خرافة أهمية السعودية للاقتصاد الأمريكي
ملف اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول مازال يتفاعل سياسيا واقتصاديا، ويخلّف الكثير من القضايا التي تعتبر دالة للغاية، ولكنها تعرف الكثير من التغليط، كما هو الشأن في المبالغة في الوزن الاقتصادي للسعودية في العالم، خاصة في صفقات الأسلحة، وكأن سوق السلاح العالمي سينهار بدونها.
تناسلت المقالات في الصحافة الدولية والعربية حول حجم مشتريات السعودية من السلاح، وجرى تقديمها على أساس أنها الزبون الرئيسي الذي بدونه سيشهد سوق السلاح كسادا عالميا. وكانت الدهشة كبيرة عند تقديم قناة غربية باللغة العربية خلال الأيام الماضية معطيات تقول بتصدير الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قرابة 40 مليار دولار سنويا من السلاح للسعودية. وما يغذي مثل هذه الأخبار التي يمكن تصنيفها بأخبار «فيك نيوز»، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه، بحديثه عن صفقات ضخمة بمئات المليارات من الدولارات، علاوة على حديثه عن أهمية الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة.
والواقع أن أغلبية الأخبار هذه الأيام حول صفقات الأسلحة هي عبارة عن «فيك نيوز» بامتياز في مقالات في الإنترنت، ويقف وراء أغلبها الرئيس ترامب، ضمن استراتيجية إنقاذ ولي العهد محمد بن سلمان من أي ملاحقة قانونية، بسبب تورطه المفترض في عملية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، أي يحاول تبرير استبعاد كل ملاحقة بأهمية العلاقات الاقتصادية مع السعودية.
الحديث عن أهمية السعودية للاقتصاد الأمريكي الآن مجرد خرافة للتغطية على جريمة مقتل خاشقجي
ويمكن الاستعانة بمقال لـ»نيوزويك» في نسختها الرقمية هذه الأيام، الذي يصنف ترامب بأكبر كذاب في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، ولعل آخر أكاذيب ترامب ادعاؤه بوجود إرهابيين من الشرق الأوسط ضمن قافلة مهاجرين أمريكا اللاتينية التي تتجه نحو الحدود الأمريكية عبر المكسيك، بحثا عن العيش الكريم. ويمكن استحضار كذبة كبيرة، وهي ادعاؤه بحصول عمل إرهابي في السويد خلال شهر فبراير/شباط من السنة الماضية، وتفاجأ العالم بمستوى التغليط الذي يمارسه الرئيس، الأمر الذي جعل وزارة الخارجية السويدية تطالبه بتوضيحات حول الاعتداء الإرهابي المفترض، ليكون جوابه أنه استنتج ذلك من تقرير لقناة التلفزيون «فوكس نيوز» حول اللاجئين في السويد.
خلال أزمة الاغتيال هذه، يجري تقديم السعودية كنقطة ارتكاز للاقتصاد العالمي وسوق الأسلحة عموما، وكأن معاقبتها على ارتكاب قتل خاشقجي سيطيح بالاقتصاد العالمي، لكن الأرقام الحقيقية تفّنذ هذه الفرضية الكاذبة، بل وتفّنذ فرضية أهمية السعودية للاقتصاد الأمريكي. في هذا الصدد، لا يتجاوز الناتج الإجمالي للعربية السعودية 700 مليار دولار سنويا، وهو أقل من نصف الناتج الإجمالي لدولة غربية متوسطة مثل إسبانيا، ونصف الناتج الإجمالي لدولة مثل كوريا الجنوبية، ويبقى بعيدا عن دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا. ويبقى ثقلها في المبادلات التجارية الدولية دون باقي الدول الغربية المتوسطة مثل إسبانيا.
وعلاقة بالولايات المتحدة، يبقى المثير في الأمر أنه مقابل حديث ترامب عن صفقات تجارية ضخمة مع السعودية، فقد حصل العكس منذ مجيئه، إذ تراجع التبادل التجاري خلال السنة الأولى من ولايته، وكان التبادل التجاري سنة 2016 هو 37 مليار دولار، أما سنة 2017 لم يتجاوز 35 مليار دولار، ومرشح للتراجع سنة 2018 بحوالي 5 مليارات دولار، لأن الولايات المتحدة لم تعد تستورد النفط السعودي إلا القليل جدا. وهذه الأرقام تجعل تصريحات ترامب محل تساؤل عريض.
