جردة أوّلية لعهد محمود عباس
لندن – كتب ماجد كيالي*:
تبوأ محمود عباس مكانة الرجل الثاني في التاريخ الفلسطيني المعاصر، بعد ياسر عرفات، الذي ترأس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لمدة 35 عاماً (1969-2004)، وتزعمّ حركة «فتح» لأربعة عقود، وترأّس السلطة الفلسطينية لعشر سنوات، في حين ترأس أبو مازن الكيانات الثلاثة لـ14 عاماً، بحيث أنه مكث في رئاسة السلطة أكثر من خلفه الراحل. أيضاً، قد يجدر التذكير بأنه الرجل الذي تصدّر مفاوضات «أوسلو» السريّة، وهو الشريك عن الطرف الفلسطيني في التوقيع مع إسرائيل على الاتفاق المجحف المتمخّض عنها في البيت الأبيض الأمريكي (1993)، الأمر الذي أفضى إلى إقامة السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع (1994)، كسلطة حكم ذاتي انتقالي.
بيد أن محمود عباس (أبو مازن) عرف، إضافة إلى ما تقدم، ليس فقط بالخروج عن نسق سلفه، الزعيم الراحل ياسر عرفات، برمزيته، وشعبويته، وحسّ المغامرة لديه، وطريقته غير المتوقّعة في العمل، وإنما، أيضاً، بنقده له، إذ كان أتى كأول رئيس لحكومة السلطة بفضل الضغوط الأميركية، التي اضطرّ عرفات للرضوخ لها، إبان الانتفاضة الثانية، لكنه بقي في ذلك المنصب لأربعة أشهر فقط (نيسان/ أبريل، ايلول/ سبتمبر 2003)، إذ اضطر إلى تقديم استقالته، بسبب التحريض عليه من قبل الزعيم الفلسطيني، الذي كان وقتها محاصراً في مقره في رام الله، ويخشى تقليص صلاحياته، أو ظهور بديل له، وقد شرح محمود عباس، بذاته، في كتاب استقالته، وبمشاعر مريرة، الأسباب التي حملته على ذلك (راجع مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 56، 2003).
في أي حال فإن انتقادات الرئيس أبو مازن للزعيم الراحل أبو عمار كانت في معظمها محقة، فهو، مثلاً، انتقد القيادة الفردية، لمصلحة القيادة الجماعية، واعترض على تجميع الرئاسات الثلاث في شخص واحد، أي رئاستي المنظمة والسلطة وقيادة حركة «فتح»، كما انتقد بشدة الفوضى في العمل الفلسطيني، وضمن ذلك في اتخاذ القرارات وفوضى العمل المسلح، بل انه بنتيجة كل ذلك اضطر للاعتكاف في البيت، إلى حين مغادرة ياسر عرفات الأراضي الفلسطينية، في رحلته الأخيرة للعلاج في فرنسا (أواخر 2004).
بعد ذلك يحسب للرجل أنه خاض الانتخابات الرئاسية ببرنامج واضح وصريح، أي من دون مواربة، مع مواقف تؤكد على خيار المفاوضات، والابتعاد عن الكفاح المسلح، والقبول بالتسوية في إطار دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، حيث فاز وقتها (2005) بنسبة 62 في المئة من أصوات الناخبين. كما يحسب له حسمه القرار بشأن تنظيم انتخابات تشريعية (2006)، تأكيداً للديموقراطية، على رغم كل التحذيرات ومطالبات التأجيل، من داخل حركته «فتح»، والتي نتج عنها انحسار نفوذ «فتح»، وصعود «حماس،» في المشهد الفلسطيني.
في المقابل، يؤخذ على محمود عباس أنه نكص عن الانتقادات ذاتها التي كان وجهها إلى ياسر عرفات، إذ إنه احتل، أيضاً، المناصب القيادية الثلاثة، كرئيس للمنظمة والسلطة وكقائد لـ»فتح»، واستمر على نهج القيادة الفردية، وبات مصدراً لكل السلطات والقرارات والخيارات، وحتى في إصراره على الانتخابات كوسيلة ديموقراطية لإدارة السلطة، بدا متحفظاً على التسليم بنتائجها بعد فوز "حماس".
فوق كل ذلك ففي عهده تراجعت مكانة «فتح» كثيراً، بعد أن استمرأت دورها كحزب للسلطة، إذ خسرت في معركة الانتخابات (كما اسلفنا)، وفقدت اجماعاتها السياسية، ومكانتها المرجعية، وروحها كحركة نضالية، إن بالنسبة للفتحاويين أو بالنسبة للفصائل، كما بالنسبة لعموم الفلسطينيين، وباختصار فإنه لم ينجح في استنهاض «فتح»، او تعزيز مكانتها، رغم عقده مؤتمرين (2009 و2016)، كانا بمثابة مهرجانين الغرض منهما تعزيز شرعية القيادة، وليس اجراء مراجعة نقدية للتجربة الماضية. وعلى الصعيد الوطني العام، فإن منظمة التحرير تعرّضت في عهد أبو مازن (2005 حتى الآن)، إلى تهميش كبير، بحيث أضحت تابعة للسلطة وليس العكس، بعد أن باتت السلطة بمثابة مركز ثقل العمل الفلسطيني. وتبعاً لذلك فإن القيادة الفلسطينية بدت وكأنها حصرت ولايتها بفلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، بحيث أضحى اللاجئون الفلسطينيون، في الخارج، يشعرون وكأنهم باتوا مكشوفين. وبخصوص الهيئات القيادية الشرعية، ففي هذا العهد أي طوال 14 عاماً، فقد عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورتي اجتماعات له (2009 و2018)، فقط، بمعدل دورة كل سبعة أعوام، لكن من دون أن يفضيا إلى اي شيء سوى ترميم عضوية اللجنة التنفيذية، وإصدار بعض القرارات التي تحال إلى تقدير اللجنة التنفيذية، أي إلى مزاج الرئيس.
