد الأول إلى أن تم وضع حدود استعمارية لمناطق نفوذ بعد معاهدة فرساى وجاء أتاتورك ليلغى الخلافة». وحول اعتبار محمد على وإسماعيل من رجال وولاة الدولة العثمانية فى مصر قال: «محمد على دخل فى مواجهة مع الباب العالى فيما يشبه الندية ولم يكن يمانع فى أن يكون سلطاناً إلى أن حصل على الفرمان العثمانى بتوريث الحكم فى أسرته». وأكد فؤاد أنه يحسب للخلافة العثمانية أنها لم تسمح لليهود بإنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين فى عهد السلطان عبدالحميد الثانى، وأنه سدد ضريبة رفضه بخلعه من الخلافة.
«الفساد العثمانى» يحكم على مصر بـ«٣٠٠ سنة تدهوراً»
٢٦/ ١٢/ ٢٠١٧ |
تعرضت أحوال مصر فى ظل الحكم العثمانى لموجة من التدهور على أكثر من مستوى، حيث تردت الأوضاع الاقتصادية وزادت الضرائب وتراجعت الزراعة والتصنيع والحرف اليدوية. وأرجع بعض المؤرخين أسباب تدهور الأوضاع إلى نظام الحكم، حيث كان الولاة العثمانيون على مصر محدودى المدة، ما جعلهم يصبّون اهتمامهم على جمع المال عن طريق الضرائب التى فرضوها على المصريين والحصول على أكبر قدر من المنافع، ولم يشغلوا أنفسهم بما يمكن وصفه بتحقيق تنمية وتطوير حقيقى. وعلى صعيد الزراعة، فقد صارت الأرض الزراعية ملكًا للسلطان العثمانى الذى ترك للفلاح حق الانتفاع بها نظير دفع الخراج، ولم يشغل باله بتطوير الزراعة أو زيادة الرقعة المزروعة من الأراضى أو دعم الفلاح للحصول على منتج زراعى، ومن ثم تحقيق نهضة زراعية أو زيادة فى المحاصيل، مما أدى إلى قلة المساحة المزروعة وقلة الإنتاج الزراعى. وشهدت الصناعة تدهورا نتيجة قيام السلطان سليم الأول بنقل الصناع والحرفيين المهرة من مصر إلى القسطنطينية، وكان من الطبيعى أن يؤثر هذا الأمر على التجارة وحركتها، كما لم يهتم العثمانيون بتحسين الجسور وطرق المواصلات البرية والنهرية، فلم يهتموا بشق ترع أو إقامة جسور أو قناطر، بل إن الترع الموجودة أُهملت وغمرها الطمى بسبب عدم تطهيرها، وحين تعرضت مصر للحملة الفرنسية لم يختلف الأمر، خاصة بعدما أصدر نابليون فى ١٦ أكتوبر ١٧٩٨ أمرًا بالإبقاء على الضرائب العقارية التى كانت سائدة قبل الحملة، وإعداد سجل لكل مقاطعة يُدون فيه ما يتم تحصيله كل يوم، كما أنه أضاف ضرائب أخرى، كرسوم البيع، ورسوم على التجارة، وضرائب إضافية عندما تخلو الخزانة. أما على الصعيد الاجتماعى، فكان العثمانيون يحتكرون ويمتلكون كل شىء، كما حرّم السلطان العثمانى سليم الأول على الأتراك الزواج من المصريات أو من أرامل المماليك، ولكنهم مع بداية القرن ١٨ ومع ضعف الدولة العثمانية بدأوا فى مخالفة تلك القواعد. وفى كتاب «القاهرة» لـ«شحاتة عيسى إبراهيم» جاء أن السلطان سليم الأول لم يكن يُعنى برفاهية مصر وتقدمها بقدر اهتمامه بربطها بعجلة الإمبراطورية العثمانية واستنزاف مواردها وابتزاز أموالها. وينقل عن المؤرخ المصرى