الراحل عبد المحسن القطان... حكيم المال والسياسة
بثينة حمدان
الجزء الأول/
بصوته المتهدّج القوي بدأ حديثاً عن حياته الممتدة بالطموح والثبات على المبدأ، ممزوجاً بخفة الظل، شهر واحد يفصل ميلاده (5 نوفمبر 1929) عن تاريخ وفاته (4 ديسمبر2017) وبينهما مسيرة حياة قضاها في خدمة الثقافة والتعليم والوطن المغترب والمقيم والثائر، تابع اللحظات الأخيرة لتجهيزات المبنى الجديد الخاص بمؤسسة القطان للثقافة والعلوم في فلسطين، وغاب عن الافتتاح رحيلاً سماوياً، فيما تستمر المؤسسة التي تتجسد في فكرة وليس فرداً.. هو عبد المحسن القطان؛ كويتي الجنسية والاقامة وفلسطيني الأصل، لم يبحث عن المال ولا السياسة لكنه الحكيم فيهما.. كان سعيداً بهذا الحوار مع صحيفته المفضلة "القبس" راغباً في أن تكون المؤسسة هي محور الحديث، فإذا بالقدر يجعلنا نكتب مسيرة حياته..
يافا.. وتجنيد البرتقال
في حي الجبلية في مدينة يافا ولد عبد المحسن الابن الثالث للعائلة، حيث منزل كبير يتسع لأربعة أخوة وأختين، ووالديه حسن وأسماء، والكثير من الأقارب الذين ترددوا على المكان المطل على البحر، جاءت صرخت المولود هادئة وثابتة في نغماتها ،جاء مستعداً لأمواج البحار التي اعتاد العوم فيها مذ كان رضيعاً إلى أن أصبح فتىً نقياً بفعل احتكاكه بمياه البحر المالحة، وكثير العطاء بحجم اللون الأزرق الذي يُظَلّل بحر يافا.
تزوج والده ثم اضطر للسفر مرغماً مع الاتراك الذين جندوه في حربهم إلى اليمن، وحين عاد وانفصل عن زوجته، تزوج بوالدة عبد المحسن، عمل بالزراعة وتصدير البرتقال الذي تشتهر به يافا، وتوفي قبل النكبة حين كان عبد المحسن في الرابعة عشر، جاء من مدرسته في القدس ليودع والده المريض، وكحال الأسر الفلسطينية تشتت العائلة بعد النكبة والتحقت والدته وأبناءها بعائلتها في اللد ثم إلى الأردن. هو من عائلة متوسطة استطاعت أن تكون أول من امتلك مذياع في الحي، فَشُرعت أبواب البيت الكريم أكثر فأكثر لتستقبل الراغبين بالاستماع إلى المذياع. لذا تحتفظ ذاكرته الغضة بمشهد والده مرحباً بالضيوف ووالدته في المطبخ تعد واجب الضيافة.
إلى المعلم.. السكاكيني
أنهى عبد المحسن الاعدادية في المدرسة الأيوبية في يافا ومنها نقله والده لمتابعة دراسته الثانوية في كلية النهضة بالقدس وفيها تتلمذ على يد الأديب والتربوي ومدير الكلية والمؤسس خليل السكاكيني؛ الشخصية التي سمع عنها والده وأثّرت في عمر الفتى الندي كثيراً. "السكاكيني علّمني عالوطنية"، فقد تابعه هو وأترابه في الصف لاسيما في السنة الأخيرة في المدرسة؛ فكان يصطحبهم أسبوعياً إلى بيته، حيث يعيش مع ابنه وذكرى زوجته المتوفاة. يصف لنا الأديب القوي والبسيط وهو يقدم لهم "الجاتوه"، قال عبد المحسن: أذكر كلامه جيداً، مؤلفاته للأطفال كلها وعظ وخطب كنا نحفظها، هو أستاذ لغة عربية بارع وصاحب تطلعات ثورية ومواقف احتجاجية.
