الإنسانية بين غضب الله و غضب أوروبا
شرع الله سبحانه و تعالى الإسلام، و شرع منه التوحيد و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج، و العمرة و الجهاد، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أوجب الحقوق للوالدين و الأولاد و الأزواج و ذوي القرابة و الجيران و الأصحاب و أولي الأمر من المسلمين،... الخ.
و نهى عن الشرك و قتل النفس و الزنا و الربا و الخمر و الميسر و الظلم بأنواعه و عقوق الوالدين و ترك الواجبات. و توعد بالغضب و سوء العذاب في الدنيا و الآخرة كل من يهتك حرماته بالتهاون بأوامره أو الانتهاك لنواهيه.
و شرعت أوروبا الكفر و الإلحاد و الفجور و الخمور و الميسر و الربا و الظلم و الاستعباد و التهاون بأوامر الله من صلاة و زكاة وصيام و حج الخ. و فتحت أبواب الحرية الخليعة للمرأة و الأولاد و الأبناء و الأسافل، و استباحت كثيرا من حرم الله، و كسرت كثيرا من حدوده و معالمه، و توعدت من يخالف شرعتها و لم يومن بها بالغضب و السخط و صارم العقاب من سلب البلاد و تسخير العباد و الحرمان من الحقوق و مضايقة الأنفاس، و إغلاق منافذ الحياة. و وعدت من يخلص لها و يؤمن بشريعتها بحسن رضائها، ووافر جزائها من الوظائف العالية و الألقاب الضخمة و المرتبات الوافرة و النياشين الفاخرة، الخ..
فالإنسان الآن بين أحد أمرين لا ثالث لهما، إما غضب الله و رضاء أوروبا، و إما غضب أوروبا و رضاء الله.
لأنه إما أن يسلك المسلك الأول، فيرضي الله و رسوله و يغضب أوروبا، و إما أن يسلك المسلك الثاني فيرضي أوروبا و يغضب الله و رسوله، و لن يمكن لإنسان أن يرضي الله و أوروبا معا،و لا أن يغضبهما معا، من هذه الناحية ضرورة أن في رضاء الله غضب أوروبا، و في رضاء أوروبا غضب الله } و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى و لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي و لا نصير{
إذا دار الأمر بين أحد أمرين إما غضب الله، و إما غضب أوروبا فأيهما يحذر الإنسان و يخاف، أغضب الله أم غضب أوروبا؟
إن غضب أوروبا مهما اشتد و بلغ في الغليان، فإنه لا يتجاوز هذه الحياة الفانية إلى الحياة الباقية، و ليس هو في هذه الحياة الدنيا إلا شرارة ضئيلة بالنسبة لغضب الله، و هذه الشرارة لا يعود لها أثر متى أرسل الله شعاعا من رضائه على عبده، فشعاع واحد من رضائه تعالى على عبده يطفئ كامل حريق غضب أوروبا، و كل رضاء أوروبا لا يطفئ شرارة واحدة من غضب الله.
أما غضب الله –و العياذ بالله- فإنه كما ينصب على العاصي في الدنيا بالخزي و الذل و العذاب، ينصب عليه في الآخرة أضعافا مضاعفة بالويل و العذاب الأليم المخلد في النار، و ليس للمرء منه من شفيع و لا نصير كما أومأت إليه الآية الكريمة المتقدمة، و لو يكون البشر كلهم من أولهم إلى آخرهم على قدرة أوروبا عدة و عتادا ولو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد و حاولوا إنقاذ فرد واحد منهم قدره الله عليه من لون واحد من ألوان العذاب لما قدروا على إزاحته عنه بغير إذنه تعالى: } إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا و مثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم و لهم عذاب أليم { المائدة/36 و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، و إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام و جفت الصحف.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يحسب الإنسان حسابه لغضب الله تعالى و سخطه و شدة بطشه و انتقامه. يتهاون بأوامره و يهتك سائر حرمه و لا يشعر في نفسه بأقل لذعة من توبيخ الضمير أو أخف همسة من صوت الوجدان؟
و هو بالعكس من ذلك إزاء غضب أوروبا، فإنه يرتعد فرقا، ويذوب خوفا من غضبها و سخطها إذا هو ارتكب أقل شيء مما يثير غضبها و سخطها، ثم هو يجتهد في كل ما بجلب رضاءها عنه و يدقق في ذلك و يقيم الدلائل و الشواهد عليه حتى لا تبخسه حقه من الجزاء، مع أن أوروبا من قدرة الله لا توازي جناح بعوضة، فما هذه النفسية المقلوبة؟ و ما هذه العقلية المثقوبة؟
يخاف المرء من حبس يوم واحد ممن لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا، و لا يخاف من حبسه مدة العمر ممن الأرض و السماوات في قبضته، و هذا نهاية في قصور النظر و سوء التفكير.