ابن إياس الذى عاصر الغزو العثمانى لمصر أن سليم الأول أمر بجمع ألفين من المصريين من رجال الحرف والصناعات وكبار التجار والقضاة والأعيان والأمراء، وأرسل بهم للقسطنطينية، كما عمد العثمانيون مع بداية ولايتهم لنزع ما فى بيوت مصر والقاهرة وأثمن ما فيها من منقول وثابت، حتى الأخشاب والبلاط والرخام والأسقف المنقوشة ومجموعة المصاحف والمخطوطات والمشاكى والكراسى النحاسية والمشربيات والشمعدانات والمنابر، وهناك ما يشبه الإجماع بين المؤرخين على أن مصر دخلت بالفتح العثمانى طور الكمون والسبات العميق لمدة ثلاثة قرون. كما أجمع المؤرخون على أن حكم الولاة العثمانيين لمصر هو أسوأ حكم شهدته فى تاريخها الإسلامى، وتسبب فى أطول فترة اضمحلال فى العصر الإسلامى على مدى ٣٠٠ عام، وفقدت مصر مورداً اقتصادياً هائلاً، واقتصرت صلاتها التجارية على حوض البحر المتوسط والسودان وبلاد الحبشة والحجاز واليمن. وكان العثمانيون ينظرون للمصريين بنظرة تعالٍ واحتقار، وقصروا الوظائف الإدارية على نفس عنصرهم التركى وعنصر المماليك الشركسى، فانحط المستوى الاجتماعى للشعب المصرى، وشاع الاعتقاد فى السحر والخرافات، وراجت أسواق المشعوذين والدجالين، وقلّ ظهور العلماء وانحطت اللغة العربية نتيجة استخدام اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد. ورغم ذلك لم يخل العصر العثمانى من منشآت معمارية كالمساجد والتكايا والأسبلة. وانعكس التراجع السياسى والاقتصادى على الجوانب الثقافية أيضًا، فعندما فتح سليم الأول مصر نهب آثارها وسرق الكتب من المدارس والمساجد، مثل مؤلفات السخاوى والمقريزى، واقتصر التعليم على الأزهر الشريف
«السبيل والتكية ومدفع رمضان والمحشى والبقلاوة» أبرز موروثات الأتراك وأنواع الأكلات والحرف والألقاب
٢٦/ ١٢/ ٢٠١٧ |
بعد تعاقب الثقافات والحضارات على أى دولة تتأثر معرفتها وعاداتها وتقاليدها، بل معجمها اللغوى الخاص، بتلك الثقافات، وهذا ما حدث فى مصر إثر خضوعها للإمبراطورية العثمانية، حيث رحلت الامبراطورية وبقى بعض شواهدها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها، بل قاموسها اللغوى. ولأن مصر ظلت خاضعة للحكم العثمانى لأكثر من ثلاثة قرون فقد تأثرت بالدولة العثمانية، التى تأثرت هى أيضاً بطبيعة الحياة وتقاليدها فى مصر، فيما يمثل تأثيراً تبادلياً، وقد امتد تأثير الحقبة العثمانية فى مصر إلى العديد من نواحى الحياة، بما فى ذلك العادات والتقاليد، وأصبح لتركيا عادات وتقاليد مقتبسة من مصر والشام، وكذلك اقتبس المصريون والعرب عادات وتقاليد مقتبسة من الحكم العثمانى. وتركت الحقبة العثمانية فى مصر الكثير من الشواهد المعمارية الباقية مثل الأسبلة؛ ففى عهد عبدالرحمن كتخدا فى القرن الثانى عشر الهجرى (الثامن عشر الميلادى)، شهدت مصر بناء عدة أسبلة وكتاتيب بعضها متصل بالمسجد والبعض منفصل عنه، ومن