الصين الجديدة.. اللمسات الأخيرة لإنهاء عهد القوة الأميركية المطلقة
مقدمة الترجمة
عند اطلاعك على الأخبار ستجد أسماء بعض الدول متكررا في مختلف المجالات والقضايا، من بين هذه الدول ستجد الولايات المتحدة الأميركية والصين. تتربع الولايات المتحدة في صراع القوى سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي بمشاركتها. كثيرا ما يرتبط ذكر الولايات المتحدة بروسيا أو الصين. من المعروف أن روسيا هي العدو اللدود لأميركا ويبدو أن الصين التي اعتادت أن تلي روسيا بالعداوة قد تنافس روسيا على المرتبة الأولى لألدّ أعداء الولايات المتحدة. لماذا؟ وما أثر ذلك على كل من الصين والولايات المتحدة والساحة العالمية؟ وكيف آل الحال بالصين إلى حصولها على هذا الكم من القوة التي حركت الحواس الدفاعية بأميركا لشعورها بالتهديد من الصين
نص التقرير
وقف شي جين بينغ على مسرح قاعة الشعب الكبرى وتلمع وراءه في الخلفية مطرقة ومنجل* بارزان، معلنا إشعارا مبتهجا بالنصر. كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2017 حيث خاطب الزعيم الصيني مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني التاسع عشر، وهو آخر اجتماع للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (وهو هيئة استشارية سياسية) الذي يعقد كل خمس سنوات. في خطابه الذي استغرق ثلاث ساعات ونصف، أعلن شي -الذي عُيِّن الأمين العام للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني في عام 2012- معلقا على فترة ولايته الأولى: "خمس سنوات رائعة حقا في سياق تطور الحزب والبلاد"، وهو الوقت الذي "نهضت فيه الصين ونمت ثرواتها وأصبحت قوية". واعترف بأن الحزب والبلاد لا يزالان يواجهان تحديات مثل الفساد الحكومي وعدم المساواة في مستويات المعيشة وما أسماه بـ "وجهات النظر الخاطئة". لكنه أصر بشكل عام على أن الصين كانت تسير في الاتجاه الصحيح لدرجة أنه أوصى بأن تعتمد الدول الأخرى على "الحكمة الصينية" وأن تتبع "مقاربة صينية لحل المشاكل التي تواجه البشرية". وهو أمر لم يحدث منذ حكم ماو تسي تونغ، فمنذ وفاته لم يكن هناك زعيم صيني اقترح بشكل مباشر أن على الآخرين محاكاة النموذج الذي تتبعه الصين.
لم تأتِ ثقة شي من العدم، ففي السنوات الخمس الماضية، حققت القيادة الصينية تقدما ملحوظا في عدد من أولوياتها، حيث تسارعت حملة مكافحة الفساد التي كثر الكلام حولها ولاقت ترحيبا واسعا إذ ارتفع عدد المسؤولين الذين تم اتخاذ إجراءات تأديبية ضدهم بسبب الكسب غير المشروع من 150 ألف مسؤول في عام 2012 إلى 400 ألف في عام 2016. إضافة إلى ذلك، فقد تحسنت جودة الهواء في العديد من المدن الصينية المشهورة بالضبخان (وهو خليط من الدخان والضباب يتكون فوق المدن والمناطق الصناعية، وهو أحد أنواع تلوث الهواء) بشكل ملحوظ. في بحر الصين الجنوبي، نجحت بكين في تعزيز مطالبها السيادية عن طريق عسكرة الجزر القائمة وإنشاء جزر جديدة على الفور، وأضعفت استقلال هونغ كونغ بشكل مستمر من خلال سلسلة من المناورات السياسية والقانونية. أما على مستوى آسيا، عززت نفوذها من خلال مبادرة "طرِيق الحرِير الجديد" (وهي مبادرة تُعرَف باسم 'الحزام والطريق‘ وتهدف إلى إحياء وتطوير طريق الحرير التاريخي) وهي خطة بنية تحتية إقليمية ضخمة. وطول هذه الفترة، استمر الاقتصاد الصيني في التوسع، في عام 2017، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.9%، وهي المرة الأولى التي يرتفع فيها معدل النمو خلال سبع سنوات.
لكن طموحات شي تمتد إلى ما وراء هذه المناطق، إلى أمر أساسي أكثر. في الأربعينيات من القرن الماضي، قاد ماو الثورة الشيوعية التي أوجدت الدولة الحزبية الصينية المعاصرة. ابتداء من أواخر السبعينيات، أشرف خليفته دنغ شياو بينغ على "الثورة الثانية" التي فرضت نفسها بنفسها، والتي أدخل فيها الإصلاحات الاقتصادية والسياسة الخارجية غير البارزة التي أنتجت معجزة الصين الاقتصادية. الآن، أطلق شي ثورة ثالثة، حيث لم يبطئ فقط عملية "الإصلاح والعكس" التي بدأها دينغ، بل عمل بعكسها أيضا في بعض الأحيان. لكنه سعى أيضا إلى تعزيز مبادئ الصين الجديدة هذه على الصعيد العالمي. علاوة على ذلك، في خطوة لافتة للنظر في مارس/آذار، ألغت الحكومة الحكم الدستوري الذي يمنع الرئيس من قضاء أكثر من فترتين متعاقبتين في الحكم، مما يسمح لشي بالعمل كرئيس لمدى الحياة. للمرة الأولى، تسعى الصين غير الليبرالية إلى القيادة في نظام عالمي ليبرالي.