الخطيب الصغير
رغم اعترافه بمشاغباته في الصغرلكنه لم يأت على ذكر التفاصيل، فقد توقف عن ذلك بعد انتخابه في العامين الأخيرين في كلية النهضة رئيساً للعُرَفاء؛ أي مسؤولاً عن تمثيل المدرسة في المناسبات وإلقاء الخطب، فهو البارع في الشعر والأدب كتابة وجهراً في إذاعة الكلية. كيف لا وقد نما برعاية من السكاكيني ومؤلفاته، وكان شغوفاً بشاعره المفضل أبو الطيب المتنبي وتأثر بما كتبه إثر زيارته لإيران: "ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان" كناية عن كره الايرانيين للعرب بقدر الاسرائيليين. ونَهم من شعر أحمد شوقي الذي قال عنه إنه "أعظم الشعراء الناصريين"، وهكذا كانت الكلية التي أتاحت لهم أيضاً ملعبها الكبير وأخذتهم في رحلات إلى مسبح جمعية الشبان المسيحيين، ومع صديقه صالح برانسي المكافح الذي سجنه الاسرائيليون مراراً، كانت مكاناً لتعلّم "الوطنية" قولاً وتجربة.
الانطلاقة في بيروت
رغم حبه للسياسة والاقتصاد، إلا أن ظروف العائلة بعد النكبة وقلة العمل أخذته إلى تخصص أقرب إلى مهمة اعالة عائلته، فدرس إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية في بيروت حتى عام 1951. لم تكن الجامعة فريدة بمستواها التعليمي فقط بل وبطلبتها القادمين من البلاد العربية، وهو أمر لامس قلبه القومي العربي، بينهم نسبة كبيرة من الطلبة العراقيين لأن جزء كبير من أموال النفط تذهب لصندوق خاص بالتعليم، وهو ما أعجب به عبد المحسن. ثم أصبح عضواً في اتحاد الطلبة، ونشط في جمعية العروة الوثقى العريقة والتي كان عمرها آنذاك مائة عام، يصدر عنها مجلة شهرية تحمل اسمها وكُتّابها من الطلبة. نجح فيها عبد المحسن وصار رئيس تحريرها ونائباً لرئيس الجمعية، كتب وزملاءه ضد الصهيونية ودعماً للوحدة العربية وللتعليم، وعن الثورة الجزائرية،عدا عن الأدب والشعر، ومن كتابها سعدون حمادة الذي أصبح رئيس حكومة العراق، ودكتورة سعاد اسماعيل وهي أول وزيرة للتربية والتعليم والبحث العلمي في العراق فترة السبعينات."كان الطلبة من الدرجة الأولى علمياً وفكرياً" كما قال.
الحب في الجماعة.. والحرية للفرد!
لم يكن بالامكان أن يكون للحب متسع، وان وجد فإنه يذوب بين الجماعة، ولا مكان للقاءات الثنائية، الحب يعني زواج، ولو استطاع عبد المحسن الزواج لفعلها مبكراً كما قال، قد يكون أحب في الجامعة لكنه لم يستطع فتح هذا الباب، ومازالت وصية والدته قبل سفره للدراسة تُجَلجِل: "دير بالك من النسوان".
بيروت بالنسبة إليه هي المدينة التي يستطيع الانسان فيها أن يعبر عن نفسه فكرياً وسياسياً، لذا نظّم وزملاءه العديد من النشاطات السياسية والثقافية، وشاركوا في مظاهرات دعماً لفلسطين.قال: "لم يسألنا أحد ماذا نفعل ولماذا؟" وأضاف: "لبنان البلد الجميل حيث صيدا الجبل.. والشتاء للتزلج".
