معاصر لاحتلال اليهود لفلسطين يروي: نشوء الاستيطان والثورات الفلسطينية
هذه شهادة واحد من معاصري اقامة دولة “اسرائيل” والسياسات الدولية التي سبقت ذلك. في هذا الموضوع عودة الى طريقة بناء المستوطنات اليهودية، والدأب الذي سعت اليه الحركة الصهيونية مع دول العالم لنيل التأييد والدعم…
وفي الموضوع ايضا، نسف كامل لمقولة "ارض بلا شعب"، تلك المقولة التي سعت الحركة الصهيونية ترويجها على مستوى العالم، حيث يظهر من خلال قراءة هذه المواضيع تصدي الفلسطينيين المستمر لحركات الاستيطان من قبل العام 1948، تاريخ اعلان قيام “اسرائيل”، وحيث جرت ثورات وصدامات ومواجهات على امتداد العقود السابقة لتاريخ اعلان “اسرائيل”.
لم ينتظم امر الصهيونية الا بعد انعقاد مؤتمر (بازل)، وقد انجلى المؤتمر لا عن مقررات نظرية تنتظر التطبيق العملي بل عن مقررات عملية باعلان قيام الدولة اليهودية، ومباشرة التقدم بها حتى تستقر خطة بعد خطوة في فلسطين.
كان المؤتمر في حقيقته مجلسا تأسيسا وضع دستور العمل وشكل قوة تشريعية وقوة تنفيذية على رأسها هرتزل، ثم خلفه بعد موته (ماكس نوردو). كما اعتمد على الاخص قيام وزارة مالية تجبى اليها الضرائب المفروضة على اليهود، وهي (شاقل) على كل يهودي يدفعه سنويا(1) ووضعوا طوابع بريد تلصق على رسائل اليهود، وفتحوا باب التبرع. وانشأوا المصرف اليهودي برأس مال قدره مليونا جنيه انكليزي مقره الرئيسي في لندن وله فروع في استنبول والقدس ويافا وحيفا وبيروت. وسموا الفروع باسماء لا تلفت النظر، فكان اسمه في استنبول (انكلوليفانيتن) وفي القدس ويافا وحيفا وبيروت (انكلو بالستاين). كما انشأوا مصرفا اخر باسم (البنك اليهودي القومي).
وهكذا صارت الدولة اليهودية حقيقة قائمة تنقصها الارض التي بدأوا بالوفود اليها شيئا فشيئا. وبدئ بتنفيذ ما سمي (برنامج بازل)، وبنيت هيكلية تنفيذه وحددت اهدافها وهي استعمار فلسطين بالعمال الزراعيين والصناعيين واذكاء الشعور القومي اليهودي وتنظيم اليهودية العالمية والسعي للحصول على الموافقة الحكومية التي لا بد منها.
وصرفوا جهدا في (الاعلام) وركزوا في ذلك على استنبول عاصمة الدولة التي يسعون الى موافقتها على اهدافها، فبذلوا المال لجرائد استنبول وخصوا جريدة (جون ترك) بالقدر الاكبر من المال.
واقبل اغنياؤهم امثال البارون (هرش) والبارون (دي روتشيلد) على التبرع بالمال لشراء الارض في فلسطين فانشأوا المستعمرات التي اقبل اليها يهود روسيا واوروبا الشرقية.
واول مستعمرة صهيونية انشئت هي مستعمرة (ريشون له زيون) انشأها سنة 1881 مهاجرو يهود روسيا.
وفي سنة 1882 تدفقت من روسيا اعداد كثيرة من اليهود الى فلسطين فأسسوا فيها الجمعيات الاستعمارية باسم (شوفيفي زيون) ومعناها: (الغيورون على صهيون) وراحوا يجمعون المال وينشؤون الشركات ويشترون الاراضي لا سيما في ارباض القدس وغيرها من المدن. وكانت طريقتهم في انشاء المستعمرات ان يشتروا ارضا واسعة بحيث تتسع لخمسين منزلا او اكثر، ويبنون عليها المنازل المؤلف كل واحد منها من غرفتين او ثلاث غرف ومطبخ، ويسلمونه الى المهاجر ليدفع ثمنه مقسطا على خمس عشرة او عشرين سنة.