تبدأ الثورة
بدأ شي ثورته بمجرد توليه السلطة. على مدى أكثر من ثلاثة عقود، كان النظام السياسي الصيني يُدار بواسطة عملية قيادة جماعية حيث تم تقاسم سلطة اتخاذ القرار بين المسؤولين في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي وهي أعلى هيئة حكم في الصين، ولكن سرعان ما تحرك شي لتركيز السلطة السياسية بين يديه. خلال السنوات القليلة الأولى من ولايته، تولى قيادة جميع اللجان الأكثر أهمية في الإشراف على السياسة مثل تلك المتعلقة بالقضايا الإلكترونية والإصلاح الاقتصادي والأمن القومي. كما قام بتأمين التصريحات العلنية بالولاء من كبار المسؤولين مثل جنرالات جيش التحرير الشعبي الصيني وأمناء الأحزاب الإقليمية وكذلك من وسائل الإعلام. وقد استخدم حملة لمكافحة الفساد التي لم تقتصر على المسؤولين الذين يخدمون مصالحهم الشخصية فحسب، بل أيضا على أعدائه السياسيين. على سبيل المثال: صن زينغكاي -وهو نجم صاعد داخل الحزب الشيوعي الصيني، شغل منصب سكرتير الحزب في بلدية تشونغتشينغ- تم اتهامه في يوليو/تموز 2017 بالفساد وتم إقالته من منصبه، وبعد أشهر، أعلن مسؤول كبير أن صن تآمر مع آخرين للإطاحة بشي.
في المؤتمر التاسع عشر للحزب، عزز شي من قبضته على مؤسسات الحزب الشيوعي الصيني ووطّد نفوذه الشخصي (سلطته الشخصية). إن اسمه وأيديولوجيته -المتمثلة في "فكرة شي جين بينغ عن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد"- تم تكريسها في دستور الحزب، وهو شرف لم يكن قد تم منحه في السابق إلا لماو. تم إضافة المزيد من حلفائه إلى المكتب السياسي المكوّن من 25 عضوا واللجنة الدائمة للمكتب السياسي المكونة من 7 أعضاء، إذ يتكون أكثر من نصف كل مجموعة من أفراد من موالي شي. ثم جاء التغيير الذي ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية بقاء شي رئيسا إلى أجل غير مسمى.
قرَن شي النمو الكبير لسلطته الشخصية بتكثيف دراماتيكي لقوة الحزب الشيوعي الصيني في المجتمع والاقتصاد. علّق الباحث ديفيد شمبوغ المختص بدراسة الصين قائلا: "إذا كانت إحدى العلامات المميزة للدولة الماوية (نسبة إلى ماو تسي تونغ) عبارة عن اختراق المجتمع، فإن الدولة الدنغية (نسبة إلى دنغ شياو بينغ) كانت لافتة للنظر بانسحابها منه". والآن، في عهد شي، عاد البندول نحو دور أكبر للحزب، لم يبق أي عنصر من عناصر الحياة السياسية والاقتصادية على حاله.
كلمة الرئيس الصيني خلال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني(رويترز)
في الميدان السياسي، استفاد الحزب الشيوعي الصيني من التكنولوجيا الجديدة ووضع المزيد من الضغوط على القطاع الخاص لتقييد الوصول إلى المحتوى المحظور على الإنترنت، مما قلل بشكل حاد من حيوية الميدان العام الافتراضي في الصين. حتى الدعابات التي تم مشاركتها على المستوى الشخصي (بين أفراد) قد تؤدي إلى تدخّل الشرطة، ففي سبتمبر/أيلول 2017، احتجزت السلطات رجلا لمدة خمسة أيام بعد أن أرسل نكتة حول إشاعة مثلث حب تشمل مسؤولا حكوميا إلى مجموعة محادثة عبر تطبيق الرسائل "WeChat". كما تقوم الحكومة بتطوير قاعدة بيانات ضخمة من البيانات البيومترية** (أو مقياس حيوي) والتي يتم إدماجها في شبكة مراقبة الهاتف والفيديو واستخدامها للتعرف على منتقدي الحزب والانتقام منهم، وذلك بفضل أحدث تقنيات التعرف على الصوت والوجه.
بحلول عام 2020، تخطط بكين لطرح نظام وطني لـ "الائتمان الاجتماعي"، والذي يدمج معلومات مأخوذة من الدفع عبر الإنترنت وتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي في قاعدة بيانات تسمح للحكومة بمعاقبة ومكافأة المواطنين على أساس مصداقيتهم المفترضة. أولئك الذين لا يرتقي سلوكهم للقوانين الموضوعة -بما في ذلك التخلف عن سداد القرض أو المشاركة في احتجاج أو حتى إهدار الكثير من الوقت في لعب ألعاب الفيديو- سوف يواجهون سلسلة من العواقب. قد تبطئ الحكومة اتصالات الإنترنت لهؤلاء الأشخاص (كعقوبة) أو تحدّ من وصولهم إلى كل شيء بما في ذلك المطاعم والسفر والعمل، بينما تمنح أفضلية للتمتع بهذه الخدمات إلى أولئك الذين يلتزمون بقواعد الحزب الشيوعي الصيني.