الكويت.. الرحلة الطويلة
ألقت النكبة بظلالها على عائلته التي رحلت قسراً إلى العاصمة الأردنية عمان، ولحق بهم عبد المحسن، ومنها عاد لتسلم أول عمل له في الجامعة الكويتية لمدة عام، ضمن القسم التجاري وكان يدرس في قسم اللغة الانجليزية أيضاً، وبلغ أول راتب له ثمانون دينار، يرسلها لأهله جميعها، فقد وفرت له الوظيفة السكن والمأكل. وسرعان ما عاد راغباً في البقاء إلى جانب والدته واخوانه، وفيها عمل في التدريس في الكلية الاسلامية في القسم التجاري أيضاً.
وبترشيح جديد لصديق آخر له في الكويت لأمير الكويت هذه المرة، حصل على عرض للعمل في وزارة الكهرباء والماء، لم يكن يرغب بالسفر والابتعاد عن والدته، فأخذ يفاوضهم ويرفع سقف طلباته، لكنهم وافقوا على بيت وسيارة وراتب مغري، وهكذا عمل مراقباً عاماً في الوزارة وهو منصب يوازي درجة وكيل وهو ابن الخامسة والعشرين عاماً.
أحب الكويت التي قدمت له الكثير، وتحدث بفخر عن التغييرات التي عاشتها، فهي اليوم "لديها وفرة من المياه والثالثة عالمياً في معدل استهلاكها، فالوقود رخيص ولا ضرائب، ويستخدمون المياه المقطرة لغسيل السيارات، وفيها أيضاً محطات التقطير".
قضى عشرة سنوات في الوزارة إلى أن وصل راتبه ألفي دينار مطلع الستينات، ساهم خلالها في بناء شبكة الكهرباء والمياه الحلوة، وصار للدولة دخلٌ ممتاز وقال: "بدون الكهرباء والمياه من الصعب البناء والعيش، اذا وجد المال الكافي والخبرة يحصل البلد على ما يريد، وفي الكويت يتوفر المال وتم استجلاب الخبرة وهذا سر انفتاحهم".
دمشقية اللقاء.. كويتية البقاء
ربما كانت الصدفة هي التي جمعته بزوجته ليلى، كان يعرف أخيها وهو من رشحه للعمل في جامعة الكويت، فقد كان والدها المناضل درويش المقدادي والذي يشغل منصب مدير التعليم في الكويت، ذهب وأخيها للقاء المقدادي في دمشق، فإذا بصبية في العشرين تقدم له عصير الليمون، والدتها متوفية لكن زوجة ابيها امرأة رائعة، ألمحت له بالزواج، وهكذا تحولت العلاقة العائلية إلى نسب، التقيا عدة مرات في الكويت حيث كانت تتردد هناك، إلى أن ذهب عبد المحسن وأخيه الأكبر وأصدقاءه لطلب يدها.
تزوجا في الكويت في حفل بسيط، وانطلقا بالسيارة إلى البصرة حيث فندق قديم على شط العرب.عاشا في الكويت وعملت زوجته مدرسة للغة الانجليزية، بدأت عائلتهم تكبر حين جاءت نجوى، ثم ثلاثة أخوة آخرين هم لينا وهاني وعمر.
الكويت وصناعة المال
رغم نفوذه ومنصبه ودخله العالي في وزارة الكهرباء الكويتية، إلا أنه قررالتوجه للعمل الخاص، لم يكن قد جمع المال الكافي لذلك كونه يساعد عائلته واخوته الذين كانوا في الجامعة، رفض الوزير وطلب منه الذهاب إلى الأمير عبد الله السالم الصباح لإعلامه بذلك، وهو ما فعل فسأله الأمير عن الأسباب واذا كان يمتلك الخبرة بالتجارة فأجاب عبد المحسن: ليس لدي خبرة في التجارة، خبرتي في العقود ومن نجح ليس أذكى مني. فوافق تاركاً الباب مفتوحاً لعودته وقتما أراد.