وانتشرت جمعيات (شوفيفي زيون) في اوروبا الشرقية وراحت تحرض اليهود على الهجرة الى فلسطين معينة لهم بالمال.
وراح كتاب اليهود يكتبون في الكتب وفي الجرائد داعين الى الهجرة، فمن ذلك الرسالة الشهيرة (اروهات بات امي) ومعناها: (مجموعة بنت امتي) لكاتبها (اسحاق رولف). وقامت في القدس جريدة (الهاشهار) تجاهر بالدعوة الى الاستعمار الصهيوني في فلسطين وامتلاكها تدريجيا. وقد كان في هذا الجهر خيانة للدولة وخروجا على القانون ما ادى الى محاكمة المسؤول عن الكتابة في الجريدة (شرين يهودا) والحكم عليه، فاستأنف الحكم الى بيروت فوسط الوجهاء المسلمين والمسيحيين فاعانوه لدى الحكام على التبرئة فتبرأ وبطل الحكم.
وفي 6 تشرين الثاني سنة 1884 عقدت جمعيات (شوفيفي زيون) وجمعيات يهودية اخرى مؤتمرا حضره مندوبون عن خمسين جماعة يهودية جرى البحث فيه في امر شؤون المستعمرين وتنظيم مساعداتهم وفي 15 حزيران سنة 1887 عقد مؤتمر آخر في (درسغنك) لنفس الغاية. وفي سنة 1889 عقد مؤتمر ثالث في (فيلنا) ببولندا حضره 38 عضوا من 35 جمعية من الجمعيات العاملة على تهجير اليهود واستعمار فلسطين.
وكان من مساعي هرتزل انشاء الدولة اليهودية على ما تقدم ذكره، ومن اهم مؤسساته فيها انشاء برلمان لها ينعقد في كل سنة على شكل مؤتمر وايجاد موارد مالية سنوية دائمة لها، وحدد نظريته في رسالته باسم (يودن شتات ) أي : (الدولة اليهودية).
وكما قلنا من قبل فان ما كان ينقص هذه الدولة هو: الارض. وقد تكفلت جمعيات (شوفيفي زيون) بايجاد الارض، واخذت هذه الارض تتسع يوما بعد يوم.
وركز الصهاينة على الاعلام لترويج دعوتهم في العالم كله فانشأوا صحفا في روسيا والنمسا والمانيا وايطاليا وبريطانيا وبلغاريا وفي مصر. كما اصدروا في القدس عدة صحف بالعبرانية، ووجهوا اقصى اهتمامهم في هذا الامر على الدولة العثمانية، فاصدروا في استنبول وسلانيك وادرنة جرائد بالاسبانية والفرنسية، واشهر جرائدهم الفرنسية في استنبول جريدة (اورور) ومعناها الشفق. على انهم عمدوا الى رشوة الصحف التركية، واشرنا فيما تقدم الى جريدة (جون ترك)، ونشير هنا الى جريدة (اقادم) التي اقنعوا صاحبها احمد جودت بان يصدر جريدة باللغة الفرنسية باسم (اوريان) وقام بالاشراف على تحريرها (ابرفوا).
اما جريدة (جون ترك) التي صدرت بالفرنسية فخصصوا لصاحبها جلال نوري راتبا شهريا وعينوا واحدا من يهود روسيا مشرفا على تحريرها فراجت الجريدة رواجا كبيرا وغدت اقدر جرائد استنبول على تقصي الاخبار، وعدا اليهودي المشرف على تحريرها، فقد جعلوا محرريها من غير اليهود لئلا يسيء الناس الظن بها. وعدا عما خصوا به صاحبها من مال، فقد جعلوا لها في بنك (انكلو ليفنانتين) اعتمادا سنويا 150 الف فرنك يستطيع صاحب الجريدة ان يسحب منه ما يشاء لتأمين نفقات الجريدة.
وامتدوا الى الجرائد العربية فرشوا جريدة (النصر) الصادرة في بيروت وجريدة النفير الصادرة في القدس وجريدة الاخبار الصادرة في يافا وغيرها من الجرائد.