على الصعيد الاقتصادي، تحدى شي توقعاته بتسريع الإصلاحات التي تقوم على السوق، وقد عزز مكانة الشركات المملوكة للدولة واضعا لها دورا قياديا في حملات التنمية الاقتصادية، كما قام بتمكين لجان الحزب الموجودة داخل كل شركة صينية. في السنوات الأخيرة، لم تكن لتلك اللجان سوى أدوار غير واضحة المعالم، ولكن بفضل المتطلبات الجديدة في عهد شي، يجب على الإدارة طلب مشورتها -وفي بعض الحالات الموافقة عليها- لجميع القرارات الرئيسية. وقد دعا الحزب الشيوعي الصيني لقواعد مماثلة لتطبيقها في المشاريع المشتركة مع الشركات متعددة الجنسيات. حتى الشركات الخاصة لم تعد خارج نطاق صلاحيات الحزب، في عام 2017، أعلنت بكين عن خطط لتوسيع تجربة يأخذ فيها الحزب حصصا صغيرة في شركات الإعلام والتكنولوجيا -بما في ذلك عمالقة مثل 'علي بابا‘ و'تينسنت‘ (وهي شركة صينية متخصصة في مجال الإنترنت والألعاب)- ويتلقى درجة من سلطة اتخاذ القرار.
https://www.youtube.com/watch?v=t8y0YEVaYEkطموحات خارج البلاد
في حين أن شي لديه انفتاح سياسي واقتصادي محدود داخل بلاده سعى شي إلى وضع نفسه كرئيس للعولمة في الساحة الدولية. على سبيل المثال: في اجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أعلن: "الانفتاح سيحقق التقدم وأولئك المنغلقون سيتأخرون حتما". هذا الخطاب مضلل، في الواقع، كان أحد أكثر العناصر التي تميّز بها حكم شي هو إنشاء جدار من الأنظمة المصممة للسيطرة على تدفق الأفكار والثقافة وحتى رأس المال بين الصين وبقية العالم.
على الرغم من أن القيود المفروضة على النفوذ الأجنبي ليست بالأمر الجديد في الصين، فإنها تزايدت في عهد شي. في يناير/كانون الثاني 2017، سنّت بكين قانونا جديدا صارما يفرض على المنظمات غير الحكومية في الصين التسجيل في وزارة الأمن العام والحصول على إذن لكل نشاط تنخرط فيه والامتناع عن جمع الأموال داخل الصين. وبحلول مارس/آذار 2018، لم تكن هناك سوى 330 مجموعة غريبة سجلت، أي نحو 4% من الإجمالي الذي كان يعمل في الصين أمام القانون. في هذه الأثناء، بدأت بكين عملية حظر الشبكات الافتراضية الخاصة المملوكة لأجانب بشكل رسمي والتي تسمح للمستخدمين بالتحايل على ما يسمى بجدار الحماية الكبير في الصين.
وقد ظهر نمط مماثل في المجال الاقتصادي: في عام 2015، من أجل منع العملة الصينية من انخفاض قيمتها وانخفاض احتياطيها الأجنبي، وضعت بكين ضوابط صارمة على قدرة المواطنين الصينيين والشركات على نقل العملات الأجنبية إلى خارج البلاد. في العام نفسه، أطلقت الحكومة برنامجها "صنع في الصين 2025"، وهو محرك الاكتفاء الذاتي الذي يحدد عشر صناعات رئيسية من المواد إلى الذكاء الاصطناعي والتي من المتوقع أن تسيطر الشركات الصينية على ما يصل إلى 80% منها في السوق المحلي بحلول عام 2025. لضمان أن تسيطر الشركات الصينية، لا تقدم الحكومة دعما كبيرا فحسب، بل تضع أيضا مجموعة متنوعة من العوائق أمام المنافسة الأجنبية، فمثلا: في صناعة السيارات الكهربائية، طلبت الحكومة من شركات صناعة السيارات الصينية استخدام البطاريات المصنوعة في المصانع الصينية التي تعمل منذ أكثر من عام، مما أدى فعليا إلى القضاء على المنافسين اليابانيين والكوريين الجنوبيين.
في هذه الأثناء، دفع شي بالصين بعيدا عن التزامها التقليدي بسياسة خارجية ضعيفة مما عجّل في التحول الذي بدأه سلفه هو جين تاو. في ظل عهد شي، تسعى الصين بنشاط إلى تشكيل المعايير والمؤسسات الدولية وتؤكد وجودها بقوة على الساحة العالمية. وكما أوضح شي في كلمته في عام 2014 على نحو مبهج: يجب أن تكون الصين قادرة على "بناء ملاعب دولية" و"إنشاء قواعد" الألعاب التي يتم لعبها على هذه الملاعب (بما معناه، على الصين أن يكون لها الدور الرئيسي في تشكيل السياسات العالمية وأن يكون لها دور رئيسي على الصعيد العالمي).
https://www.facebook.com/ajmidan/videos/1724589047841860/تتمثل أكثر المناحي بروزا في هذا الجانب في مبادرة "طريق الحرير"، وهي تجسيد عصري لطريق الحرير القديم وطرق التوابل البحرية: تم إطلاق المشروع في عام 2013، ويشمل الآن ما يصل إلى 900 مشروع يتم التعاقد على أكثر من 80% من هذه المشاريع مع الشركات الصينية. لكن الجهد يذهب إلى أبعد من مجرد البنية التحتية، فمثلا في باكستان لا تتضمن الخطة خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة والسدود فحسب، بل تشمل أيضا اقتراحا لتطوير نظام مراقبة الفيديو والإنترنت على غرار الذي في بكين، إضافة إلى شراكة مع قناة تلفزيونية باكستانية لنشر محتوى إعلامي صيني. كما أعطت مبادرة "طريق الحرير" الصين فرصة للنهوض بأهدافها العسكرية، وتدير الشركات الصينية المملوكة للدولة الآن ما لا يقل عن 76 ميناء ومرفأ من 34 دولة، وتبعت الاستثمارات الصينية في الموانئ في اليونان وباكستان وسريلانكا زيارات رفيعة المستوى من سفن البحرية الصينية. كما أعلنت بكين أنها ستنشئ محاكم تحكيم خاصة لمشاريع مبادرة "طريق الحرير"، وبالتالي استخدام الخطة لتشجيع نظام قانوني بديل تدعمه القواعد الصينية.
