كريس باتِن*
طوكيو - متى كانت آخر مرة جلست فيها لتسطر خطابا؟ لا أعني هنا رسالة بريد إلكتروني أو رسالة نصية، كما لا أقصد رسالة موجهة لآلة أو مساعد شخصي. كلا، بل أعني خطاباً تقليديا من ذلك النوع القديم الذي يُفتتح بعبارات مثل "عزيزي دونالد" أو "عزيزتي هيلاري".
مناسبة سؤالي هي أن نحو 65 ألف شخص كانوا يكتبون بالفعل خطابات من هذا النوع لباراك أوباما كل أسبوع حينما كان رئيسا للولايات المتحدة. وبحسب تحقيق صحفي نُشر مؤخرا في صحيفة الغارديان البريطانية، فقد اعتاد فريق من موظفي البيت الأبيض انتقاء عشرة خطابات يومياً لتمريرها إلى الرئيس، الذي كان يرد عليها بنفسه في مساء نفس اليوم.
هل كان هذا الروتين الليلي مضيعة لوقت أقوى رئيس في العالم؟ قد يعتقد المرء أنه كان من الأجدى أن يقرأ أوباما تقارير موجزة عن السياسات الخاصة بسورية أو الخاصة بتنفيذ إصلاح الرعاية الصحية. ولا شك أنه كان يقرأ مثل هذه التقارير أيضاً. لكنني أظن أنه أدرك قيمة الحفاظ على لقاء يومي مع الناخبين. كان هذا الطقس بمثابة حل جزئي لمشكلة جذرية يواجهها كل القادة السياسيين وهي: البقاء على صلة بالعالم الحقيقي.
لو نظرنا الآن إلى حال دونالد ترامب، لوجدنا أنه محاط بأناس يخبرونه بأن العالم على الصورة التي يعتقد أنه عليها حقا، لا كما هو في الواقع، وإن كنت أستثني من هؤلاء قلة محترمة مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس. يُعَد هذا النوع من التطوع بتأكيد أوهام الرئيس أمرا ضروريا وواجبا من منظور المتملقين في حاشية ترامب. وينطبق الأمر ذاته على من يعملون في "فوكس نيوز"، التي دأبت على إخبار جمهورها بما يريد ترامب سماعه حرفيا.
ولكن، حتى هؤلاء القادة الذين يميلون لأن يكونوا أشبه بأوباما من ترامب يجدون صعوبة بالتأكيد في إطلاع أنفسهم على كل ما يجري. ولذلك، فإن التصرف المثالي هنا هو أن يكون لدى رؤساء الدول فرق من الموظفين العموميين المخصصين لهذا الغرض لضمان استناد صناعة القرارات السياسية إلى فهم كامل لسياقها وتبعاتها. وبوسع القادة في أي بلد ديمقراطي، بل من الواجب عليهم غالباً، اتباع مسارات عمل تنطوي على شيء من المخاطرة، ولكن لا ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك إلا بعد النظر في كل الحقائق.
ثمة مشكلة أخرى وهي أنه كلما طال بقاء القادة في السلطة، قل تقبلهم للانتقاد وإخبارهم بأنهم على خطأ، حيث يعمل طول العمر السياسي على توليد المداهنة والتملق. وقد شهدت هذا بنفسي مع رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر، التي كانت تقرأ التقارير الموجزة عن السياسات وتحيط بخبايا معظم القضايا. وقد بلغت ثاتشر أوج نجاحها عندما كانت تسمح بالاعتراض على حدسها وقراءتها للأمور. ولكن، مع تطاول عهدها بالسلطة، تنامى لديها شعور بالتسليم بأنها تعرف أفضل من الجميع.
في النهاية، تسببت هذه العزلة المعرفية في طي صفحتها إلى الأبد. وعلى الرغم من ما كانت تتمتع به من إحاطة قوية بالقضايا المتعلقة بمستوى المعيشة، فقد أخفقت في إدراك أثر فرض ضريبة جديدة عن كل رأس على ميزانيات الأسر. وكان هذا ما أسقطها في النهاية، وليس الجدال المتغطرس بشأن مكانة بريطانيا في أوروبا كما يشار غالباً.
إضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع مطالب المساءلة البرلمانية ليس كالاختلاط بالناخبين، إذ يستطيع المرء إتقان كل الحيل السياسية للمهنة لتجاوز المداولات والاستجوابات البرلمانية التي تعقدها اللجان. وفي حال ما إذا كنت وزيرا، فستكون لديك بالفعل معرفة أكبر بمجال تخصصك من أي محاور محتمل. لكن التحدي الحقيقي يأتي عندما تلتقي الناخبين من أبناء دائرتك.
مما يحسب للنظام الانتخابي البريطاني أنه يؤسس على الأقل لعلاقة مباشرة بشكل أو بآخر بين أعضاء البرلمان وناخبيهم، حيث يمثل كل عضو مدينة أو ضاحية أو نطاقاً ريفياً، ونجد معظم الأعضاء يعودون إلى دوائرهم كل أسبوع كي يستمعوا إلى الناخبين ويعقدون معهم الجلسات المعروفة بجراحات الدائرة الانتخابية أو اللقاءات الفردية. ويأتي الناس في هذه المناسبات عادة لمناقشة مشاكل الإسكان، أو استحقاقات الضمان الاجتماعي، أو القضايا التعليمية، وقد يقتصر الأمر على الرغبة في التذمر من بعض القضايا القومية المثيرة للجدال.
كعضو سابق في البرلمان، أتذكر أوقاتاً تمكنت فيها بسهولة من إقناع البرلمان بأنني محق بشأن قرار ما يتعلق بسياسة معينة، ليتبين لي بعدها مباشرة من خلال اللقاءات المباشرة مع أبناء دائرتي بأنني لم أكن ذكياً بالقدر الذي ظننته. فعندما ينهار شخص ما باكياً بينما تحاول توضيح أثر قرارك على حياته، فإن ذلك يدعوك إلى التفكير مرتين في القضية.
لم يكن أوباما بحاجة إلى مجموعات نقاش بؤرية لتخبره بمدى معاناة المواطنين الأميركيين العاديين في تسديد الفواتير الطبية وحرمانهم من العلاج من الأمراض الموجودة بالفعل قبل دخولهم تحت مظلة التأمين الصحي، فقد كان يعرف ذلك من خطاباتهم، التي قام بوضع بعض منها في إطار وعلقها على حائطه.
لا عجب إذن أن لا تمثل الرعاية الصحية قضية كبرى في انتخابات التجديد النصفي الأميركية هذا العام. وربما تبعث نتائج هذه الانتخابات برسالة إلى ترامب، فقد يتلقى سلسلة من هزائم الجمهوريين في الكونغرس، وليس خطاباً تقليدياً. وإن أراد عزاء أو سلوى، فيمكنه أن يبحث عنه على فوكس نيوز، التي لن تحمله وزر أي شيء.
*آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ، ومفوض الاتحاد الأوروبي السابق للشؤون الخارجية. يعمل مستشاراً لجامعة أوكسفورد.