وعمدوا في ذلك الى طريقة شيطانية فكانوا يوحون للجرائد العربية بالدفاع عن الصهيونية، فتعمد جريدة (جون ترك) الى ترجمة ما نشر في هذه الجرائد…
وغدا مكتب جريدة (جون ترك) الذي اقاموه في اعظم شارع من شوارع استنبول، وهو شارع تقسيم، وفرشوه بانفس ما يفرض به مكتب ـ غدا ملتقى للوزراء والكبراء ورجال السياسة، يتحركون كلهم بمحرك صهيوني.
قلت ان مؤتمر بازل الاول اعلن قيام الدولة اليهودية ببرلمانها وقوتها التنفيذية وضرائبها، فاخذت هذه الدولة تكمل كل مظاهر الدولة فاصدرت طابعا بريديا، ولحنت نشيدا وطنيا سمته (هاتكوه) ومعناها الامل، صار يعزف في الحفلات والاعياد، وهذا مطلعه مترجما الى العربية:
بعد لم يضع املنا
الامل الروحاني
لنكون امة حرة بأرضنا
ارض صهيون والقدس
كان هذا بعد ما بدأ انشاء المستعمرات في فلسطين. اما قبل ذلك، فقد كان المقطع الثالث هكذا:
لنرجع الى ارض ابائنا
ولم ينقص الدولة، العَلَم، فقد اعدوا العلم ورفعوه في مجتمعاتهم ومنتدياتهم.
ـ تنبه العرب وبدء الكفاح
وما بين سنة 1905 الى 1907 بدأ ما سمي باسم (الهجرة الثانية)، وكان من ابرز قادتها (دافيد بن غوريون). ومهاجرو هذه الهجرة كانوا يتمتعون بالتنظيم ويتصفون بالتعصب ما ادى بهم الى مقاطعة العمالة العربية، وهو ما اغضب الفلاحين العرب، والى تنبه الناس لما يجري فثارت النقمة على الاقطاعيين بائعي الارض الواسعة وفيهم من هم غير فلسطينيين.
وجاء العام 1909 فكان عام اليقظة وتفهم حقيقة ما يجري، فساد الحديث عن خطر الهجرة اليهودية، واخذت جريدتا: الاصمعي، والكرمل، وكانتا يومذاك الصحيفتين الوحيدتين في فلسطين ـ اخذتا في التنبيه الى هذا الخطر والدعوة الى مقاومته، وانتقل الامر الى صحف بيروت ودمشق.
وقام نواب فلسطين في المجلس النيابي العثماني (المبعوثان) بالاعراب عن معارضة العرب للصهيونية ولهجرة اليهود. ويروي روحي ياسين الخالدي الذي كان نائبا في مجلس المبعوثان ان محاولة جرت لعقد المؤتمر الصهيوني في استنبول او أي مدينة من مدن الدولة العثمانية وجرت مفاوضة رئيس مجلس المبعوثان احمد رضا، فنبهه الخالدي الى مخاطر ذلك وعارض في عقد هذا المؤتمر فاستجاب احمد رضا للخالدي ورفض البحث في هذا الموضوع ما اثار نقمة (البرفوا) اليهودي المشرف على جريدة (جون ترك) فشن حملات شعواء على احمد رضا.
ومن اهم ما اقامه اليهود في هذه المرحلة من مؤسسات: (مكتب فلسطين) الذي اسس سنة 1908 وتولى ادارته البروسي القدير (ارثور روبين 1876ـ1943)، فصار هذا المكتب الهيئة العليا المشرفة على كل النشاطات الصهيونية في فلسطين لا سيما امر شراء الاراضي ما تجريه منه المؤسسات الصهيونية الرسمية او الشركات الخاصة او الافراد.
ووضع منهجا لشراء الاراضي يقضي بالاستيطان على محاور ثلاثة: الاول السهل الساحلي بين يافا وحيفا، والثاني السهل الداخلي بين حيفا وطبريا، والثالث حوض الاردن من طبريا الى اعالي النهر.