عمل في مجال البناء، فأسس ابن الثالثة والثلاثين عاماً شركة الهاني للانشاءات والتجارة عام 1963؛ تضم مهندساً واحداً وسكرتيرة وعشرة آلاف دولار جمعها في عشرة سنين هي رأس المال، عَمِل بطاقة مضاعفة تصل عشرين ساعة، كان يأخذ عقوداً جزئية، دون أن يتمكن من إدارة مقاولات كاملة كون الشركة حديثة وبلا خبرة أو رأسمال يفي بالمهمة. ويكرر الزمن ذاته ويرشحه أحدهم إلى رئيس مجلس إدارة ومؤسس بنك الخليج، والذي حصل على وكالة للتكييف ويبحث عن شريك، طلب شراكة عبد المحسن لكن الأخير لا يملك المال لذلك، فباع 45% من أسهم الشركة لرجل الأعمال وانتقل رأس مال الشركة إلى 75 ألف دينار، وهكذا توسع العمل، وبعد خمسة وخمسين عاماً صارت الشركة واحدة من الشركات الكبرى في المنطقة والتي تصل أرباحها إلى خمسين مليون دولار سنوياً.
وحين سألته عن رأسمالها، قال ببساطة: يمكن 100 أو 200 او 300 مليون! ربما هي إجابة رجل مال يسخر من المال، فالقيمة الحقيقية لديه هي بتعب السنين ومراكمة العطاء، الشركة اليوم تقوم بأهم المشاريع في الكويت منها بناء قسم من جامعة الكويت ومركز جابر الثقافي.
"قَطَّانٌ" في عمله.. "مُحسِنٌ" في حياته
بثينة حمدان
الحلقة الثانية/ الراحل عبد المحسن القطان
هو "قطّانٌ" يزرع القطن ويبيع جزءً منه تاركاً الباقي للاحسان وتقديم العون لبلده وشعبه، بل وكان عبداً للاحسان ومحسناً حتى في رغبته بأن تحتل مؤسسة عبد المحسن القطان مساحة في صفحات القبس الجريدة التي يحب وتابعها على مدى عمره، نعم لاسمه ولقبه معاني في حياته. لقد دعاني الراحل لأكتب عن المبنى الجديد الضخم الذي افتتح مؤخراً، لكنه رحل قبل الموعد، ويبدو أن القدر شاء أن تكون مقابلته الأخيرة لصحيفة القبس. وفي غيابه لبّيتُ الدعوة، تجولت في أول مبنى أخضر في فلسطين، كان صرحاً ثقافياً يستحق كل سنوات التعب وجدير بأن يرفع اسم صاحبه المُحسن الكبير. في أكثرمن سبعة آلاف متر مربع، كانت تفاصيل حياته وطموحاته تتجسد فهذه مكتبة ليلى مقدادي زوجته، وجاليري لاحتضان المعارض الفنية ومسرح وعدة استوديوهات ومساحة ستكون فضاء تجريبياً للعمل مع الأطفال والمعلمين، وبيت للضيافة وفضاءات خارجية عديدة.
طفولة في المزاد
عاد عبد المحسن بعد 51 عاماً من الغياب إلى يافا بدعوة من جمعية يدعمها، صار منزل العائلة قرب مستعمرة "بيت يام" الاسرائيلية، شاء القدر أن يصل في الفترة الذي عرض فيه المنزل للبيع في المزاد العلني بحجة أنه "أملاك غائبين" حسب القانون الاسرائيلي العجيب! غائبون بل حاضرون عاجزون عن استعادة المكان فقد صادر الاحتلال معظم المكان! قال بأسف: "أخذوا كل البلاد!!!!"، وأراده القدر أيضاً أن يحصل على الهوية الفلسطينية قبل خمسة سنوات فقط من وفاته بمساعدة سلام فياض رئيس الوزراء آنذاك وحسين الشيخ وزير الشؤون المدنية.
