الناتو وتركيا: قصة حلف من نوع خاص
انضمت تركيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952 وظلت تحتفظ بعلاقة حميمة واستراتيجية مع الحلف على مر العقود التالية، لكن التغيرات الإقليمية والدولية الكبرى التي طرأت على جيوسياسية المنطقة والعالم، بدءاً من الثورة الإيرانية، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط حائط برلين، ثم أحداث 11 سبتمبر، كل ذلك فرض تحولاً في أهداف الحلف الذي لم تصبح عقيدته الأهم ولا أولويته الوحيدة هي مقابلة حلف وارسو، أو الوقوف في وجه التمدد الروسي.
هذه التغيرات لم تخصم من قوة تركيا، وإنما عززت من أهميتها بعد قيامها بدور لوجستي محوري، ضمن عمليات الحلف في حربي الخليج الأولى والثانية، ثم في معارك أفغانستان والبوسنة والهرسك. تمت كذلك الاستفادة من موقع تركيا الجغرافي لتكون إحدى القواعد الاستراتيجية التي تعمل على صد هجمات إيران الصاروخية المفترضة.
شيئاً فشيئاً بدأت الأراضي التركية تحوي العديد من محطات الرادار ومنصات إطلاق الصواريخ وغيرها، مما هو تابع للحلف من مراكز التحكم وقيادة العمليات، أما قاعدة «إنجرليك» المنشأة برعاية أمريكية منذ عام 1951 في موقع قريب من كل من سوريا، عمق ما تسمى بمنطقة «الشرق الأوسط»، والاتحاد السوفييتي السابق، فظلت تحظى بأهمية استراتيجية تجعل الاستغناء عنها صعباً، كيف لا وهي القاعدة العسكرية الأمريكية الوحيدة في المنطقة، التي تحوي منشآت قابلة للاستخدام النووي التكتيكي. مع كل هذه الأهمية لم تسلم تركيا من الانتقاد من قبل الدول الشريكة، كما لم تسلم علاقتها مع الحلف، الذي تشكل فيه القوة العسكرية الثانية، من الاهتزاز، مرة بسبب تدخلها في قبرص (1974) واختلافها السياسي مع اليونان، ومرة بسبب رفضها عبور القوات الأمريكية التي كانت تتجه لغزو العراق في 2003. التوتر الأهم كان إبان الأزمة السورية التي اتضح فيها التباين في الرؤى بين الجانبين، فبالنسبة للأتراك كان دورهم في القضية السورية منطلقاً مما يرونه مصلحة قومية، باعتبار التجاور والحدود المشتركة التي تصل إلى 900 كلم تقريباً، وباعتبار ما أفرزته الأزمة من تحديات تمس بلادهم بالدرجة الأولى، سواء على صعيد اللاجئين أو على المستوى الأمني.
منذ صيف عام 2015، ورغم الاختلافات حول تعريف الإرهاب، أصبحت تركيا عضواً في التحالف ضد تنظيم «الدولة» الذي أنشأه الأمريكيون، بهدف السيطرة على تمدد التنظيم الذي لم يلبث أن بدأ، عبر هجمات داخل العمق التركي، في تهديد الأمن الوطني بشكل مباشر مع تصاعد دعوات معلنة وفريدة من نوعها للجهاد في سبيل ما أطلق عليه «فتح القسطنطينية». بالنسبة للأمريكيين كانت تركيا تمثل مصدر إزعاج لكونها تأخرت في الموافقة على استخدام قاعدة «إنجرليك» العسكرية لتنفيذ ضربات داخل سوريا، واكتفت بأن تجعل منها محوراً للخدمات الإنسانية ونقل المساعدات، وهو ما أجبر الولايات المتحدة على البحث عن بدائل أخرى في المنطقة تصلح للاستخدام المماثل. في الوقت ذاته، ومع رفض الأمريكيين وكثير من الغربيين تسليح المجموعات الثورية السورية، التي كانت تركيا تنسق معها، كان أولئك الغربيون المشككون في هوية هذه المجموعات والرافضون، بحسب إدعائهم، للمساهمة في تغذية الإرهاب، يدخلون في علاقات استراتيجية جديدة مع مجموعات كردية مرتبطة بعلاقات أيديولوجية مع حزب العمال PKK الكردي المعارض. شكّل التعاون غير المباشر مع حزب العمال الكردي الذي يصنف إرهابياً من قبل تركيا، ولكن أيضاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، نقطة خلاف كبيرة وتشكك من قبل الأتراك، الذين طرحوا سؤالهم الفلسفي: هل يمكن التعاون مع بعض الإرهابيين للقضاء على إرهابيين آخرين؟
بدأت أنقرة بعد ذلك في التعامل بحذر، وفي كثير من الأحيان، بشكل فردي لمواجهة التهديدات الإرهابية بحسب تعريفها الخاص الذي لا يفرق بين إرهاب «داعش» وإرهاب الراديكالية العمالية الكردية. لم يتفق الشركاء الغربيون حول هذا التعريف وبدا أنهم يفضلون التركيز على إرهاب المجموعات الإسلامية وتصويره كأولوية وغاية وحيدة.