هذه الأسبلة: سبيل محمد على بالنحاسين وعبدالرحمن كتخذا بالجمالية وسبيل الوالدة باشا بشارع الجمهورية، ومن الآثار والشواهد البارزة أيضاً مسجد محمد على بالقاهرة بمآذنه وقبابه المتعددة، الذى صمَّمه المهندس العثمانى سنان لمحاكاة مسجد السلطان أحمد بإسطنبول، ومسجد محمد أبوالدهب، ومسجد سارية الجبل أو سليمان باشا، ويقع داخل قلعة صلاح الدين، وهو أول مسجد فى مصر أنشئ على الأسلوب العثمانى، ومسجد سنان باشا ومسجد الملكة صفية فى شارع محمد على بالقاهرة، وهى زوجة السلطان مراد الثالث، ومسجد تغرى بردى، ويقع فى شارع المعز لدين لله، ومسجد سيدى عقبة بن عامر، ومسجد ميرزا. ومن الشواهد المعمارية التى خلَّفها الحكم العثمانى لمصر أيضاً التكايا التى أقامها العثمانيون لاستقبال المتصوفين الذين ينقطعون للعبادة، ومنها التكية السليمانية وتكية السلطان محمود بشارع بورسعيد، ومن أهم المنشآت فى ذلك العصر سبيل خسرو باشا بالنحاسين، ويقع بجوار قبة السلطان الصالح نجم الدين أيوب. واستحدث العثمانيون فى بناء الجوامع بمصر الشكل التركى، وهو متخذ من شكل الكنائس البيزنطية القديمة، ومن مظاهر هذا الاقتباس اتخاذ القباب بدلاً من السُّقُف المستوية، فصارت القبة فى كل جامع هى المركز الذى يدور عليه بناء الجامع، وكانت القباب قبل ذلك تستخدم فى الأضرحة فقط. ويعد عبدالرحمن كتخدا هو شيخ المشيدين والمرممين فى ذلك العصر؛ فله ١٨ جامعاً فى القاهرة من بين منشأ حديثاً ومجدد، وأشهر ترميماته ترميمه الجامع الأزهر وضريح السيدة زينب والسيدة سكينة، وآخر ما أُقيم فى مصر من الآثار التركية السبيل والكتاب اللذان بناهما السلطان مصطفى الثالث تجاه مسجد السيدة زينب، وسبيل وكتاب السلطان محمود الأول فى شارع درب الجماميز. وفيما يتعلق بالطقوس الرمضانية فإن مدفع رمضان هو تقليد بدأه العثمانيون فى مصر لإعلان حلول الشهر ومواقيت الإفطار والإمساك. ومما خلفته الفترة العثمانية من تأثير على القاموس المصرى أنْ تركت مجموعة كبيرة من الكلمات التى نستخدمها فى حياتنا اليومية دون أن يعرف كثيرون أن أصلها «عثمانى»، وقد امتزجت بالقاموس الذى يستخدمه المصريون فى حياتهم اليومية، ومن هذه الكلمات ما هو موجود فى مجالات العمارة والتجارة والسياسة وفى المجال العسكرى أيضاً، ومن هذه الكلمات كلمة «جمرك» التى تعنى «الضريبة التى تؤخذ على البضائع»، وكلمة «شنطة» للدلالة على الحقائب، وبخاصَّة الصغيرة منها، وكلمة «جزمة» وأصلها «تشيزمه» بالتركية بمعنى حذاء. ومن الألفاظ التى يستخدمها المصريون أيضاً كلمة الأسطى، وأصلها (أستا)، وهى فارسية دخلت اللغة التركية والعربية، وتعنى «الأستاذ»، كما تعنى فى أساسها الصانع الحرفى الماهر الذى أتقن صناعته، كما أنها تعنى فى مصر «السائق» أيضاً، وكلمة «الطوبجى» كلمة تركية بمعنى «المدفعجى»، وهو القائم بإطلاق المدفع، وكان للطوبجية أميرالاى