إن السبب الوحيد الذي جعل الإنسان يذوب فرقا من حبسه يوما واحدا من ذلك، و يخاف من لذع شرارة واحدة لظاهر جلده، ولا يحسب لحبسه مدة حياته من الله أو حرق جسمه جميعا و تصييره رمادا لا قيمة له و لا شأنا السبب في ذلك أنه يؤمن من وقوع ذلك الحبس المؤقت و لذع تلك الشرارة الخفيفة من العاجز بما لا يؤمن بذلك الحبس المؤبد و الحريق المهول من القادر، و يوقن بذلك بما لا يوقن بهذا، و لو أنه كان يؤمن بهذا إيمانه بذلك لما اكترث بذلك المؤقت الخفيف و لا شعر به إزاء ذلك المؤبد العظيم المهول.
فالفرق بين الحالين من الإنسان ناشئ من قوة إيمانه بالشاهد المحسوس و ضعف إيمانه بالغالب المعنوي و لا يدرك هذا و يوقن به إلا العقلاء و الموفقون، و هؤلاء قليل ما هم، و من المحال أن يؤمن الإنسان إيمانا صادقا بعظمة الله تعالى و قدرته و هول غضبه و سخطه و شدة بطشه و انتقامه و ضارم عقابه و أليم عذابه، و يؤمن بعجز الإنسان و ضعفه و افتقاره إلى الله في كل شيء، ثم يعد كل هذا يسخر من غضب الله تعالى و سخطه، و يهلع من غضب الإنسان و يرتجف من سخطه، كلا و حاشا فإن الإيمان بالشيء يستلزم طبعا العمل بمقتضاه، و السخرية منه تستلزم تكذيبه و الكفر به، و أن يجتمع في قلب واحد شيئان متناقضان في آن واحد، الإيمان بالشيء و الكفر به، تصديقه و تكذيبه، تعظيمه و تحقيره، فإما إيمان و تصديق و تعظيم، و إما كفر و تكذيب و تحقير.
و على هذا القياس تكون حال الناس اليوم، فالذين يسخرون من الله تعالى و مما شرعه للبشر، و مما أعده الله للطائعين من النعيم المقيم، و مما أعده للعاصين من العذاب الأليم و يفرقون و يرتجفون من القوة الفانية الزائلة، و يهرولون وراءها، و يتسابقون إليها، و يتباهون بها، و يتفاخرون بالحصول على مركز لديها إنما هم صبيان و مجانين لا عقول لهم و لا تمييز إلا ما للصبيان و المجانين من العقل و التمييز. و يجب على هؤلاء قبل أن يتولوا قيادة الأمم و زعامتها و قبل أن يجلسوا على عروشها، أن يدرسوا سفر الكون بإمعان، و يتبسطوا في شرائع الله و نظمه و سننه لكي يعلموا علم اليقين لمن له الملك و القدرة و القوة و الجبروت، و من هو أحق بالخوف من غضبه و سخطه و شديد عذابه، و من هو الجدير بالسخرية من غضبه و عدم الاكتراث من سخطه.