ماوتسي تونغ التواضع في صورة!
لم يتفرغ يوماً للعمل السياسي ولم ينتمِ لأي حزب سوى حزب البعث لفترة قصيرة، ومع ذلك اختاره الراحل أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ليرافقه في زيارة إلى الصين للتعريف بالقضية الفلسطينية، فحظي الشاب الصغير برحلة توازي في مضمونها عظمة سور الصين؛ تجول الوفد في أرجاء الجمهورية وعقدوا ندوات ولقاءات عديدة، والتقوا بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ وتبادلوا معه حديثاً امتد لأربع ساعات، ترك أثراً كبير لدى عبد المحسن، وسلب لُبّهُ حين طلب الزعيم الشيوعي صورة مع الوفد الفلسطيني! قائد تاريخي يرغب بصورة مع وفد بالكاد يبدأ رسم تاريخه الوطني!
في اللقاء عبّر الشقيري عن اعجابه بمؤلفاته عن الشيوعية والديمقراطية، فعلّق الزعيم الذي يعتبر فلسطين مثل جزيرة فرموزا لابد من استعادتها: "لا يجوزللزعيم أو القائد أن يمضي جُلّ وقته بين الكتب، فقد ترتفع الكتب ويأت وقت لا يستطيع فيه النظر، لابد من الجمع بين الأمرين، عدم الاكتفاء بالقراءة والكتابة".
راتب موظف.. لتعليم الفلسطينيين
خلال عمله الحكومي في الكويت وعمل زوجته ليلى المقدادي في حقل التعليم، وفي الوقت الذي كانا يساهمان بتعليم اخوته قررا اقتطاع ما يفيض من رواتبهما لصالح دعم تعليم الفلسطينيين، وهكذا بدأ رحلة دعم التعليم مُبكّراً من فائض راتب وليس من أموال رجل الأعمال لاحقاً، اقتطاع الوفي والمؤمن بالتعليم طريقاً للتحرر، اقتطاع من الراتب.. اقتطاع من أجل حياة كريمة. وسرعان ما تحولت الفكرة مع اتجاهه للعمل الخاص إلى مؤسسة لدعم التعليم، فكانت مؤسسة عبد المحسن القطان التي تدعم اليوم التعليم وتركز على الأطفال والمعلمين والمبدعين الشباب عبر فروعها في رام الله وغزة ومشاريعها في لبنان وبريطانيا.
الكويت.. المقر الدائمللفلسطينيين
كان مُقَرَّباً من القيادي الشهيد أبو اياد صلاح خلف وهو برأيه "صاحب الشخصية القوية والكاريزما والأكثر حكمة بين القيادات الفلسطينية". كان بيته في الكويت محطة جذب للقيادات الفلسطينية، ومقرباً من الرئيس الشهيد ياسر عرفات بل ومتقاربين في السكن، وعند اجتياح بيروت تمتنت العلاقة أكثر لاسيما مع تقديم القطان الدعم المادي والمعنوي للثورة الفلسطينية، يرى القطان في عرفات كاريزما ورجل علاقات عامة ومِقدام لا يهمه شيء، وقال: "نشتاق إلى أبو عمار بعد الذي نراه اليوم". يذكر أيضاً أن أبو عمار لجأ إليه حين كان الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية ضعيفا يعمل بميزانية نصف مليون دولار بينما مطلوب منه أن يدعم جميع الفلسطينيين فهو "شبيه بصندوق الدولة المرتقبة"، وقال: "جاءني أبو عمار وهو مستاء من ضعف الصندوق، وطلب مساعدتي، وعينني محافظاً لفلسطين في الصندوق عشرين عاماً. تضاعفت ميزانيته ووصلت المعونات لمائة مليون دولار".