وكان الانتباه الى الخطر الصهيوني قد ادى الى الاحتجاجات العربية وارسال البرقيات. وفي العام 1910 ظهرت دعوة الى مقاطعة البضائع اليهودية. وفي العام 1911 اسس (الحزب الوطني العثماني) الذي كرس جهوده لمحاربة الخطر الصهيوني. وفي شهر اب سنة 1913 اعلنت جريدة فلسطين انها ستزيد عدد صفحاتها لتتمكن من نشر ما يفد اليها من العرائض والاحتجاجات الكثيرة على الصهيونية. وفي الشهر نفسه نشرت جريدة الكرمل في صفحتها الاولى نبأ قيام تظاهرة كبيرة في نابلس احتجاجا على عزم الحكومة على بيع اراضي بيسان المملوكة من الدولة. وما لبثت الجريدة ان اعلنت عن قيام (جمعية مكافحة الصهيونية) في نابلس وانشاء فروع لها في بعض المدن. وفي السابع من تموز سنة 1913 نشرت الكرمل نداء الى الفلسطينيين تلقته من القدس جاء فيه:
". . . هل تقبلون ان تصبحوا عبيدا للصهيونيين الذين جاءوا لطردكم من بلادكم مدعين انها بلادهم؟ . . . ايرضيكم ذلك ايها المسلمون والسوريون والعرب؟. اننا نؤثر الموت على ان نسمح بان يحدث ذلك . . .".
وحث النداء الشعب على الضغط على الحكومة لحظر بيع الاراضي الحكومية للاجانب وتشجيع الصناعات الوطنية والمحاربة الهجرة الصهيونية. . .
وعبرت الانتخابات النيابة التي جرت عام 1914 لمجلس المبعوثان عن جو البلاد حيث اعلن جميع المرشحين معارضتهم القوية للصهيونية.
وفي الحرب العالمية الاولى نشطت الحركة الصهيونية للحصول على فلسطين باعلان يصدر عن الدول المتحاربة بما ينطبق على معاهدة (سايكس ـ بيكو) في تجزئة البلاد العربية، فحصلت على وعد بتأييد بريطانيا لامانيها في اقامة وطن قومي يهودي في فلسطين عرف بوعد بلفور (2 تشرين الثاني 1917).
وسعت الادارة العسكرية الانكليزية التي حكمت فلسطين من سنة 1917 الى سنة 1920 الى تهدئة عرب فلسطين وذلك باخفاء الحقائق عنهم والتوفيق ما امكن بين الزعماء العرب والصهاينة تمهيدا لفصل فلسطين عن سوريا وتمكين السيطرة الاستعمارية عليها.
وقد كان الفلسطينيون جزءا من النهضة العربية العاملة قبل الحرب وخلال الحرب، وهم اليوم جزء من حملة الاماني العربية في الاستقلال والوحدة، لذلك كان العلم العربي المربع الالوان علمهم الذي رفعوه في شهر ايار سنة 1918 والنشيد القومي العربي نشيدهم الذي انشدوه.
ثم انطلقوا في انشاء النوادي والجمعيات، فكان لم اول ناد نسائي عربي. وفي مطلع العام 1919 عقدوا مؤتمرا للنظر في امورهم والبحث في مصيرهم ورفع مطالبهم الى مؤتمر السلام المنعقد في باريس، هذه المطالب التي تتمحور حول رفض تطبيق وعد بلفور، واعتبار بلدهم الجزء الجنوبي من سوريا. ثم كان لهم ممثلوهم فيما سمي (المؤتمر السوري) المنعقد في دمشق باعتباره (برلمان) للدولة العربية الناشئة في سوريا الداخلية، كما كان منهم وزير في اول وزارة قامت عندما نادى هذا المؤتمر بقيام الاستقلال واعلان ملكية فيصل في 8 آذار سنة 1920.
وفي شباط سنة 1920 قامت تظاهرة عربية كبرى، ثم تلاها في آذار تظاهرة تأييدا لاعلان الاستقلال وملكية فيصل الشاملة لسوريا الشمالية وسوريا الجنوبية (فلسطين).
ثم قام اول صدام مسلح مع اليهود والانكليز، وذلك بهجوم تنظيمين فلسطينيين سريين على مستعمرتين صهيونيتين تقعان قرب الحدود السورية قتل فيهما الكابتن (جوزيف ترامبلدور) وستة يهود.