هنالك يدركون أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العذاب، و أن كل ما عداه لا قيمة و لا شأن له إذ هو الخيال و السراب الزائل، هنالك يعرفون كيف يقودون الأمم، و كيف يسوسون العقول، هنالك يسيرون بالشعوب على نظم الله و شريعته، على مبادئ أنبيائه و تعاليم رسله، هنالك العز و السعادة، هنالك المجد و السيادة.
إن الأعمال ثمرة، و الإيمان بذرة شجرتها، فعلى ما تكون البذرة تكون الشجرة، و على ما تكون الشجرة تكون الثمرة، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر. و السعادة كل السعادة في الإيمان الصحيح و الشقاوة كل الشقاوة في الإيمان الزائف. فمن أراد السعادة لنفسه و الخير لأمته و بلاده فليطهر قبل كل شيء إيمانه من الأوساخ و الأدران، و يصفه من أوضار الشكوك و الخزعبلات.
أما من يشتغل بفرع من فروع الإصلاح و إيمانه ملوث بأدران الشكوك و الإلحاد و خرافات الدجاجلة و المشعوذين، فهو كمن يطلب سكرا من بزر الحنظل أو وردا من زرع الثوم، و لئن نجح بعض النجاح فإنه لا تكون له ثمرته المرجوة، و لئن كانت فإنها لا تدوم.
و مما يقضي بالدهشة و الاستغراب أن كثيرا ممن يسمونهم عظماء من المخترعين و المكتشفين يبلغون بعقولهم و مداركهم أمدا بعيدا، يحلقون بها في أجواء عالية من الأبحاث و الدقائق، و يغوصون بها إلى أعماق منها بعيدة الأغوار، فيستخلصون للبشرية من ثمرات أبحاثهم ما يطوون به المسافات برا و يقطعون به مراحل جوا و يجوبون به أميالا بحرا و غير ذلك مما تحير به العقول و تكل دونه صوارم العزائم، ثم بعد كل هذا لم يقدروا على اكتشاف شيء واحد لهم ألا و هو وجوب توحيد الله تعالى، و الإيمان به إيمانا صحيحا يبعث على العمل بشريعته، فكانوا بهذا فتنة لقصار النظر و ضعفاء العقول، و لكن العقول شيء و هداية الله و توفيقه شيء آخر. فالعقول وحدها مهما بلغت من الرجحان إذا لم يقدر الله لها سببا من الهداية و شعاعا من التوفيق، فهي عاطلة قصيرة لا تدرك سعادتها الحقيقية، و لا تفهم معنى شقاوتها الأصلية، فالقول في الإنسان كمصباح في المشكاة و لكن بدون وقيدة من نور الله تشعل به، و لا منفعة للمصباح و لو كان مجهزا تجهيزا تاما إذا عدم وقيدة تشعله. و من هنا يتبين لنا أن الإنسان مهما بلغ من كمال العقل و سمو المدارك فهو فقير إلى الله، فقير إلى ما يفضيه عليه من نور التوفيق و الهداية، فقير إلى ما يبينه له من النظم و الشرائع على سنة رسوله، و لن يبلغ الإنسان بعقله ما يوصله إلى السعادة الحقيقية } و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض و من فيهن{ المؤمنون/71 ، }و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا{ الإسراء/15
و الويل كل الويل لمن قطع الله عنه سلك التوفيق و أطفأ عليه شعاع الهداية، و تركه و شأنه، فهو بمثابة من } خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق { الحج/31
فمن تركه الله و شأنه فإلى أين يذهب؟ أيخرج من فوق أرضه و من تحت سمائه } من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ { الحج/15
فمن أراد الخير الحقيقي لنفسه و لبني الإنسان فلينزع من نفسه روح التمرد و العصيان لله و لدينه، و ليبدل خوف العبد العاجز و المركون إليه بخوف الله وإجلاله..