أو «قائد المدفعجية»، فى حين أن «الطوبخانة» تعنى «مخزن مدافع الجيش». أما إضافة حرفى الجيم والياء فى نهاية الكلمة التى تعبر عن كل مهنة فأصلها تركى أيضاً، ومنها: «مكوجى وبوسطجى وقهوجى وقومسيونجى وقانونجى وسفرجى». أما كلمة (بُقجة) فأصلها تركى ويستخدمها البسطاء تعبيراً عن القماشة التى يجمعون فيها متعلقاتهم فى شكل (صُرَّة)، وأيضاً كلمة «دولاب» وكلمة «قبضاى» وتُستخدم للتعبير عن قوة الشخص وجرأته، وتعبير «عفارم عليك» يعنى «أحسنت»، وكذلك كلمة «شاكوش» أى «المطرقة»، وكلمة «طابور» للدلالة على «الصف» وتعنى «جماعة من العسكر يتراوح عددهم من الـ٨٠٠ إلى الـ١٠٠٠»، وكلمة «درابزين»، وهو السياج على جانبى السُّلم، وكلمة «كوبرى» للدلالة على «الجسر». ومن الكلمات المستخدمة فى البلاط الخديوى قديماً فى مصر كلمة «قادين»، وتطلق على الجارية بعد أن تصبح خليلة الخديو، ومازالت كلمة «قادين» تستخدم فى تركيا، ومعناها «امرأة»، وهناك كلمة تركية نجدها فى الأغانى المصرية الفولكلورية القديمة وهى كلمة «ياواش ياواش»، ومعناها بالعامية المصرية «بشويش». وتعد الألقاب التى اعتدنا استخدامها من قبل ثورة يوليو إلى الآن، وهى «بك وباشا وأفندى وأفندم وهانم»، تركية أيضاً، وكانت كلمة «أفندى» لقباً للأمراء وأولاد السلاطين، كما كانت لقباً لرؤساء الطوائف الدينية والضباط والموظفين، أما كلمة «البازار» فهى فارسية الأصل دخلت اللغة التركية وتأتى بمعنى «السوق»، وتعنى كلمة «الباش أو الباشى»: الرئيس أو المسؤول، مثل «باش كاتب» أو «باش مهندس»، وتأتى أحياناً فى آخر الكلمة مثل «بك باشى» ومعناها مقدم و«حكيم باشى»، واشتق منها لفظ «باشا». أما عن الرتب والألقاب العسكرية فأغلبها يعود لأصل تركى، ومنها كلمة أونباشى، وهو المسؤول عن عشرة عسكريين، أى «أون»، وكلمة «يوزباشى»، وهو المسؤول عن مائة جندى. وتبادل المطبخان التركى والمصرى التأثير فى قاموس الطبخ وأنواع الأطعمة وأسمائها، وهناك أكلات متشابهة بين المطبخين تحمل نفس الاسم. ومن أشهر الأكلات التركية التى يضمها المطبخ المصرى وأصلها عثمانى: «المحشى» والمعروف فى تركيا باسم «دولمه» والكباب والكفتة والشركسية والشكشوكة والشاورمة والكبيبة وبابا غنوج والشيش طاووق.. كلها تركية، أما الحلويات فأبرزها الكنافة والبسبوسة والبقلاوة، وعن أصل تسميتها تقول إحدى الروايات إنه كان للسلطان العثمانى عبدالحميد طباخة اسمها «لاوة»، وهى التى ابتدعت هذه الحلوى، وعندما ذاقها السلطان لأول مرة قال لضيف عنده: «باق لاوة نه بايدى»، أى: انظر ماذا صنعت الطباخة «لاوة». ويفتخر الأتراك بامتلاكهم الحق التاريخى فى البقلاوة، وقيل إن تاريخها يعود فى شكلها الأول إلى الآشوريين، ثم أخذها عنهم الأتراك فى عصور الدولة العثمانية وطوَّروها، أما أشهر الأكلات المصرية التى نقلها المطبخ التركى فهى الفطير والحمام.
|
|
|
|
|
|