من يرسم خريطة الشرق الأوسط الجديد اليوم؟
عبد الإله باحي
منذ الحرب الصهيونية الأمريكية في تموز 2006 على لبنان، إلى اليوم ومخاض الولادة العسير يشتد يوما بعد يوم من أجل طرح مولود اسمه: " الشرق الأوسط الجديد"، الذي بشرت بميلاده حينذاك "كونداليزا رايس" وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا أن إرادة محور المقاومة، المتمثل في كل من إيران، سوريا وحزب الله، أبت عليه إلا أن يكون مولودا بملامح السيادة والعزة وبمواصفات الكرامة والاستقلال. على عكس إرادة معسكر أمريكا وحلفائها الذين وضعوا خريطته الجينية ليكون تابعا خانعا ذليلا ومستنكفا كما هو حال دول الخليج والكثير من دول العالم الثالث اليوم.
في سياق الصراع الحاد بين الإرادتين شنت حرب سوريا المدمرة التي كان ظاهرها وشعارها "التسويقي" تمكين الشعب المستضعف المسكين من حقوقه المشروعة وإنصافه من النظام الديكتاتوري القمعي. في حين كان باطنها وحقيقة كُنهها كسر أهم ضلع في محور المقاومة. هذا المحور الذي وقف سدا منيعا وحجرة عثرة، لمدة تجاوزت الثلاثة عقود، في طريق إنجاز مشروع أمريكا لتقسيم المنطقة وتفتيتها على أسس طائفية وعرقية ومذهبية، والذي دأب البعض على تسميته اليوم ب "سايكس بيكو الجديد".
وبما أن الكيان الصهيوني لا يعدو أن يكون كيانا وظيفيا داخل المشروع الغربي الإمبريالي، فقد تم استعمالها على رقعة الصراع في اليومين الأخيرين من خلال القيام بخطوة لا أقول أنها غير محسوبة العواقب، باعتبار أن كل اللاعبين يحسبون جيدا كل خطواتهم ونسبة ما يمكن أن تجره عليهم من ربح أو خسارة، بل خطوة تكتيكية في سياق خدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى والنهائية لهذا الصراع.
وبما أن مسلسل الحرب التدميرية على سوريا أشرف على نهايته لتكون النتيجة إعلان انتصار سوريا رسميا على الإرهاب، والذي هو أيضا بالموازاة مع ذلك إعلان نهائي وقطعي وحاسم ومدوي عن إسقاط وإجهاض "مولود" الشرق الأوسط الجديد الأمريكي في المنطقة.
وحيث أن حرب تحرير إدلب تمثل آخر حلقة هذا المسلسل الدموي الطويل الممتد لأكثر من سبع سنوات؛ إدلب التي يعتبرها المعسكر الأمريكي فرصته الأخيرة وفي نفس الوقت مناسبته الذهبية من أجل إطالة عمر الحرب وتمديد حالة الاضطراب القصوى وعدم الاستقرار في المنطقة انسجاما مع فلسفة الفوضى الخلاقة التي نظّر لها المحافظون الجدد، مراهنا على عنصر الوقت، إذ كلما طالت الأزمة طال معها استنزاف مقدرات الدولة وإرهاق مؤسساتها وأجهزتها المدنية والعسكرية. وهذا يؤدي للنتيجة الحتمية والمتوخاة من الحرب، التي هي دمار سوريا وتفكيكها والقضاء عليها.
ودائما وفي نفس سياق حرب إدلب، فإن هذا المعسكر كان قد أعد خطة محبوكة جعل شعارها "استعمال السلاح الكيماوي"، لتكون مطية وذريعة ليتدخل بنفسه ومباشرة في المعركة، ليشرف على تنفيذ ما عجزت عنه أدواته في الميدان؛ فبعد التمهيد الإعلامي الضخم وإعداد مسرح العملية من طرف أصحاب الخوذ البيضاء، جاء اتفاق الدول الثلاثة ليسحب هذه الذريعة ويفوت عليه الفرصة.
في ظل هذه الملابسات قام محور المقاومة مدعوما بحليفه الروسي، الذي استعرض قوته هذه الأيام في مياه المتوسط في أكبر و أضخم مناورة عسكرية منذ نهاية الاتحاد السوفياتي والتي يعود تاريخها إلى الثمانينات من القرن الماضي، بإفشال هذا المخطط الغربي في إدلب من خلال الاتفاق الذي تم بين دول الأستانة الثلاثة: إيران، روسيا وتركيا، وهو الاتفاق الذي تم إلحاقه باتفاق تكميلي ثنائي بين الرئيسين بوتين وأردوغان، مفاده إدماج بعض المجموعات المقاتلة بعضها ببعض، تسليم أسلحتها الثقيلة وإجراء تسويات سلمية مع الدولة السورية.
نتيجة لإفشال محور المقاومة وحليفه الروسي لهذا المخطط جاءت الضربة لطائرة "إل20" الروسية نتيجة كمين نصبه لها سلاح الجو الصهيوني في الأجواء السورية والتي راح ضحيتها خمسة عشر من ضباط المخابرات الروسية من ذوي التكوين والخبرة العالية.
هذه الضربة التكتيكية جاءت لخدمة هدفين أساسيين: أولهما المس بهيبة القوة العسكرية الروسية التي استعرضتها هذه الأخيرة خلال مناورتها الضخمة الأخيرة وتحجيمها وعدم السماح بتكريسها لا عمليا ولا ميدانيا، وثانيهما خلط الأوراق باعتبار أن الطائرة الروسية أسقطت بصاروخ سوري، فالمقصود خلق الارتباك وبث بوادر الشك والتململ بين الحليفين روسيا وسوريا.
لكن الرد الروسي وبعد قراءته الصحيحة للمكيدة المُبيتة قلب المشهد على عقبه من خلال الإعلان عن قرار تزويد الدفاعات السورية بصواريخ "إس 300" العالية التطور، ليكون هذا في الجوهر ردا على أمريكا أكثر منه ردا على أداتها في المنطقة "إسرائيل"، كما أنه يعتبر قمة في الذكاء في إدارة الصراع، حيث رد بما هو استراتيجي على ما فعل تكتيكي.
إذن من يملك صواريخ "إس 300" اليوم ومن يملك معها جرأة القرار بأن يزود بها محور المقاومة هو فعلا من يرسم خريطة الشرق الأوسط الجديد.
بهذا القرار سيختل ميزان الردع وتتغير قواعد الاشتباك وسترجح كفة الأعداء الألداء لأمريكا و"إسرائيل" في هذه المنطقة الملتهبة، وسيتم تحييد سلاح الجو القوة الضاربة للجيش الصهيوني، وأداة حسمه لمعاركه مع جيرانه العرب منذ عقود. فمدى وفعالية هذه الصواريخ لن يلجم العدوان الصهيوني فحسب بل سيتعداه ليشمل كل طائرات حلف العدوان الغربي الأمريكي البريطاني الفرنسي في شرق المتوسط.
وفي الختام، هل بهذا سيكون الصراع قد بلغ مداه ليتم توقيف وتيرته المتصاعدة فتقبل أمريكا ودولتها الوظيفية بنتائج الميدان وحقائق الواقع أم أن صواريخ "إس 300" ستكون فاتحة لعهد جديد من احتدام التوتر لن يكون سقفه هذه المرة أقل من الحرب الصلبة المباشرة والمفتوحة بين الكبار؟