في الوقت ذاته، تبقى الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة متوسطة، أو دون المتوسط، إذا جرت مقارنتها بدول أخرى، أو إذا تمت مقارنتها بالأخبار المغلوطة التي تنشرها الصحافة. وطيلة السنوات الماضية لم تحتل السعودية المراكز السبعة الأولى، بل ولا العاشرة في الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة، التي تعود دائما الى بريطانيا واليابان ولكسمبورغ وسويسرا والمانيا وكندا وفرنسا. بينما توجد تقارير دقيقة حول الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، لا توجد تقارير دقيقة حول الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة، الأمر الذي يترك الباب مفتوحا لإعطاء أرقام خيالية.
ويبقى الغموض الكبير الذي يفسح المجال للكثير من التأويلات المغلوطة، هو سوق السلاح وصفقات الأسلحة. اعتمادا على أهم الوثائق الدقيقة حول مبيعات الأسلحة في العالم، توجد التقارير الصادرة عن «مصلحة الكونغرس للدراسات» أو «مصلحة الكونغرس للبحث»، وهو جهاز مرتبط بالكونغرس الأمريكي، وتعتبر تقاريره ذات مستوى عال جدا. وفي تقرير لهذه المصلحة صدر منذ سنة حول مبيعات الأسلحة في العالم ما بين 2008 الى 2015، يبرز أن العربية السعودية اقتنت ما قيمته 30 مليار دولار من الأسلحة، أكثر من 16 مليار دولار من الولايات المتحدة و11 مليارا و400 مليون دولار من دول أوروبا الغربية ومليار و600 مليون دولار من أوروبا الشرقية، ومليار و300 مليون دولار من الصين. وهذا يعني اقتناء هذا البلد ما قيمته 4 مليارات و200 مليون دولار سنويا، واقتنت من الولايات المتحدة مليارين و300 مليون دولار سنويا. وهذه الأرقام تهم الأسلحة التي جرى تسليمها فعليا إلى الجيش السعودي، وليس الحديث عن صفقات جرى التوقيع عليها ولم تنفذ. ويدخل في هذه الميزانية الأسلحة والتدريب والصيانة وكذلك العمولات التي كان يحصل عليها الأمراء، وشكلت فضائح كبيرة في الكثير من المناسبات.
عندما نراجع ترسانة الأسلحة السعودية، سنجد أن أكبر الصفقات عقدت منذ سنوات، وتعلق الأمر بطائرات أف 15. وبعدها، لم تتوصل السعودية بأسلحة متطورة، بل بأسلحة محدودة وأساسا الذخيرة لاستعمالها في حرب اليمن. لم تقتن لا طائرات أف 22، ولا أف 35، ولا منظومة التاد للصواريخ التي طلبتها، ورفض البنتاغون بيعها إياها ولا حاملات طائرات ولا قنابل نووية، فمن أين يأتي ترامب بهذه الأرقام. ونتساءل جميعا، لو كانت السعودية تشتري سنويا أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات لما احتاجت إلى الولايات المتحدة لتوفير الحماية لها، ولكانت قد انتصرت في حرب اليمن في أسابيع.
عندما يتحدث دونالد ترامب عن مبيعات الأسلحة للسعودية، تذكروا أنه لم يقدم ولو صفقة واحدة مكتملة لكي يصادق عليها الكونغرس، بل مجرد وعود. وكانت افتتاحية لـ»الواشنطن بوست» منذ عشرة أيام قد طالبته بتقديم عقود الصفقات التي يتحدث عنها. وتذكروا جميعا أنه تحدث عن وقوع عملية إرهابية خلال فبراير من السنة الماضية في السويد، وكذب على العالم بأكمله، فمن سيمنعه من الكذب في صفقات تجارية لم تحصل.
الحديث عن أهمية السعودية للاقتصاد الأمريكي الآن هو مجرد خرافة سواء في التبادل التجاري أو صفقات الأسلحة، والهدف من المبالغة هو التغطية على جريمة مقتل خاشقجي. أهمية السعودية تكمن في أسعار النفط فقط. ولنحتفظ بهذه الأرقام، التبادل التجاري السعودي- الأمريكي يشكل أقل من 1% من مجموع التجارة الخارجية الأمريكية التي تصل الى 3953 مليار دولار سنة 2017، ومشتريات السعودية من الأسلحة الأمريكية لا تتجاوز سنويا وفي أحسن الحالات 0.1% من مجموع صادرات الولايات المتحدة.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»