وتكاثر احتشاد جماهير الزوار المسلمين في القدس، وهم القادمون للمشاركة في احتفال موسم النبي موسى في نيسان 1920 وتأجج الغضب في الحشود فاثار انتفاضة دامية استمرت طوال ما بين الرابع من نيسان والعاشر منه فاعلنت الاحكام العرفية، وانجلت الوقائع عن 251 اصابة معظمها في اليهود، وجرح سبعة جنود بريطانيين بايدي المتظاهرين العرب، واصيب العرب بثمان وعشرين اصابة بينها اربعة قتلى بالرصاص، وحكم بالسجن على 23 انسانا.
وبدأ تصميم الانكليز على تهويد فلسطين بتسليمهم الحكم فيها الى يهودي صهيوني انكليزي هو (هربرت صموئيل) بتعيينه اول مندوب سام انكليزي في فلسطين، فأخذ ينفذ خطة انكليزية هي التطبيق التدريجي للتهويد عن طريق الهجرة والاستيطان.
ـ ثورة العرب
وجاء تشرشل وزير المستعمرات لزيارة فلسطين سنة 1921 فجوبه بمظاهرات عربية تنادي بسقوط وعد بلفور ورفض التهويد. واصر الوزير على اعلان انفاذ وعد بلفور. فتحدى العرب قرار الحكومة منع المظاهرات وتظاهروا واصطدموا بالشرطة وكثرت الاصابات.
وفي يافا قامت في شهر ايار 1921 ما يمكن تسميته ثورة امتدت من المدينة الى الريف وانجلت عن 95 قتيلا بينهم 48 عربيا و47 يهوديا.
وفي تشرين الاول 1921 وقعت اصطدامات دامية في القدس قتل فيها خمسة يهود وثلاثة عرب واصيب 36 شخصا بجراح.
وفي آب سنة 1929 التقى العرب واليهود في القدس بمواجهات ضارية امتدت الى مناطق اخرى ووصلت الى المستعمرات الصهيونية نفسها اسفرت عن 133 قتيلا يهوديا و329 جريحا، وعن 116 شهيدا عربيا و232 جريحا.
وعرف هذا الحدث بثورة البراق.
وفي اواخر هذا العام تألفت عصابة العلم الاخضر المؤلفة من سوريين وفلسطينيين وقامت بهجمات مسلحة على الانكليز واليهود معا، فتعاون عليها الانكليز والفرنسيون فقضوا عليها بعد شهور من بروزها.
وفي العام 1933 نظم العرب سلسلة تظاهرات عنيفة كان اهمها تظاهر يافا في تشرين الاول، فاستشهد فيها 12 عربيا وجرح 78 وقتل شرطي واحد وجرح 25.
وكان لمعمعة يافا دوي عنيف في انحاء فلسطين فاعلن الاضراب العام في البلاد وحدثت صدامات في حيفا ونابلس واقيمت المتاريس في شوارع حيفا وهوجمت محطة سكة الحديد فاطلقت الشرطة النار على الجماهير فاصيب العشرات بالجروح، وفرضت السلطة منع التجول.
وفي 29 تشرين الاول وقعت في حيفا صدامات قذف فيها المتظاهرون العرب القنابل اليدوية على الشرطة، فاطلقت الشرطة النار عليهم فاصيب الكثيرون اصابات فادحة.
وكان اليهود قد صادروا اراضي وادي الحوارث الواسعة. وفي كانون الثاني سنة 1935 جاءت الشرطة لتقتلع فلاحيها الساكنين فيها منها، فقاومها الفلاحون ووقعت معركة بين الفريقين انجلت عن قتل عربي واصابة سبعة شرطيين انكليز وخمسة شرطيين عرب بحجارة الفلاحين. وتم اجلاء الفلاحين بقوة السلاح.