الأهم بالنسبة للأتراك الحصول على التكنولوجيا والمعرفة الصناعية للاستغناء عن أي قوة إقليمية كانت أو دولية
من التحركات الفردية التي نظر إليها الحلفاء بتشكك، وأخذت كثيراً من الصدى الإقليمي كانت عملية «درع الفرات» التي بدأت في أغسطس 2016، وغيرها من العمليات المتواصلة التي سمحت فيها تركيا لنفسها بالدخول عبر الحدود العراقية والسورية، إما لتأمين هذه الحدود أو لملاحقة المجموعات التي تعتبر أنها تشكّل خطراً كبيراً على أمنها. بجانب كل ذلك، تمثّل الاختلاف الأهم بين الجانبين التركي والأطلسي في ما شاع عن عقد صفقة مع روسيا لتسلم منظومتها الدفاعية S400. شكّل هذا التوجه الجديد الذي جاء بعد محاولات متطاولة للحصول على منظومة الدفاع الأطلسية الأهم، صواريخ «باتريوت»، صدمة داخل الحلف أدت لخروج عدد من التصريحات الناقمة والتهديدات خاصة من الجانب الأمريكي.
كانت ردة الفعل الغربية هذه متوقعة وكان الأتراك على علم ووعي بأن لهذا التوجه، بقدر ما يحوي من عناصر استقلال، بعض المخاطر والمزالق التي من أبرزها تعميق الأزمة بين الشركاء الذين لا تستطيع تركيا الاستغناء عن دعمهم وعلاقتها معهم. المسائل السياسية لم تكن الأثر الوحيد، فقد كان على تركيا أن تستعد للتعقيدات التقنية، التي يمكن أن تنشأ جراء حقن منظومة روسية داخل جيشها وعتادها المعتمد على السلاح الأمريكي المباشر، أو على المنهج الغربي في التصنيع. تم اتهام تركيا من قبل الشركاء بخيانة الحلف عبر الزعم، وهنا يتم مزج الاقتصادي بالأمني، بأنها تتعامل مع المنافسين والأعداء، في إشارة لكل من روسيا والصين. كان ذلك الادعاء غير موضوعي بالنسبة للمراقبين المنصفين، الذين يعلمون أن علاقة هذين البلدين التجارية والصناعية بالغرب لم تتوقف، بل وصلت مرحلة باتت محاولات الحد منها مستحيلة. في الوقت ذاته فإن استغلال الموقف من أجل محاولة الحجر على الخيارات الاقتصادية وتحديد الشركاء نيابة عن الأتراك، كان أمراً غير مقبول من ناحية السيادة الوطنية، ليس فقط بالنسبة لدولة متعاظمة مثل تركيا، ولكن حتى بالنسبة للدول الإفريقية الصغيرة، التي باتت تتفق حول حقيقة أن الشراكة مع الصينيين تظل أكثر فائدة من الشراكة مع الدول الغربية.
في نهاية العام الماضي سرت أنباء عن موافقة الجانب الأمريكي على بيع صواريخه المميزة «باتريوت» إلى تركيا، لكننا لم نسمع منذ ذلك الحين عن موافقة تركية على ذلك، أو عن أي تراجع عن صفقة الأسلحة مع روسيا، بل على العكس عبّر الرئيس أردوغان في تصريحات مقتضبة خلال عودته من قمة سوتشي نهاية الأسبوع الماضي عن التزام تركيا بالاتفاق مع روسيا. ربما أرادت تركيا إيصال رسالة مفادها أنها تريد أن تكون شريكاً أصيلاً لا مجرد تابع يجود عليه الأمريكيون بما يشاؤون، في الوقت الذي يرونه هم مناسباً، إضافة لكل ذلك ربما يكون التراجع عن الصفقة مع روسيا محرجاً من الناحية الدبلوماسية، بعد وصول التفاهمات مرحلة التوافق النهائي، خاصة أن العرض الروسي يظل أفضل بكثير، من الناحية المالية، من العرض الأمريكي، فيكفي أنه عرض مقبول بالعملة المحلية. على المستوى الاستراتيجي فإن الأهم بالنسبة للأتراك اليوم ليس مجرد شراء هذا السلاح أو ذاك، وإنما الحصول على التكنولوجيا والمعرفة الصناعية وهو ما يسعون نحوه بجد من أجل الاستغناء عن أي قوة، إقليمية كانت أو دولية.
كاتب سوداني