رياح التغيير.. والمبدأثابت
التقى القطان وعبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وحسيب الصباغ رجل الأعمال الفلسطيني مع أبي عمار والراحل القيادي جورج حبش -مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-، واتفقوا على صياغة رسالة تطالب بتنحي أحمد الشقيري عن رئاسة المنظمة لاسيما مع بداية تشكيل حركة فتح لتقود العمل الوطني والكفاح الشعبي، قال القطان: إن الشقيري كان شهماً ووافق، وتم تشكيل لجنة لعقد المجلس الوطني وصياغة الميثاق الوطني.
اجتمعت اللجنة في عَمّان وكان القطان مع اشراك العسكر في المجلس، وقد وصل العدد إلى مائتي شخص التقوا في مقر الجامعة العربية في القاهرة، وعلى الهامش التقى القطان مساءً ببعض القيادات التاريخية الفلسطينية وهم خالد الحسن والشهيد صلاح خلف “أبو إياد” وشومان والصبّاغ، تحدثوا عن مشاوراتهم مع الفصائل، والتي توصلوا فيها لاختيار القطان رئيساً للمجلس، وهو ما جعله يتسائل سيما وهو أصغرهم! وحتى صباح اليوم التالي أي يوم انعقاد المؤتمر ظل رافضاً، لكن توافق الفصائل والواجب الوطني جعله يوافق وهو ابن الثانية والثلاثين عاماً.
حدد السياسي الشاب آلية الحديث للصحافة، وطرح تأسيس لجنة تنفيذية جديدة، فوافقت فتح في المساء ورفضت في اليوم التالي، وأخبره بذلك القيادي خالد الحسن، أصر القطان على ضرورة الاتفاق على قيادة واحدة بشرط أن يكون كل السلاح والمال بيد القيادة والحرية للجميع في النقد، فشل الاتفاق، وهكذا انسحب القطان من المجلس الوطني وهاجم الحضور قائلاً لهم: "أنتم لستم أهلاً لقيادة الشعب الفلسطيني"، كان هجوم شاب متحمس لقيادة شابة مازالت تبدأ طريقها في الكفاح.
رغم محاولات العديد من القيادات مثل أبو يوسف النجار وأبوا إياد والشهيد كمال عدوان وأبو عمار مطالبين ببقاءه، لكنه ثبت على المبدأ وقال: "كي أضحي عليهم أن يضحوا، لكنهم لم يستطيعوا وخافوا، لم يكن لديهم النضج الكافي في أواخر الستينات، انسحبتُ رئيساً وبقيت عضواً في المجلس الوطني".
من السياسة إلى الوطن
خلال الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، التقى القطان وشومان والصباغ في منزل القطان في لندن للبحث عن فكرة يتم من خلالها تقديم دعم للوطن ومساعدة الفلسطينيين على الصمود، كان الاقتراح جمع الأموال وصرفه في مجال الدعاية في أمريكا من أجل خلق رأي عام ضاغط، لكن القطان وجد أنها فكرة غير مجدية وتأثيرها مؤقت، واقترح وقفية للشعب الفلسطيني دائمة تقدم دعماً في مجالات الصحة والتعليم والتنمية، وهكذا تم تأسيس مؤسسة التعاون عام 1987 والتي مازالت قائمة إلى هذا اليوم، وهي من المؤسسات الأهلية الكبرى في فلسطين والتي لم تعتمد على التمويل الخارجي المشروط أو المرتبط بالوضع السياسي، بل على وقفية وتمويل أفراد. قام الثلاثة بفتح الوقفية فدفع الواحد منهم مليوني دولار ثم تم جمع الاموال من الفلسطينيين من أنحاء العالم، وعرب من الكويت ومنهم أمير الكويت، ومن السعودية. كان القطان رئيس مجلس الادارة وبقي حتى وفاته عضواً فخرياً، قد لا يتدخل لكنه يحاول ايجاد الحلول والمساعدة حين يُطلب منه ذلك.