في الواقع، تسعى الصين بشكل متزايد لتصدير قيمها السياسية في جميع أنحاء العالم: خذ مثالا على ذلك إثيوبيا والسودان، حيث تقوم لجنة مشكلات السلع بتدريب المسؤولين على كيفية إدارة الرأي العام ووسائط الإعلام وتقديم المشورة بشأن التشريعات التي يجب تمريرها واستخدام تقنيات الرصد والمراقبة. ولعل أكثر الجهود جديرة بالاهتمام هو حملة الصين لتعزيز رؤيتها الخاصة بإمكانية الإنترنت المغلقة: تحت شعار "السيادة السيبرانية"***، أصدرت بكين فكرة أنه ينبغي السماح للدول -كما أوضحت وثيقة رسمية واحدة- "اختيار مسارها الخاص للتنمية الإلكترونية، ونموذج التنظيم الإلكتروني وسياسات الإنترنت العامة". وقد دفعت إلى التفاوض حول إدارة الإنترنت التي ستعطي امتيازا للدول وتستثني ممثلين عن المجتمع المدني والقطاع الخاص، كما أنها تستضيف مؤتمرا سنويا لإقناع المسؤولين الأجانب ورجال الأعمال برؤيتها للإنترنت.
كما أن الصين تتدخل في سوقها المحلية الضخمة لإجبار الشركات على اللعب وفق قواعدها. على سبيل المثال، في عام 2017 كانت شركة آبل (Apple) مقتنعة بفتح مركز بيانات في الصين من أجل الامتثال للقواعد الجديدة التي تتطلب من الشركات الأجنبية تخزين بعض البيانات داخل الدولة (حيث من المفترض أن يكون من الأسهل مراقبتها). في العام نفسه، أزالت الشركة من متجر التطبيقات (app store) مئات البرامج التي ساعدت الأشخاص في الالتفاف حول جدار الحماية العظيم (للتمتع بالبرامج والمعلومات التي قامت الحكومة الصينية بحظرها).
ومن المفارقات، أنه بالنسبة لكل الحديث عن السيادة، فإن جزءا من السياسة الخارجية الأكثر تشددا لدى شي ينطوي على انتهاكات لا يمكن التشكيك فيها. إن معاهد كونفوشيوس الحكومية والفصول الكونفوشية الحكومية -التي تورد اللغة والثقافة الصينية في الخارج- أصبحت موضع تدقيق متزايد في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى لنشر دعاية الحزب الشيوعي الصيني، على الرغم من أنها ربما تشكل تهديدا أقل للمصالح الأميركية مما هو شائع. أما الأمر الأكثر تحديا فهو جهود الصين لتعبئة مجتمعاتها في الخارج -وخاصة الطلاب- للاحتجاج على زيارات الدالاي لاما (وهو القائد الديني الأعلى للبوذيين التبتيين) والإبلاغ عن الطلاب الصينيين في الخارج الذين لا يتبعون منهاج الحزب الشيوعي الصيني، كما تسعى الحكومة الصينية جاهدة لحث مجتمعاتها على تمثيل موقف الحكومة علانية بشأن القضايا الحساسة مثل قضيتي هونغ كونغ وتايوان.
معهد كونفوشيوس في زامبيا (مواقع التواصل)
يساهم هذا الجهد في خلق مناخ من الترهيب والخوف داخل مجتمع الطلاب الصينيين في الخارج (ناهيك عن المجتمع الجامعي الأوسع)، ويهدد بالتضييق على كل الطلاب الصينيين كممثلين للحكومة الصينية. ومن دواعي القلق الأكبر، قيام مسؤولي الأمن الصينيين في عدة مناسبات باختطاف مواطنين صينيين سابقين الذين أصبحوا مواطنين في بلدان أخرى (أي حصلوا على جنسية وإقامة في بلدان أخرى). بعد أن تم انتزاع بائع سويدي صيني من أحد القطارات في الصين واعتقاله في وقت سابق من هذا العام، كتبت صحيفة جلوبال تايمز التي تدعمها الحكومة الصينية في افتتاحيتها: "ينبغي للدول الأوروبية والولايات المتحدة أن تعلم مواطنيها الذين تم تجنيسهم حديثا بأن جواز السفر الجديد لا يمكن أن يكون تميمة لهم في الصين".
إعادة النظر في الزعيم شي
يرى العديد من المراقبين أن شي هو مصلح اقتصادي تم إحباطه من قِبَل معارضة قوية كأفضل أمل للقيادة العالمية الإيجابية، وكشخص يحظى بشعبية كبيرة بين صفوف شعبه، والتزامه بالاستقرار في السياسات الخارجية من أجل التركيز على الشؤون الداخلية لبلده. في الواقع، تفوّت هذه التقييمات أربعَ حقائق أساسية عنه.
