خرافة الكرامة العربية!
اغتبطت لاستشهاد القاضي رائد زعيتر بأيدي الكلاب الصهاينة على معبر "الكرامة" وغبطت الرجل، فأنا أفرح لكل مسلم يستشهد، وأكاد أشكر قاتله لأنه أراحه من قرف حياتنا الدنيا وذلها، وأتاح له الفرصة كي يتمرغ في نعيم جنان الخلد في عليين، بدلا من أن يظل يعاني التصبح والتمسي بسحنات بغيضة تسد عين الشمس ولا يملك المرء إلا أن يتكدر برؤيتها أينما التفت في دنيا العربان.
لكني، وبصراحة شديدة، لم أفهم سبب الغضبة التي أبداها كثير من الناس لاستشهاد الرجل، بل إنني رأيتها غضبة مفتعلة تماما من جانب الكثيرين ، وبخاصة أنها اقترنت كما لاحظت بكلمات فقدت كل معنى لها في قواميس حياة العرب منذ زمن بعيد، وأبرزها كلمة "الكرامة"! فالعربي صاحب الكرامة هو مجرد خرافة تتواضع أمامها خرافات ألف ليلة وليلة، ولا يوجد عربي يعيش على ظهر البسيطة اليوم ويتمتع حقاً بالكرامة، باستثناء قلة قليلة مهددة بالانقراض، رفضت العيش تحت مظلة الضيم والعبودية والامتهان، ويحاول أوغاد الشرق والغرب تصفيتها بكل ما أوتوا من قوة!
هو كلام قاس وجارح، والناس يفضلون سماع كلام يريحهم ويخفف عنهم، حتى وإن كانوا يعرفون كذبه، لكن الطريقة الوحيدة لخروج المرء مما هو فيه من انحطاط، هي البدء بالتوقف عن الكذب على الذات، أو ربما خداعها، فأكثر الناس يظهرون وكأنهم لا يدركون فيما يبدو أنهم يكذبون على أنفسهم، فقد كذبوا الكذبة وصدقوها مع الوقت! استشهد الرجل، وبكلمات وصفية حيادية: قتل بدم بارد على يد مغتصب صهيوني، فأين الغريب في ذلك، ولماذا شعر كثير منا بحرقة في كرامته المزعومة! فعملياً، ومن الثابت الذي لا يمكن دحضه، قامت "إسرائيل" بانتزاع آخر قطرة كرامة من عروقنا عندما ارتضينا أن نسمح لها باغتصاب أراضينا ومقدساتنا، دون أن نفعل شيئا مجديا على مدار اكثر من ستين سنة، باستثناء الثرثرة الفارغة للتنفيس، وانهمكنا في المقابل في مشاغل حيواتنا التافهة، نأكل ونشرب ونتناسل كالدواب، أو أضل سبيلا، ونتنافس كالوحوش على الدنيا ومتاعها، تحت مظلة الدراسة والعمل وتربية العيال، فعن أي كرامة نتحدث !؟
كنا منذ فجر التاريخ عبيدا نخضع لإمبراطوريات التسلط، فمن الله علينا بدين انتشلنا من الذل إلى العزة، وجعلنا سادة الأرض نتبوأ منها حيث نشاء، حتى انحنت لنا صاغرة هامات قدت من الغرور والكبر. لكننا لم نلبث طويلا حتى استبد بنا الحنين إلى عهود العبودية والوضاعة والضآلة، فتخلينا عن ذلك الدين، بأن شوهناه شر تشويه، وأحلناه إلى مجرد طقوش شكلية باهتة، هي أقرب إلى العادات والتقاليد الاحتفالية التي نستحضرها في المناسبات! نسينا الله فأنسانا أنفسنا وتوكلنا على غيره فوكلنا إلى أنفسنا الأمارة بالسوء وإلى شرار خلقه.
ومن دفاتر ذاكرتنا محونا تلك الآية التي تقول: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين". فبات اسم الله مجرد لوحة مغبرة نعلقها على جدران غرفنا للديكور، واصبحت حياة نبيه مجرد أنشودة نطرب على أنغامها أيام احتفالات وزارات الأوقاف المنافقة، وتحول الجهاد إلى إرهاب ندينه ونجرم المنادين به كأعداء للسلام والإسلام!
سكتنا على حكام الجور والبغي والتخلف والخيانة والعمالة، وصرنا قطعان لهم، بل وتحولنا إلى مطبلين ومزمرين نسبح بحمدهم والثناء عليهم والإشادة بعبقريتهم وانجازاتهم التاريخية الجبارة الفذة، وهم أفشل الفاشلين.
وفي أحسن الأحوال، وكي نريح ضمائرنا الميتة ونقنع أنفسنا بأننا أدينا واجبنا، قمنا بإشاء أحزاب معارضة ورقية هشة، كي تساعدنا على الضحك على العوام والسذج وإقناعهم بأننا نناضل ونقاوم، وكي تساعد أسيادنا من حكام الشؤم على التجمل والكذب على العالم والزعم بأنهم يقيمون للحرية والتعددية واختلاف الآراء وزنا!
هنيئا للشهيد رائد زعيتر، ولمن سيشفع لهم، والشهيد على أي حال لن يكون أول أو آخر من سيضيع دمه هدراً، فالملايين من أبناء أمتنا البائسة أزهقت أرواحهم دون ثمن، ودون أن يجدوا من يقتص لهم، ولن يختلف الأمر كثيراً مهما اختلفت هوية القاتل، فمن قضوا على يد عصابات الاستبداد العربية المتسلطة على حياتنا هم أكثر بكثير ممن سقطوا على يد الغرب أو الصهاينة.
مع رجاء أخير حار بأن يتم العمل الفوري من جانب المعنيين على تغيير اسم ذلك المعبر الذي شهد حادثة استشهاد الرجل، من "معبر الكرامة" إلى "معبر الندامة"، مع أن الإبقاء على الاسم قد يكون مفيدا لصحتنا النفسية، كآلية من آليات التعويض عن كرامتنا التي اغتصبت وسلبت، وما يزال البعض يتفجع لفقدها!