التحضر الإسلامي: عوامل قيامه وامتداده داخل الدائرة الإنسانية
أسامة الدواح
Apr 20, 2018
يقول الباحث الليبي الصادق النيهوم: «إن الحضارة لا يمثلها الغرب أو الشرق إنـما يمثـلها الإنسـان الباحـث عن الجـمال». انطلاقا من هذه المقولة فإنه لا يخفى على ذي النظر الحصيف أن الحضارة مفهوم مركب ومعقد، بل يمكننا القول إنها تتخذ في كل حلية تلبسها دلالة وتعريفا، وقد عرف مصطـلح التحـضر لغـويا بأنه الإقامة في الحضر، ومنه انبثق التعـريف الاصطلاحي الذي يعرف التحـضر بأنه الانتقال من حالة البدو إلى حـالة الحضر، ويحـكم بالاسـتقرار الـذي يعتـبر شـرطا أساسيا من شروط التحضر، وهـذا ما أكـد عليه المفكر ابن خلدون في مقـدمته عندما تطـرق في الحـديث عن مفـهوم الحضـارة.
أما في الضفة المقابلة نجد المؤرخ توينبي يؤكد على نظرية التحدي والاستجابة التي ربطها بمفهوم التحضر وجعلها من بين أهم العوامل التي ساهمت في قيامه. ناهيك عن عوامل عدة أخرى صاغها المفكر الجزائري مالك بن نبي التي ربطها بعامل رئيسي ألا وهو عامل الفكرة، ثم كذلك وول ديورانت، صاحب المجلدات الضخمة بعنوان «قصة الحضارة» الذي سلك مسلكا مغايرا ولخص أهم عوامل قيام الحضارة في عامل يخص الطبيعة وعامل يخص الإنسان ذاته.
فمن خلال مجموع هذه العوامل ومع اختلاف طارحيها نرى أن العوامل التي قال بها الجزائري بن نبي والتي لخصها كما قلنا في الفكرة بالدرجة الأولى بالإضافة إلى البيئة الطبيعية والدافع الحضاري هي الأنسب للقول بأنها عوامل فعالة ومركزة لبناء صرح قويم ومتين للحضارة. إذن كيف يمتد التحضر والتحضر الإسلامي خاصة ليشمل دائرة الإنسانية عامة؟ مما لا شك فيه أن الحضارة ظاهرة إنسانية محكومة بقانون الأسباب، وارتبطت بالإنسان أيما ارتباط، ليكون الإنسان بذلك الفاعل الرئيسي في النهضة بالحضارة والارتقاء بها إلى مصاف أخلاقي سديد، يقودها إلى صراط مستقيم ليصل بها إلى المعلوم المضيء لا إلى المجهول المظلم.
هذا العمل كله يبقى على عاتق الإنسان الذي تطور بتطور الأزمنة والعصور، وافتعل في البيئة التي يعيش فيها مفتعلا صالحا نافعا ومفتعلا آخر طالحا فاسدا، غير أنه ما إن تحل في نفسه فكرة تجعله يسير وفق نهج سديد لبلوغ غايات النفع والصلاح، حيث يبدأ بالخضوع لها تدريجيا وبشكل طوعي تلقائي.
وقد يتساءل سائل ويقول مستفهما: لماذا كل هذا؟ ويكون الجواب في أن الفكرة الدينية في الأساس تحل في النفس البشرية حلولا إيمانيا راسخا، وأن الإنسان لا يؤمن بهذه الفكرة إيمانا عقديا إلا إذا التحفت وتزملت بعباءة الإيمان الحق القويم. فامتداد التحضر الإسلامي ينطلق من النفس البشرية، وذلك بترسيخ المبادئ السامية من شهادة وحسن تبليغ وتضرع بالعلم المنير تأسيسا لقيام حضارة بناءة، فالفكرة الدينية التي أكد عليها مالك بن نبي وثمنّها في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» اعتبرت الباعث الأول لصلاح الحضارة الإنسانية، إلى جانب الإرادة والرغبة الملحة، أو بمعنى أدق إلى جانب الدافع الحضاري.
فإذا غابت الرغبة الجامحة من لدن الفرد أولا والجماعة ثانيا لن يمكننا الحديث قولا والعمل فعلا داخل إطار حضارة ذات أساس متين، واتفاق الجماعة على فكرة التوحد ورص الصفوف أمر وارد لا مفر منه، وذلك بتشبثهم بعقيدة التوحيد والاصطفاف في صف واحد متماسك ومتراص.
وفي هذا الصدد ولا أدل على ما نقوله هو الحديث الشريف الذي ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام «مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». لهذا سيجد التحضر الإسلامي الطريق واضحة المعالم وظاهرة المسالك، ليتغلغل فيها ويصل إلى قلب الدائرة الإنسانية التي منها ينطلق وإلى أعماقها يصل، ولنا في ديننا الإسلامي الحنيف أسوة حسنة في بث كل المبادئ السمحة في النفس البشرية، وهناك نماذج عدة لذلك، حيث عملت الدعوة المحمدية على غرس القيم الفاضلة ونشرها في كل أصقاع العالم، لأن الإيمان بها هو السبيل الأمثل لبناء حضارة عالمية متينة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها.
مصداقا لقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» فهذه دعوة عالمية من الله تعالى للناس أجمعين للتعارف والتآزر لأن في ذلك خيرا كبيرا ومنفعة عظيمة وحكمة بالغة، تؤتي ثمارها على الحضارة وتزيد من صلابتها.
وعليه فالتحضر الإسلامي هو ظاهرة نافعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تغلغل في النفس البشرية وامتد حاملا لقيم ومبادئ سمحة داخل الدائرة الكونية عامة، ليكون مرتعا وربحا للفرد والجماعة والأمة جمعاء، فالإنسانية في وقتنا الراهن في حاجة ماسة لما يسمى بفقه التحضر الإسلامي، وفي حاجة ملحة للتمسك بتجلياته وتمظهراته، لأنه هو الضامن للخروج بها من شرنقة الجهل والفساد والانحلال إلى أنوار المعرفة والعلم والصلاح.
كاتب مغربي