وقد كان لحدث وادي الحوارث اصداء اليمة في النفوس ما اوحي لي يومذاك بقصيدة قلت فيها:
يا نازلا بالواد ابن عن الحمى تلك السيوف البيت والاعلام
اين العراب الجرد في حلباته اين الاغاني ثم والانغام
لهفي له لا الخيل تردي حوله مرحا ولا العرب الكرام قيام
خف القطين فلا القباب كعهدهم فيه ولا تلك الخيام خيام
نار القرى بعد الرحيل خبت فما يرجى لها بين البيوت ضرام
وكان الشيخ عزالدين القسام قد آمن بالثورة المسلحة على الانكليز لانهم اصل البلاء، فأخذ يعد لها سرا، والقسام سوري المولد قدم الى يافا سنة 1921 لجوءا اليها من الفرنسيين الذين كانوا يطاردونه واستقر فيها، وبمرور الوقت عمل في المحكمة الشرعية، واستغل عمله هذا للتجول في القرى والاتصال بالناس وتوعيتهم واستثارتهم. وفي مطالع الثلاثينات اخذ ينظم الخلايا الثورية ويجمع التبرعات لشراء ما يستطيع شراءه من السلاح متكتما عاملا في سرية صارمة.
وفي سنة 1935 بلغ عدد المهاجرين اليهود حدا كبيرا واصلا الى الستين الفا. كما ان اليهود كانوا قد باشروا التدريب العسكري، واخذ اتباع (جابوتنسكي) يهاجمون القرى العربية فصمم القسام على تعجيل قيام الثورة المسلحة على الانكليز وعلى الصهاينة معا، واخذ يعدلها، وفيما هو متوجه مع 25 من انصاره المسلحين الى مدينة (جنين) لدعوة اهلها الى حمل السلاح للانقضاض على حيفا، وقع صدام عرضي بينهم وبين الشرطة ما نبه السلطة الى وجود عصابات مسلحة، فاستنفرت الجيش وحاصرت المنطقة حصارا محكما وبدأت التوغل فيها، فأبى القسام الاستسلام وواجه الجند بناء البندقية مؤثرا الاستشهاد.
اما العديد من انصاره فقد استطاعوا اللجوء الى الجبال والاستتار فيها.
وقد كان لهذا الاستشهاد البطولي صداه العميق في فلسطين كلها، وصار القسام رمز التضحية والفداء. ونقل جثمانه الى حيفا فشيع فيها بجماهير حاشدة كانت تظاهرة حماسية عارمة.
وفي نيسان سنة 1936 قامت صدامات بين العرب واليهود فاعلنت السلطة حالة الطوارئ وانتهى ذلك بان اعلن العرب الاضراب في جميع المدن الفلسطينية وقالوا ان الاضراب لا ينتهي الا بتحقيق امور ثلاثة: وقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الاراضي واقامة حكومة وطنية مسؤولة امام مجلس تمثيلي. وكان الاضراب شاملا تخللته اصطدامات بين العرب والشرطة، وقامت في القدس اعمال عنف.
وفي الثالث والعشرين من شهر ايار قبض على 61 عربيا من المشرفين على الاضراب، فهاج الناس وقامت المظاهرات فاطلقت الشرطة النار على المتظاهرين فقتل منهم اربعة وجرح سبعة. وقام قريون مسلحون بالتقدم الى مدينة (طول كرم) فاصطدموا بالشرطة وجرح اربعة اشخاص. فكان ذلك ايذانا بقيام ثورة مسلحة في لواء السامرة، فادى ذلك الى طلب الحكومة النجدات فبدأ توالي وصول القوى الانكليزية الى فلسطين من مصر ومالطا.
واقيمت المتاريس في شوارع نابلس وطول كرم وغزة وهوجمت حافلات الركاب اليهودية، واطلق الرصاص على مواقع الشرطة والجيش في كل القرى والمدن.
وفي حزيران وتموز كان القائد العسكري السوري الثائر فوزي القاوقجي يقوم على راس الثوار وانضم اليه منحى قتاليا شاملا، فثوار الجبال المتفرغون للثورة يصادمون الجيش الانكليزي. وفدائيو المدن العاكفون على اعمالهم ينفذون اعمالا معينة فيغتالون الضباط البريطانيين والجواسيس المتعاونين مع السلطة. والقرويون في قراهم يراقبون المعارك فيهبون لانجاد الثوار ثم يعودون الى مساكنهم، ولهم مهمة اخرى هي امداد الثور بالطعام.