أولا، يلعب شي في مباراة طويلة. غالبا ما يؤدي تفضيله للتحكم في المنافسة إلى ظهور سياسات تظهر دون المستوى الأمثل على المدى القصير. فمثلا: أدت مركزية سلطته في حملة مكافحة الفساد إلى إبطاء عملية صنع القرار في رأس هرم النظام السياسي الصيني، الأمر الذي أدى بدوره إلى شلل في مستويات الحكم المحلي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي. ومع ذلك، فإن هذه السياسات لها مردود طويل الأجل. تجد أن القادة الصينيين يتحملون عدم الكفاءة التي تأتي مع السياسات غير السوقية (nonmarket policies) -كاتصالات الإنترنت البطيئة أو الشركات المملوكة للدولة الخاسرة- فقط لأن هذه السياسات تعزز قوتهم السياسية الخاصة، كما توفر لهم رفاهية صناعة استثمارات إستراتيجية طويلة المدى أيضا. وهكذا تشجع الحكومة -على سبيل المثال- الشركات المملوكة للدولة على الاستثمار في الاقتصادات عالية المخاطر لدعم مبادرة "طريق الحرير" من أجل السيطرة على الرهانات في الموانئ الإستراتيجية أو وضع معايير تقنية مثل مقاييس السكك الحديدية أو أنواع نظم الملاحة عبر الأقمار الصناعية للموجة القادمة من التنمية الاقتصادية العالمية. إن القرارات التي قد تبدو غير منطقية على الفور في سياق نظام سياسي ليبرالي واقتصاد السوق غالبا ما يكون لها منطق إستراتيجي طويل الأجل داخل الصين.
ثانيا، على الرغم من كونه يضمر طموحات على الساحة العالمية، فإنه نادرا ما أبدى روحا قيادية عالمية حقيقية، بمعنى إظهار استعداد لمواءمة مصالح بلاده مع مصالح المجتمع الدولي الأوسع (أو حتى إخضاعها لها، أي تكون تابعة للمصالح الدولية). مع بعض الاستثناءات، مثلا عندما يتعلق الأمر بمساهمات الأمم المتحدة لحفظ السلام، فإن الصين تتقدم لتوفير المنافع العامة العالمية فقط عندما تفعل ذلك خدمة لمصالحها الخاصة على المدى القصير أو عندما يتم الضغط عليها للقيام بذلك. علاوة على ذلك، تسعى على نحو متزايد إلى تجاهل المعايير الموضوعة ووضع قواعدها الخاصة على الطريق. في عام 2016، عندما رفضت محكمة التحكيم الدولية الادعاءات الصينية بمساحات واسعة من بحر الصين الجنوبي، رفضت بكين ببساطة هذا الحكم واستمرت في جهود استصلاح الأراضي والعسكرة هناك.
ثالثا، جعل مركز شي للسلطة والسيطرة المتنامية على المعلومات تقييم مدى الإجماع الموجود في الصين بالفعل حول الاتجاه الذي يسلكه هو وبقية القيادة الصينية في البلاد صعبا جدا. قد يكون هناك المزيد من أصوات المعارضة ضد شي أكثر من المعروف عموما. يدور نقاش واسع في الأوساط الأكاديمية والرسمية حول مزايا العديد من سياسات النظام حتى وإن كان أقل قوة من الأوقات السابقة. وقد نقل العديد من مواطني الصين الأكثر ثراء والأكثر موهبة -الذين يشعرون بالقلق إزاء هيمنة الدولة- أموالهم وعائلاتهم إلى الخارج. أدان المحامون الصينيون وغيرهم الكثير من مبادرات شي، بما في ذلك التحرك الأخير لإلغاء الحدود الزمنية لولاية الرئيس (لولايته). حتى إن مبادرة "طريق الحرير" الخاصة به قد أثارت انتقادات من العلماء وقادة الأعمال الذين يزعمون أن العديد من الاستثمارات المقترحة ليس لها أي منطق اقتصادي.
أخيرا، ألغى شي الخط الفاصل بين السياسة الداخلية والخارجية، ربما كان هناك وقت اقتصرت فيه الآثار السياسية والاقتصادية للنظام الاستبدادي الصيني إلى حد كبير على مجتمعه الخاص. ولكن بعد أن أصبحت البلاد تصدر قيمها السياسية -في بعض الحالات لدعم قادة آخرين يميلون إلى الاستبدادية وفي حالات أخرى لتقويض القانون الدولي وتهديد سيادة الدول الأخرى- فإن نموذج الحكم في الصين هو محور ومركز سياستها الخارجية.
التحديات والاستجابة
في جوهر ثورة شي، هناك تحدٍّ قائم على القيم في وجه المعايير الدولية التي تروّج لها الولايات المتحدة. يجب على إدارة ترمب الآن أن تقدم تحديا مماثلا للصين، وهو التحدي الذي يبدأ بتأكيد قوي على المبادئ الأميركية الثابتة. وهذا لا يعني الحفاظ على وجود عسكري قوي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ فحسب، بل يعني أيضا استمرار الالتزام بالتجارة الحرة والديمقراطية. في الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة بناء جدار دفاع حصين في الداخل. ولأنها لم تعد قادرة على الاعتماد على الصين لمواصلة عملية الإصلاح والانفتاح، عليها أن تتوقف عن التضحية بأمنها الاقتصادي والسياسي. في الماضي، تحملت واشنطن درجة من سرقة الملكية الفكرية وعدم المساواة في الوصول إلى الأسواق لأنها تعتقد أن الصين تحقق بعض التقدم نحو مبادئ السوق وسيادة القانون. مع عدم وجود هذا المنطق، لا يوجد سبب يمنع الولايات المتحدة من تبني سياسات أكثر تقييدا تجاه الصين.