الخلاف مع الختيار.. في حب الكويت
اختلف القطّان مع أبي عمار على قضيتين لكن بقيت الصداقة هي الرابط الثابت، فقال: "اختلفنا على احتلال الكويت وعلى اتفاقية اوسلو". حاول القطان وعدد من اصدقاءه ثني أبو عمار عن موقفه من الغزو العراقي للكويت، لكن دون جدوى، فأصدر القطان وادوارد سعيد وابراهيم أبو لغد وشفيق الحوت بياناً صحفياً يبين موقفه الرافض للغزو وشجب لموقف القيادة الفلسطينية منه وهو ما ساعد الفلسطينيين المقيمين في الكويت لاحقاً، واستقال من عضوية المجلس الوطني عام 1991 اثر هذا الموقف. أما الخلاف الثاني فكان حول اتفاقية أوسلو فقد كان يرى أنها تحتوي على نقطتين ستكسر الفلسطينيين وهي القدس كونها قضية مؤجلة فقال: "لا يجوز أن يتغير من معالمها شيء" وثانياً ضرورة وقف الاستيطان بالمطلق، وأن وعود بيريز في هاتين القضيتين كاذبة.
كانت القيادة الفلسطينية الجديدة والتي وافقت على أوسلو برأيه "قيادة غير مطلعة على العالم، ولا تجيد الانجليزية، ولا تعرف كيف يفكر العالم، وهذه كانت النتيجة، ولو رفضوا أوسلو ماذا كان سيحصل؟".
وصيته؛ الثروة للانسانية
بدأ القطان بمليون دولار خصصها لمؤسسة القطان ثم ضاعف المبلغ إلى خمسة وإلى واحد وعشرين مليون دولا. ققبل وفاته أخبرني أنه يحلم بتخصيص ربع ثروته لمؤسسة القطان فكان ايمان العائلة بالفكرة أن ضاعف المبلغ لأكثر من هذا الربع، واليوم للمؤسسة وقفية قيمتها أكثرمن مائة مليون دولار كي تحافظ على استقلاليتها وبقاءها، والوقفية تعني أن عائلة القطان هي المتبرعة الوحيدة. ولم يكتفي بذلك فقال لي: وصيتي تخصيص ربع ثروتي للمؤسسة، ثم كل من يعمل معي من سائق إلى مدير، ثم أولادي وبناتي الذين ستكون حصتهم الأقل.
وأكد القطان أنه: "يجب أن يزيد التواضع مع زيادة المال، المال هو قوة اضافية، هناك من يبحث عن جمع ومراكمة الثروة، لكنني لم أفكر بهذه الطريقة في حياتي، لم أفكر يوماً أن أكون رجل أعمال، ولم أبحث عن منصب سياسي، حلمي أن أتعلم تعليم جيد وأردت أن أكون بالعمل العام دون إهمال العمل الثقافي، أنا قارئ ونشيط ثقافياً".
حكيم المال والسياسة
رحل المحسن الكبير والحكيم في المال والسياسة، ورغم ذلك فإنه لم يبحث عنهما، بل وقال أنه ليس رجل اقتصاد، فمن هو إذن؟ إنه الذي بكى زوجته التي رحلت قبله بعامين، في قلبه حب كبير لها أوجزه بدموعه وبكلمتين: "ليلى قمة التواضع"، إنه الذي بكى القيادات الفلسطينية التاريخية منها عبد القادر الحسيني والشهيد الصديق كمال ناصر.
إنه الذي نظر للمال وسيلة فقط وقال: "المال متل الحمار اذا لم تركب عليه، فإنه يركب عليك"، وقد بقي من طموحه الحلم الكبير: تحرير فلسطين، أما طموحه الشخصي فكان المساهمة بترقية التعليم وقال: "مستعد لعمل كل شيء كي يرتقي التعليم وبدون تقدمه لا أمل لنا، التعليم عربياً ليس متقدم فهو ينتج فقط موظفين".