وطال الاضراب ستة اشهر فتنادى سياسيون للاتصال بالمقامات العربية لايجاد مخرج له، فاصدر الملك عبدالعزيز بن سعود والملك غازي والامير عبدالله في العاشر من تشرين الاول نداء مشتركا دعوا فيه الى انهاء الاضراب ووقف الثورة. وفي اليوم التالي قررت القيادة السياسية للجنة العربية العليا دعوة "الامة العربية الكريمة في فلسطين للعودة الى الهدوء ووضع حدا للاضراب".
ولكن الثورة المسلحة عادت فتجددت اثر اغتيال حاكم الجليل الانكليزي اندروز في اواخر ايلول 1937 في عملية فدائية جريئة، فاستهدفت السلطة القيادات والهيئات السياسية، ما ادى الى نفي عدد من السياسيين والقبض على المئات من المشتبه بهم. وكانت الثورة تزداد حدة صيف 1938 وكان تنظيمها اشد احكاما من 1936 واستطاعت ان تحافظ على استمراريتها، ووصلت الثورة ذروتها في صيف وخريف 1938 فشملت الريف كله من اقصى الشمال حتى بئرالسبع.
وفي ليل 14-15 من تشرين الاول شن الثوار العرب هجوما عاما في مختلف انحاء البلاد شمل خطوط النفط والهاتف والخطوط الحديدية، وهوجمت حافلتا ركاب يهوديتان في القدس، كما هوجمت دوريات الشرطة في جبال القدس والخليل، وفي الليلة التالية احرق الثوار مرافق مطار اللد، فردت السلطة على ذلك بفرض الغرامات الجماعية الباهظة وهدم المنازل اقامة مراكز السلطة على نفقة السكان في القرى.
وقد انضمت الى الثوار اعداد من الناس، ونظم الثوار امرهم، فالفوا في دمشق اللجنة المركزية للجهاد وانشأوا محاكم ثورية ومراكز ادارية ودوائر استخبارات واخذوا يجبون الضرائب. وقابلت السلطات الانكليزية ذلك باقامة اسلاك شائكة على طول الحدود الشمالية والشمالية الشرقية من فلسطين وانشاء الحصون ومراكز للشرطة لعزل الثوار وقطع طرق تموينهم، وسلحت اليهود لمعاونتها في مهاجمة الثوار، وشنت حملات عسكرية استعملت فيها المدرعات والطائرات، واحتلت القرى لحرمان الثوار من قواعدهم.
كما اضطهدت غير الثوار فكانت تعتقل العشرات وتفرض منع التجول لفترات طويلة وتجبي الغرامات الجماعية، ونسفت مئات البيوت في القرى كما نسفت احياء بكاملها في يافا القديمة.
ومع ذلك فقد بقي زمام المبادرة بيد الثوار، ونشبت حرب شوارع في القدس ويافا وحيفا، ولولا تدخل الاسطول البريطاني في حيفا لانقلب الامر الى انتفاضة خطيرة.
وقد تجلى الالتحام البريطاني اليهودي بتنظيم مفارز ليلية مؤلفة من عناصر يهودية تهاجم الثوار، واعترف القائد الانكليزي الجنرال هايننغ في تموز سنة1938 بان عدد الثوار في ازدياد، وان تنظيمهم آخذ في التحسن.
واستطاع الثوار ان يسيطروا على مدن كثيرة بما فيها بئرالسبع والقدس القديمة. وقد ادى ذلك الى ان يطلب الجنرال هايننغ ارسال فرقة جديدة من الجند، ما ادى الى دعوة الاحتياط البريطاني الى الخدمة، واعلان التعبئة العامة الجزئية لقوات الامبراطورية وارسلت خيرة قادتها لقمع الثورة وعلى رأسهم الجنرال ويفيل الذي قاد بعد ذلك الجبهة المصرية في مقاتلة الالمان في الحرب العالمية الثانية، والعميد مونتغمري الذي انتصر على رومل في تلك الحرب بعد ان صار الجنرال مونتغمري.
ويذكر عزت دروزه ان عدد المعتقلين بلغ خمسين الفا وعدد الشهداء سبعة آلاف وعدد البيوت المنسوفة الفين.
وادى التعب من القتال المتواصل، والافتقار الى السلاح والذخيرة، الى تراجع الثورة، وباعلان الحرب العالمية الثانية مشت الثورة الى نهايتها.
المصدر : حسن الامين مؤرخ لبناني