إن مواكبة المبادرات العديدة الجديدة لِشي ليس بالأمر السهل، ومن المغري الاستجابة لكل مبادرة بمجرد حدوثها. على سبيل المثال: في مارس/آذار، كان هنالك تقارير تفيد بأن جيبوتي -موطن القاعدة الدائمة الوحيدة للجيش الأميركي في أفريقيا- كانت تخطط لإعطاء الصين السيطرة على ميناء، دفعت هذه التقارير كبار المسؤولين الأميركيين إلى إطلاق حالة الطوارئ والضغط على جيبوتي لعكس مسارها. ومع ذلك، لم تقدم الولايات المتحدة بديلا بنّاء مثل حزمة تنمية اقتصادية. والأهم من ذلك، أنها لم تضع إستراتيجية أميركية أوسع نطاقا لمعالجة طموحات الصين في أفريقيا وأماكن أخرى تغطيها مبادرة "طريق الحرير". (كما أدّت الأحداث إلى منح جيبوتي إدارة الميناء لشركة سنغافورية). ولن يسهم مثل هذا النهج التفاعلي المجزأ في الاستجابة للتحدي طويل المدى الذي تفرضه ثورة شي. على النقيض من ذلك، رغم أنه قد يكون من المغري الرد على تغييرات شي من خلال المطالبة بأن تأتي واشنطن بإستراتيجية جديدة تماما للصين، فإن المطلوب في الواقع ليس رفضا تاما للعقود الأربعة الماضية من سياسة الولايات المتحدة، ولكن إعادة النظر بتمعن في هذه السياسة لدمج ما يعمل وإعادة تقييم ما لا يعمل
https://www.youtube.com/watch?v=1PZMIo67agkيجب أن تستند سياسة الصين الفعالة إلى إظهار قوي لالتزام الولايات المتحدة بمبادئها الخاصة. على الرغم من الدوافع الحمائية للرئيس الأميركي دونالد ترمب والثناء على الحكام المستبدين، فإن التحركات الأخيرة تشير إلى أن البيت الأبيض لم يتخلّ تماما عن التزامه بالقيم الليبرالية في آسيا. خلال رحلته إلى المنطقة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أعرب الرئيس عن دعمه لـ "منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة" وأحيا الشراكة الرباعية مع أستراليا والهند واليابان، وهي مجموعة ساكنة من ديمقراطيات المحيط الهادئ التي تشاطرها الفكر والتي يمكن أن تبدأ التصدي للعدوان الصيني في المنطقة. في الواقع، تدعو إستراتيجية الدفاع الوطني للإدارة إلى التركيز مجددا على التحالفات لمواجهة "القوى الرجعية".
كخطوة أولى مفيدة نحو الإيفاء بوعودها، يجب على الإدارة الأميركية أن توضح تفاصيل جوهر الشراكة الرباعية المجددة، وأن تحدد كيف ستعمل هذه الشراكة بالتعاون مع شركاء أميركيين آخرين في آسيا وأماكن أخرى. يركز أحد المجالات المحتملة للتعاون على القضايا الأمنية عالية الخطورة. وقد يعني ذلك القيام بعمليات مشتركة لحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، وتوفير مصادر بديلة للاستثمار للبلدان ذات الموانئ المهمة إستراتيجيا، أو دعم تايوان في مواجهة إستراتيجية الصين القسرية المتزايدة.
يجب أن يعيد ترمب أيضا فتح المناقشات حول الشراكة عبر المحيط الهادئ (أو اتفاق الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ، وهو اتفاق تجارة حرة متعدد الأطراف يهدف إلى زيادة تحرر اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادئ). على الرغم من أنه سحب الولايات المتحدة من الصفقة بعد أيام من تنصيبه، فإنه في الآونة الأخيرة أعرب عن استعداده للنظر في نسخة معدلة منه. لن تعمل الاتفاقية التي سيتم إحياؤها فقط على تعزيز الإصلاحات القائمة على السوق في البلدان ذات الاقتصاد الذي تسيطر عليه الدولة إلى حد كبير -مثل فيتنام- ولكنها ستوفر أيضا نقطة انطلاق يمكن من خلالها للولايات المتحدة تحقيق مصالحها الاقتصادية على المدى الطويل.
للتنافس مع مبادرة "طريق الحرير"، يجب على الولايات المتحدة الاعتماد على نقاط قوتها في التخطيط الحضري والتكنولوجيا. العديد من الشركات العالمية الكبرى والشركات الناشئة الأكثر ابتكارا في مجال المدن الذكية هي شركات أميركية. ينبغي لواشنطن أن تشارك مع البلدان النامية في التخطيط الحضري للمدن الذكية وأن تساعد في تمويل نشر تكنولوجيا الشركات الأميركية، تماما كما فعلت في عام 2014 عندما عملت مع الهند في برنامج طموح لترقية البنية التحتية الحضرية في ذلك البلد. يجب أن يشتمل جزء من هذا المسعى على دعم لشركات من الولايات المتحدة -أو من حلفاء الولايات المتحدة- للمساعدة في بناء كابلات الألياف البصرية والنظام العالمي لتحديد المواقع وأنظمة التجارة الإلكترونية في البلدان النامية. إن القيام بذلك من شأنه أن يقوض محاولة الصين السيطرة على جزء كبير من البنية التحتية الرقمية في العالم، الأمر الذي من شأنه أن يمنح البلد منصة عالمية للرقابة والتجسس الاقتصادي.