أما في عهد ياسر عرفات (1969 - 2004)، أي طوال 35 عاماً، فقد تم عقد 17 دورة اجتماعات (1969- 1996)، من الدورة الخامسة إلى الدورة 21، بمعدل دورة كل عامين، أي أن طابع ياسر عرفات الفردي لم يطمس دور تلك الهيئة التشريعية، وحافظ على طابعها كمؤسسة قيادية وجمعية، الأمر الذي لم تجر مراعاته في عهد ابو مازن. وبالنسبة إلى اجتماعات المجلس المركزي (تأسس في العام 1985) فقد باتت تعقد بحسب الطلب، والظرف السياسي، الذي يتناسب مع ما يريده الرئيس، وكل ذلك من أسباب ضعف النظام السياسي الفلسطيني، ومن تعبيرات تآكل وفوات الكيانات الفلسطينية، بحيث عقد في عهد ابو مازن 12 دورة (من الدورة 18 لعام 2007 إلى الدورة 30 لعام 2018)، كأن الغرض التعويض عن تغييب المجلس الوطني.
أما السلطة الفلسطينية فقد ظهرت وكأنها بمثابة سلطة حكم ذاتي، وكسلطة تتعايش مع الاحتلال، وفوق ذلك فقد حصل انقسام كيان السلطة (2007)، بين سلطتين حيث «فتح» في الضفة و «حماس» في غزة، كنتيجة لانحسار شعبية «فتح»، وخسارتها الانتخابات التشريعية، وصعود «حماس»، بحيث بات الفلسطينيون إزاء سلطتين، ومرجعيتين، وما فاقم الأمر العزوف عن اجراء انتخابات، وبالتالي ظهور مشكلة الشرعية، للرئيس والمجلس التشريعي منذ عام 2009، أي منذ قرابة عشرة أعوام، علماً أنه لم يتم تمكين المجلس التشريعي من القيام بدوره لأن أكثريته من «حماس».
ولعل أهم ملمح في عهد الرئيس محمود عباس هو تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة، في أرض محتلة، أي تحت سلطة الاحتلال، بكل ما في ذلك من تبعات وارتهانات ومشكلات، وضمن ذلك التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، وكذلك تحويل تمثيلها أو تركيزه، من الناحية العملية والوظيفية والإدارية، على فلسطينيي 67 بدلاً من تمثيل كل الشعب الفلسطيني، بحيث باتت مجتمعات اللاجئين في ضياع ومكشوفة إزاء سياسات تمييزية واقتلاعية في عديد من البلدان العربية.
وللإنصاف، فمع ان كل ذلك جرى التأسيس له في عهد الزعيم الراحل ياسر عرفات، وما كان ليتم من دونه، إلا أنه في عهد الرئيس أبو مازن بات أمراً واقعاً، وطريقاً أحادياً، وثقافة سياسية، في حين أن عرفات اعتمد ذلك في إطار فهمه للمزاوجة بين الطريقين، أي المفاوضة والانتفاضة، والتسوية والمقاومة، وطريق القبول بالوقائع والمراهنة على تغييرها.
عدا كل ذلك، ومن دون أن يكون ذي صلة به مباشرة، فإن التحولات العربية والإقليمية والدولية العاصفة، التي حدثت في مرحلة الرئيس محمود عباس، أدت إلى تهميش القضية الفلسطينية، وإزاحتها من جدول الأعمال العربي والدولي، وما فاقم الأمر نشوء مسار من التطبيع العربي مع إسرائيل من دون استجابتها لحقوق الفلسطينيين، وظهور الولايات المتحدة، على حقيقتها، كمدافع عن السياسات الإسرائيلية الاحتلالية والعنصرية، وضمن ذلك اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وحضها على تصفية قضية اللاجئين، والتراجع عن اعترافها بمنظمة التحرير، وقبولها الاستيطان في أراضي الضفة.
المشكلة أن الرئيس أبو مازن إزاء كل تلك التحولات والتحديات لم يشتغل إلى الدرجة اللازمة، ولا بالطريقة المناسبة، لاستنهاض حركته «فتح»، ولتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، ولاستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، الأهم من ذلك بدا الشعب الفلسطيني وكأنه بات بمثابة «شعوب» متعددة بأولويات مختلفة وبمرجعيات متعددة.
على ذلك يخشى أنه لم يعد للرئيس أبو مازن ما يفعله، إذ إن الشيء الوحيد الذي بإمكانه فعله، هو إعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس جديدة، وطنية ومؤسسية وديمقراطية، وبناء على دروس تجربة عمرها نصف قرن.