تؤكد مساعي الصين لتشكيل الأنظمة السياسية للدول الأخرى الحاجة إلى أن تدعم إدارة ترمب المؤسسات الأميركية التي تشجع التحرر السياسي في الخارج، مثل الصندوق الوطني للديمقراطية، والمعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني، ومؤسسة آسيا. يمكن لهذه المؤسسات أن تتشارك مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية -إلى جانب حلفاء أوروبيين- للمساعدة في بناء سيادة القانون في الدول شبه السلطوية ودعم الديمقراطيات الناشئة. يمكن أن توفر برامج الإصلاح القانوني والتربوي والهيكلي حصنا بالغ الأهمية ضد الجهود الصينية الرامية إلى وضع قيم استبدادية في الخارج.
بالطبع، القوة خارج البلاد تبدأ بالقوة في الداخل. إن رغبة الصين في إخضاع مصالحها الاقتصادية على المدى القصير لتحقيق مكاسب إستراتيجية طويلة الأمد تعني أنه يجب على واشنطن أن تضاعف استثماراتها في العلوم والتكنولوجيا، وأن تدعم الجامعات والمختبرات الوطنية التي تعمل كمنبع للابتكار الأميركي، وتموّل تطوير ونشر التقنيات الجديدة من قبل الشركات الأميركية. دون هذا الدعم، لن تكون الشركات الأميركية متشابهة مع الشركات الصينية الممولة تمويلا أفضل والمدعومة برؤية بكين طويلة الأجل.
إن الصين متلهفة لتقييد الفرص أمام الغرباء للحد من مواصلة مصالحهم السياسية والاقتصادية داخل حدودها، حتى مع تقدم الصين نفسها بمصالحها الخاصة خارج حدودها. وبناء على ذلك، فقد حان الوقت لكي تلقي إدارة ترمب نظرة جديدة على فكرة المعاملة بالمثل، ومعاملة الصين مثلما تعامل الصين بدورها الولايات المتحدة. لطالما اعتبر صناع السياسة في الولايات المتحدة أن مبدأ المعاملة بالمثل هو أحد الاقتراحات الخاسرة التي تضر بها العلاقات مع الصين دون تغيير سلوكها. وبدلا من ذلك، تصرفوا على افتراض أنه إذا بقيت الولايات المتحدة متمسكة بقيمها الديمقراطية وتبين كيف يبدو السلوك المسؤول، فإن الصين ستتبع في النهاية زمام المبادرة. لقد قلب شي هذا الفهم رأسا على عقب لأنه توقف عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي بدأت في عهد دنغ وفي بعض الحالات عكسها، وحوّل انفتاح الولايات المتحدة إلى نقطة ضعف.
يمكن أن تأخذ المعاملة بالمثل عدة أشكال: في بعض الحالات، يجب أن تكون العقوبة خفيفة نسبيا. فمثلا، يمكن لإدارة ترمب منع الصين من إنشاء معاهد كونفوشيوس والفصول الكونفوشية الحكومية إضافية في الولايات المتحدة ما لم تسمح الصين بمزيد من المراكز الأميركية للتبادل الثقافي، وهي منظمات تمولها الحكومة الأميركية في حرم الجامعات الصينية. حاليا، هناك أقل من 30 مركزا من هذا القبيل في الصين وأكثر من مئة معهد كونفوشيوس وأكثر من 500 فصل كونفوشي حكومي (تدعمه الحكومة الصينية) في الولايات المتحدة. يمكن للجامعات الأميركية من جانبها أن ترفض استضافة معاهد كونفوشيوس أو إقامة شراكات أخرى مع المؤسسات الصينية إذا تم حظر أي عضو من أعضاء هيئة التدريس بها من السفر إلى الصين، وهو عقاب كانت بكين تلجأ إليه في كثير من الأحيان للباحثين النقديين.
https://www.youtube.com/watch?v=l4sEn91tkE0يجب على واشنطن أيضا أن تفكر في تقييد الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة في المجالات التي تكون خارج نطاق الشركات الأميركية في الصين مثل الاتصالات والنقل والبناء والإعلام. قد يأخذ ذلك شكل الحد من الحصص الصينية في الشركات الأميركية إلى المستوى نفسه الذي تسمح به بكين للشركات الأجنبية في الشركات الصينية. وبشكل أكثر استفزازية، يمكن للولايات المتحدة أن تدعم بشكل ضمني أو صريح جهود دول آسيوية أخرى لعسكرة الجزر في بحر الصين الجنوبي في محاولة لرفع التكاليف على الصين للقيام بالمثل. لا يجب أن تكون المعاملة بالمثل غاية في حد ذاتها. في الواقع، من الناحية المثالية فإن العمل المتبادل بالمثل (أو حتى مجرد تهديد واحد) من شأنه أن يجلب الصين إلى طاولة المفاوضات حيث يمكن التوصل إلى نتيجة أفضل.
في الوقت الذي يطرح فيه شي تحديات جديدة للولايات المتحدة، فإنه يقدم أيضا فرصة جديدة متميزة: فرصة لواشنطن بأن تجعله مسؤولا علنا عن ادعائه بأن الصين مستعدة لتحمل قيادة عالمية أكبر. في عام 2014، حققت إدارة أوباما بعض النجاح في الاستفادة من طموحات شي عندما ضغطت على الصين لاعتماد قيود على انبعاثاتها الكربونية وزيادة حجم المساعدات التي قدمتها للبلدان الأفريقية التي ضربتها أزمة إيبولا. وبالمثل، نجحت إدارة ترمب في دفع الصين إلى تبني عقوبات أكثر صرامة لمحاولة كبح جماح البرنامج النووي لكوريا الشمالية. يجب اتباع المزيد من هذه التحركات: ينبغي للإدارة الأميركية أن تدعو الصين إلى لعب دور أكبر في معالجة أزمة اللاجئين العالمية، وخاصة الجزء الذي يحدث في الفناء الخلفي للبلاد على الحدود مع ميانمار، فر أكثر من 650 ألف لاجئ من الأقلية العرقية الروهينجا إلى بنغلاديش ساحقة هذا البلد الفقير. عرضت الصين أن تعمل كوسيط بين البلدين، لكنها منعت قرار مجلس الأمن الدولي بتعيين مبعوث خاص إلى ميانمار، كما قللت من أهمية المخاوف إزاء معاناة الروهينجا مع التركيز بشكل أكبر على حماية مشاريع مبادرة "طريق الحرير" من العنف القائم في ميانمار. يجب على الولايات المتحدة والجهات الأخرى أن تقول ذلك بصوت عال وواضح: يرافق تولي القيادة العالمية مسؤولية عالمية أكبر.
هل سوف ينجح شي؟
هل ثورة الصين الثالثة لها سلطة البقاء؟ إن التاريخ بالتأكيد ليس إلى جانب شي. على الرغم من إضعاف المؤسسات الديمقراطية في بعض أجزاء العالم، فإن جميع الاقتصادات الرئيسية -باستثناء الصين- تابعة لدول ديمقراطية. ومن الممكن رسم مسارات محتملة للانتقال الديمقراطي الصيني كما قام العديد من العلماء. أحد الطرق يمر بأزمة اقتصادية يمكن أن تؤدي إلى طلب التغيير. يظهر اقتصاد الصين علامات التوتر، حيث ارتفعت ديون الأسر والشركات والحكومات الصينية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. يجادل بعض الاقتصاديين الصينيين بأن البلاد تواجه تحديا كبيرا من سرعة شيخوخة السكان ونظام المعاشات التقاعدية الذي يعاني نقصا كبيرا في التمويل، إلى جانب انخفاض معدل المواليد باستمرار حتى بعد نهاية سياسة الطفل الواحد.
من الممكن أيضا تصور أن شي يمكن أن يتخطى الحدود: في الداخل، انتشر الاستياء من سياساته القمعية داخل أجزاء كبيرة من المجتمعات التجارية والفكرية في الصين. وقد تضاعف عدد الاحتجاجات العمالية خلال فترة ولايته. علاوة على ذلك، البلاد لا تخلو من أنصار الديمقراطية، على الرغم من أنه غالبا ما يتم نسيانهم في البيئة السياسية الحالية في الصين. وقد تحدث جميع العلماء البارزون والنشطاء والصحفيون والمسؤولون المتقاعدون ورجال الأعمال الأثرياء لصالح الإصلاح الديمقراطي في الماضي القريب. وفي الوقت نفسه، أدى تحرُّك شي إلى إلغاء الحدود الزمنية لولاية الرئيس إلى إثارة جدل كبير داخل الدوائر السياسية العليا. وكما اعترف مسؤولون صينيون للصحافة، فقد كانت هناك محاولات انقلاب واغتيال ضد شي.
في الخارج، واجهت جهود بكين العدوانية لتوسيع نفوذها ردود فعل متكررة. في العام الماضي فقط، اندلعت احتجاجات واسعة ضد الاستثمارات الصينية في بنغلاديش وكازاخستان وكينيا وسريلانكا. وفي الوقت الذي تمضي فيه الصين قدما في سياستها الخارجية الأكثر طموحا، فإن مثل هذه الحالات ستنشأ بلا شك، مما يزيد من احتمال أن يُنظر إلى شي على أنه فشل في الخارج، مما يقوض سلطته في الداخل.
مع ذلك، هناك أدلة قاهرة على أن ثورة شي معرضة لخطر الانتكاس: لقد أكسبته العديد من إنجازاته دعما شعبيا واسع النطاق. لقد نجا من الأزمات السابقة، مثل انهيار سوق الأسهم الرئيسية في عام 2015، وفي المؤتمر الحزبي التاسع عشر، تم تعزيز سلطته الشخصية والتغييرات المتعلقة بالولاية فقط. في المستقبل المنظور، سيتعيّن على الولايات المتحدة التعامل مع الصين كما هي: دولة غير ليبرالية تسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي على صورتها. والخبر السار هو أن شي جعل من نيّاته الثورية واضحة، لا يوجد عذر الآن لعدم رد الولايات المتحدة بشروط لا لبس فيها.
----------------------------------------------------
الهوامش
*المطرقة والمنجل رمز شيوعي تم ابتكاره خلال الثورة الروسية. وترمز المطرقة إلى العمال الصناعيين والمنجل إلى الفلاحين، وتشكلان إلى جانب بعضهما تحالف العمال والفلاحين من أجل الاشتراكية.
**البيومترية أو علم المقاييس الحيوية هو علم التحقق من شخصية الإنسان عن طريق مكونات الأجسام البشرية لأنه يضم وسائل التعرف علي الهوية للأشخاص تلقائيا على أساس الصفات الشكلية والفسيولوجية والتشريحية الخاصة بكل شخص.
***السيادة السيبرانية عبارة تُستخدم في مجال حوكمة الإنترنت لوصف رغبة الحكومات في ممارسة السيطرة على الإنترنت داخل الحدود الوطنية التابعة لهذه الحكومات، ويتضمن ذلك النشاطات السياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية.